في ثالثة أوراقه الايرانية، التي تنشرها (وجهات نظر) حصرياً، يعرض الاستاذ الدكتور عبدالستار الراوي الصراع الدائر بين الجامعة والحوزة في إيران، بعد العام 1979، بما يمثله ذلك من صراع بين تيارين ورؤيتين ومنهجين ليس في التعليم فحسب، بل في الحياة بشكل عام.
أوراق إيرانية
الحوزة والجامعة .. صراع الازمنة
عبدالستار الراوي
صراع الأضداد:
- مصطلح استخدمه الباحث حسان عبد الله في دراسته القيمة عن ماهية الصراع التاريخي بين الديني والمدني ... هذه الثنائية ألقت بظلالها على واقع "الحوزة والجامعة" أصبحت الحوزات في المجتمع الإيراني منذ العهد الصفوي تتمتع بحضور قوي؛ نظرًا لامتيازاتها الدينية والاجتماعية، وفي نفس الوقت مكانًا للمقاومة الفكرية والفقهية ضد محاولات الاستعمار والتغريب، وكانت مدرسة الفنون (1851) والتي افتتحها ناصر الدين شاه في عهد الدولة القاجارية (1779 – 1924) أولى المواجهات بين العلماء ورجال الدين في إيران؛ حيث اهتمت هذه المدرسة بتدريس المواد العلمية مثل: الرياضيات والهندسة والطب والجراحة، والمعادن، والعلوم العسكرية على النسق الأوروبي في حين أهملت بصورة تامة تدريس المواد الشرعية، ومن هنا بدأ تكوين النظرة الثنائية للتعليم في المجتمع الإيراني بين الحوزة (التعليم الديني) والمؤسسة المدنية (التعليم العصري)، وزادت هذه المواجهة في عهد الدولة البهلوية (1924 – 1979) التي ناصبت الحوزة العداء وقلصت دورها، وسحبت منها القضاء والتعليم، وتوسع الشاه في بناء المدارس المدنية لمجابهة المدارس الدينية، خاصة المدارس الابتدائية والثانوية، وظهرت نزعة الشاه التغريبية في البعثات التعليمية التي كان يرسلها إلى أوروبا، ثم توفير مناصب لهؤلاء الطلاب في المؤسسة التعليمية.
|
مقر الحوزة العلمية في مدينة قم |
- حاول الشاه مجابهة النزعة الدينية في إيران، والتي كانت تقودها مدارس الحوزة فأصدر مجموعة من القرارات أهمها: فرض الملابس العصرية على رجال الدين خاصة القبعة البهلوية، ومنع الزي التقليدي لرجال الدين إلا بإذن رسمي، كما قلص المدارس الدينية، وألغى بعض المناسبات الدينية، وأصدر مرسومًا ملكيًّا في يناير 1935م بتحريم الحجاب على المرأة في إيران، وحظره على التلميذات والمعلمات في أثناء الدرس!.
- أما الجامعة الوطنية فهي مأوى المستنيرين العائدين من الخارج، والفروع الجامعية الخاصة بالتقنية والصناعة والميكانيك (كليات العلوم الصناعية) لا تخرج في النهاية سوى حرفيين جيدين للصناعات الغربية، ولا أثر فيها للبحوث العلمية الحديثة، أو الاكتشافات والاختراعات، ولا حلول للمشكلات القائمة، ولا أي شيء آخر ... ليس هناك سوى مصلحي ومشغلي الماكينات والصناعات الغربية.
|
مدخل جامعة طهران |
ثنائية الخلاف
رجل الدين والمثقف، المحراب والحرم الجامعي، إفلاطون وأرسطو.. ثنائيات مشتبكة، رجل الحوزة المنكب على استذكار أسفار ملا صدرا الشيرازي الأربعة، في رحلة البحث الطويلة عن الحكمة المتعالية في أفق لا متناهٍ من التأملات، وتلامذة جامعيون يكتشفون الهوة الفاصلة بين التشيع الصفوي التجزيئي المتدثر بالذرائع العائمة، وبين التشيع الوحدوي الإنساني الذي دعا إليه العلامة السيد هبة الله الحسيني، والدكتور الراحل السيد موسى الموسوي في رسالته العقلانية المعروفة بـ(رسالة التصحيح) والباحث الشجاع أحمد الكاتب: والسيد محمد الحسيني ، الذين أجمعوا على إعلاء منازل العقل والحرية والإنسانية، وتجاوز الأحكام المغلقة والخلافات الفرعية، وجعل أصلي التوحيد والعدل معيارا مشتركاً بين المسلمين، لإستعادة نضارة الإسلام الجليل، إسلام بلا مذاهب، قاعدته، الفطرة السليمة واستقامة السلوك وحسن النوايا، يعيد العقل النقدي قراءة أوراق الإمام الغزالي في فضيلة الحوار الخلاق بين المختلفين، ويلتقط معنى الدين والحرية من صحائف واصل بن عطاء والشيخ المستنير محسن كديور، إلى جوار كوكبة من النجوم الزاهرة في تراثنا العربي الإسلامي.. يقفون سوياً على خط الإنسان المؤمن بالتنزيل الحكيم وبجمالية الحياة وبحرية الإنسان، فيما يقف دعاة الفرقة ومنظرو الفتنة في الضفة الأخرى يحاولون بفتاواهم السود إطفاء أنوار العقل.. وها هو الشيخ مصباح يزدي ملوحاً بمطرقة التكفير، جاعلاً من نظرية ولاية الفقيه السياسية، أصلاً سادساً من أصول الدين، لا يكف عن تكفير من لا يسلم بما جاء بها أو يحاول الاعتراض عليها.
ثنائية الديني والمدني، اللاهوت الحوزوي في مقابل الناسوت الاكاديمي، المثاليات الميتافيزيائية تصطدم بواقعيات الزمان الصلبة، بنادق الحرس الثوري، والعقل النقدي.. الخلاف كان في البدء والمنتهى يتركز حول وطأة الأزمنة، فتتناءى المناهج و تضطرب الرؤى، صراعات تكرس الماضي في صورة الحاضر، وحاضر ينتقل بلا روية إلى القرن الأول، فراراً من الواقع الأليم.. وآن قائم لكنه محاصر بفتاوى التحريم، والغد الذي بات ضرباً من الأحلام.. في عالمين يبدوان متباعدين، زاد من تنافرهما يوم أن قفزت الحوزة على السلطة، فجعلت من العمامة تاجاً للدولة لتغدو إرهاباً فكرياً ضد المفكرين والمثقفين وأصحاب الكلمة.. بعد أن أصبح الفقيه حاكما أبدياً أوحد، صاحب الأمر والنهي، المحتكر للسلطة الزمنية والحقيقة الإلهية، المدجج بسلاح فتاك من الفتاوى القاطعة..
كانت الحرية في زحمة الصراع الحوزوي الأكاديمي، هي الحلقة الذهبية الغائبة، لم يعد لها من أثر أو وجود في الحياة السياسية إلا في حوزة طبقة رجال الدين، وبين أوساط المحافظين بصفتهم أصحاب الحل والعقد، ولكي يكون مواطن ما حراً يجب عليه أولا أن يؤدي فرض الولاء والانتماء لولاية الفقيه إيماناً وإحتساباً، عقيدة وسلوكاً، طائعاً لأوامر المرشد مطبقاً لوصاياه، ومن دون ذلك لن يتذوق ثمرة الحرية، أو يصيب نصيباً من الحقوق المدنية الأخرى.
الصورة الانطباعية
الصورة الانطباعية المتبادلة في إيران بين رجل الدين والمثقف، الحوزوي والأكاديمي، تشبه إلى حد بعيد رسوم الكاريكتير، كل طرف منهما حاول سلفاً أن يصمم لخصمه شكلاً ساخراً أودع فيه ما يدخره من انطباعات ذميمة، فالمدني/ الأفندي/ المثقف يرى في رجل الدين السياسي صورة كائن مخاتل يختبئ وراء نصوص من الحكمة البالغة والموعظة الحسنة، لكن عباءة الورع والتقوى، غالباً ما يسقط وقارها، عند أول فرصة دنيوية تتاح له في اقتناص الطريدة. يتحول على إثرها المتعبد قائم الليل، الزاهد في الدنيا، إلى منازعة الآخرين على الاسلاب والعنائم، وهذا ما حدث عشية ثورة 1979، فهو وحده لا غيره من استأثر لنفسه بنتائجها، لذلك يعتقد المثقف بأن رجل الدين اغتصب السلطة، وهو في رأيه نموذج السلطان المتجبر، الذي أعاد إنتاج الحاكم المستبد، المتسلط على رقاب رعاياه (الشعب) بإسم الدين وبقوة مركزه الروحي، فزعم أنه القائم بالأمر على شؤون الحياة بجميع مواردها الحاضرة وما وراءها، بحوزته مفاتيح الدنيا، والقابض على أسرار الآخرة، وأوهم بسطاء الناس وأوحى للكثيرين من الطيبين، أن من كراماته الربانية مايعين على رفع الآثام وغفران الذنوب، وفي مقدوره أيضاً أن يمنح بركاته لمن شاء، في مضاعفة الحسنات وإعلاء الدرجات، فيدخل الجنة هذا ويلقي بآخر في السعير.
أما صورة المثقف لدى رجل الدين السياسي، فإنه يأخذ عليه التدخل في الأمور الشرعية، والتطفل في أمور دينية لا تعنيه، نحو إقحام نفسه في المسائل الفقهية، بمعنى: إن المثقف حين يدعو إلى فصل الدين عن السياسة، فهو بذلك يدعو بوضوح إلى عدم تدخل الدين ورجالاته في السياسة، لكن المثقف نفسه يبيح لنفسه التدخل في الشؤون الدينية التي تعد من الأمور الفقهية الخاصة التي لا يستطيع المثقف فهم تفاصيلها كما هو الحال مع المختصين بها من علماء ورجال دين.
إن ظاهرة تدخل المثقفين بما لا يدخل ضمن اختصاصهم هو أمر غير صحيح ولا ينم عن وعي تام بالوظائف المناطة بشرائح المجتمع ومكوناته، نعم هناك طبقة أطباء، وأخرى للكادر التعليمي ومثلها للعمال وأخرى للفلاحين، وغيرها، ترى هل يقبل المثقف للفلاح أن يتدخل بشؤون الثقافة وإدارتها؟.
لذلك من باب أولى أن يقبل المثقفون عدم التدخل في شؤون غيرهم، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالعلوم والفقهيات وما شابه، فالدين له رجاله المختصون به، يعرفون خفاياه وتفاصيله وتعاليمه واجتهاداته مما لا يعرفه المثقف لأنه خارج اختصاصه، ولهذا لا ينبغي له أن يحشر نفسه في أمور لا ينجح فيها بسبب عدم عائديتها له علميا، مثلما يطالب المثقفون رجال الدين خاصة بعدم التدخل في السياسة.
وقبل هذا وذاك، فالاكاديمي الإيراني، يمثل صورة المغترب عن التراث الروحي وعن ثقافة بلده، فالحرية التي ينادي بها طلبة الجامعة، حرية غربية مشوهة، لا تستقيم في معانيها ولا في مظاهرها مع فلسفة النظام، وهي النقيضة لعادات المجتمع وتقاليده.
وتستمر المساجلات بين الفريقين، المدني يحظر على رجل الدين التحدث في السياسة أو التدخل في الشأن العام، ويقصر دوره على الوعظ وإسداء النصح والإرشاد، وإن تجربة السلطة الدينية، عبر ثلاثة عقود من تاريخ إيران، قدمت برهاناً ساطعاً على دكتاتورية الطبقة اللاهوتية، ومنجزاتها كلها كانت مزيداً من الفقر والشقاء والظلم، وإن جميع ما لدى هذه السلطة المتجبرة هو حشد هائل من برامج فضفاضة أثبتت السنوات الثلاثون عقمها على كل مستوى وصعيد.
وقائع الصراع:
يقول المثقفون في معرض نقدهم السياسي اللاذع للسلطة الدينية إن (العمامة) التي لعبت أدواراً سياسية في تاريخ إيران السياسي كانت شراً مستطيراً ، في معظم المواقف المصيرية التي واجهت البلاد. ويسرد المثقفون عددا من الوقائع التاريخية والراهنة من بينها ؛
1- الإنقسام الذي تسبب فيه رجال الدين في صفوف الحركة الوطنية ونال من وحدتها ، حين إنفرط عقد الحوزة وإنشطرت مواقفها حيال الثورة الدستورية (1905) بين فريقين:
الفريق الأول مثل التيار الثيوقراطي المتشدد الذي طالب الحكومة القاجارية بإلغاء الدستور والانتقال الفوري من (المشروطة الدستورية) إلى (المشروعة الدينية) بعبارة أخرى: التحول من النظام السياسي المدني، إلى الحكم الديني. وبهذا الموقف أحدث رجال الدين المتشددون شرخاً في جبهة المعارضة كاد أن يفضي إلى إفراغ ثورة 1905 من مضامينها الديمقراطية، في وقت كان الدستور يعد من أعظم منجزات الشعب الإيراني في العقد الأول من القرن العشرين، وكان آية الله فضل الله نوري أعلن في رسالة له: (إن المشروطة والمساواة والحرية لا يجمعها جامع مع الإسلام، وإن على هؤلاء الحضرات أن يدركوا بأن المملكة الإسلامية سوف لا تدين بالمشروطة، لأنه من المحال أن يقر الإسلام بالمساواة). وتذرع منظرو المشروطة الشرعية بدعوى أن "المشروطة الدستورية تعني عدم الاحترام للأمام الحسين!!"، وإن "كل من يلعن المشروطة مائة وسبعين مرة، فإن الله سوف يغفر له آثامه!!". وأفتى أحد المجتهدين في ذلك الزمان، ويدعى السيد علي السيستاني، بأن "المشروطة كفر والمشروطة طلب كافر، ماله يباح ودمه يهدر..".
وعلى النقيض من المنهج الثيوقراطي المتزمت في المرحلة الدستورية الملتهبة، كان الفريق الآخر من رجال الدين المتنورين أمثال آية الله التبريزي وآية الله أبادي وآية الله الخونساري البهبهاني والطباطبائي والنائیني وآخوند خراساني، الذين انضموا إلى جبهة الثوار المدنية، ودافعوا عن المشروطة. فآية الله العظمى الشيخ محمد حسين النائيني وقف ضد الاستبداد وخاصة الديني منه، وربط بين الاستبداد والجهل، وامتد هذا الجدل الساخن أيضاً إلى العراق وانقسم رجال الدين بين "المشروعة" وبين "المشروطة"، وكفر من كفر وأبعد من أبعد عن منابر المساجد بسبب مناصرته للمشروطة..
ومهما يكن من أمر فقد أفضى المطلب الحوزوي المتشدد تالياً إلى انفراط وحدة المجتمع، وتفكك جبهة المعارضة، وتبعثر قواها بسبب تعدد الأمزجة والمنابر والاتجاهات، فانقلبت الصورة النضالية رأساً على عقب، وأفضى المتغير الحوزوي إلى دراما من الصراعات طويلة الأمد بين (المدنى) و(الديني)، وكان بداية التقاطع بين طرفى الحركة الوطنية، مما أدى إلى تفكك المواقف وتباعد الرؤى، ونال من وحدة الحركة الوطنية الديمقراطية المناوئة للأسرة القاجارية.
2- شكلت الخلافات الفقهية والسياسية حول الموقف من الثورة الدستورية ومن الديمقراطية عنواناً كبيراً بين محورين: المتغير النسبي والثابت الوثوقي، بعبارة أخرى: بين العقلانية النقدية وبين المثالية المتعالية، وترتب على هذين الموقفين المتعارضين إعادة تنظيم واصطفاف القوى الوطنية الذي كان من أخطر نتائجه تأسيس أوليات الصراع الذي سيحتفظ بحراكه السياسي وتناقضاته الصارمة إلى أمد بعيد، وسيظهر مجدداً كأحدى العثرات التي وضعها الفريق الحوزوي المتزمت أمام الثورة المدنية عام 1953، بقيادة مصدق الذي أمم النفط الإيراني، ولإنجاز هذه المهمة الكبرى، كان على مصدق أن يتحالف مع القوى الوطنية كلها لمجابهة ضغوطات الشاه من الداخل وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية من الخارج.
|
الدكتور محمد مصدَّق |
كانت إصلاحات مصدق الديمقراطية تضرب في الأساس الشمولي لحكم الشاه، كما أن تأميمه للنفط مثل ضربة كبيرة لمصالح إنجلترا وواشنطن. وعلى الرغم من الشعبية الطاغية التي كانت لمصدق بين الإيرانيين من الطبقات والشرائح الدنيا والمتوسطة تحديداً، فأن المؤسسة الدينية ناصبت الرجل الوطني العداء، بسبب إعلانه اعتزامه وضع خطة للإصلاح الزراعي وتحديد الملكية الزراعية لإعادة التوازن العادل إلى الخريطة الاجتماعية في إيران، وحشد مشروع التغيير عداء إنكليزياً وأمريكياً غير مسبوق للزعيم الإيراني وحكومته الوطنية، وأفتت المجموعة المتشددة من رجال الدين الإيرانيين بأن "مصدق معاد للإسلام والشريعة" بسبب سياسات الإصلاح الزراعي التي طبقها ولتحالفه مع كتل اليسار والليبراليين، وفي هذه اللحظة المصيرية من تاريخ الحركة الوطنية انسحب آية الله كاشاني عن التحالف مع مصدق فاتحاً الطريق أمام خصوم الزعيم في الداخل والخارج للنيل منه، وكان كاشاني رشح نفسه رئيساً للمجلس النيابي، واتهم كتلة مصدق بأنها تقف ضد توليه المنصب، في حين اتهمه أنصار مصدق بتهمة "بيع القضية الوطنية" لمصلحة الشاه، وبعد نجاح الانقلاب كان محمود ابن آية الله أبي القاسم كاشاني، ثاني الخطباء في الراديو الإيراني لتأييد الانقلاب على مصدق ومباركته!!.
3- بعد أن اختطف رجال الدين ثورة 1979 تجدد الصراع أيديولوجياً وسياسياً بين الحوزة والجامعة، وتعمقت الهوة بين الطرفين، وعبرت عن نفسها بأعلى مستويات الصدام وأشدها قوة، انتفاضة جامعة طهران في تموز- يوليو 1999، رفع الطلبة خلالها شعار الحد من دكتاتورية طبقة رجال الدين، وطالبوا أيضا بتمكين السيد محمد خاتمي (رئيس الجمهورية) من المضي في مشروعه الإصلاحي..
4- عندما رفض الشارع الإيراني نتائج الانتخابات الرئاسية العاشرة 2009، شهر رجال الدين السلاح بوجه المدنيين الغاضبين بحجة الدفاع عن الثورة؟!! في وقت كان الشعب قد خرج بجميع شرائحه وطبقاته احتجاجا على عدم شرعية الولاية الرئاسية الثانية لمحمود أحمدي نجاد، وإن النتائج من وجهة نظر الشارع مزورة وجرى تدبيرها سلفاً لحساب التيار اللاهوتي المحافظ، وطبقا لذلك قاد الشباب وطلبة الجامعات انتفاضة حزيران – يونيو 2009 تحت أعلام الثورة الخضراء، وكانت النتيجة تأجيج جبهة المواجهة بين التيار المدني الشعبي وبين السلطة الدينية المدججة بمليشيات حزب الله والباسيج وبنادق الحرس الثوري، وهي العلامة الفارقة الكبرى، بما تركته من شكوك وما خلفته من ضحايا بين جناحي الثورة المدني والديني، وألقت بظلالها القاسية على واقع التجربة السياسية لولاية الفقيه ومستقبلها.
5- وبرز الصدام العنيف بين أبناء الثورة أنفسهم في حوادث فبراير عام 2011 - فبعد مرور أقل من سنتين على ثورة صيف 2009 الدامية، وبمناسبة الاحتفاء بالذكرى الثانية والثلاثين للثورة، نهض الطلبة مرة أخرى.. ولكن سرعان ما أجهض الحرس الثوري الحركة وسحق رؤوسها بكل قسوة، وصرح مكتب انتصار الوحدة الطلابي، بأن إجراءات الحكومة الوحشية ضد الحركة الاحتجاجية، وما رافقها من فتاوى تكفير المتظاهرين التي أطلقها مصباح يزدي، من شأن هذه الأساليب الفاشية، أن تغلق إلى الأبد فرصة عودة الثورة إلى أبنائها، وهو ما يجعل جبهة النضال المدني تتسع في جميع أنحاء البلاد لتضم إليها الشعب الإيراني كله. ومن هنا فإن صدامات فبراير أفرزت تياراً جديداً مناهضاً لقيادة الفقيه يطالب بإنهاء الحكم الثيوقراطي.. ويسعى إلى النضال السلمي من أجل قيام تجربة مدنية تحترم مواطنيها وتتعهد بتشريع دستور تكون كرامة الإنسان وحرية التعبير مادته القانونية الأولى..
موقف حكام الولاية:
لعل قادة الجمهورية الدينية أدركوا منذ البداية حجم المعضلة التي تواجه (التجربة) وأبعادها إذ حاول كل من خامنئي ورفسنجاني أن يضعوا علاجاً أو يجدوا منفذاً إزاء المأزق الذي يواجه –الدولة الدينية– إلا إن مساعيهم لم تزد عن (الوعظ والإرشاد)، وأحياناً اللجوء إلى استخدام عبارات التهديد حيال الجامعيين، الذين وصفوا بأنهم يسعون إلى التمرد على النظام الإلهي.
وصية الخميني:
كرس الخميني الكثير من خطبه لهذا الموضوع، إذ عدّ موضوع الفصل بين الجامعة والحوزة ـمؤامرة- ولم يكتف بذلك، بل آثر أن يخصص جزءاً من (وصيته) للحديث عن ضرورة وحدة المؤسستين، لكن (الكيد الشيطاني) حسب قول المرشد هو الذي يوقع العداء بين (طلائع الأمة المثقفة وبين علماء الأمة ودعاة رسالتها)..
وبهذا يكون الخميني اختزل (الصراع) بين الجامعة والحوزة، اختزالاً عجيباً، وبدل أن يحلل ماهيته، أو يصل الأسباب بمسبباتها، فإنه ألقى باللائمة على (الكيد الشيطاني)، وعد الأمر محض (فتنة) "حاول المستكبرون وأعداء الإسلام زرعها في كيان الأمة الواحدة"
(.. فان وصيتى إلى هذا الجيل والأجيال القادمة أن لا يغفلوا وليبرم الجامعيون والشباب الراشدون الأعزاء عقد المحبة والتفاهم مع الروحانيين وطلاب العلوم الإسلامية ولا يغفلوا عن الخطط والمؤامرات الشيطانية الغادرة وبمجرد أن يروا شخصاً أو أشخاصاً يبذرون النفاق بينهم - بقولهم وفعلهم - فليرشدوهم ولينصحوهم، وإن لم يؤثر ذلك، فليعرضوا عنهم ويعزلوهم، ولا يدعوا المؤامرة تمتد وتتجذر، فإن مصدر النبع يمكن التحكم فيه بسهولة وخصوصاً، إذا وجد بين الأساتذة شخص يريد إيجاد الانحراف.. فليرشدوه، وإن لم يستجب فليطردوه من بينهم ومن قاعة التدريس، وهذه التوصية موجهة بنسبة أكبر إلى الروحانيين وطلاب العلوم الدينية(.
يوم التآخي (وحدة الحوزة والجامعة):
1- اليوم الأول من ديسمبر يوم وحدة الحوزة والجامعة، وكان ذلك عقب نجاح الثورة بعام واحد تقريبًا، وألقى الخميني خطابًا في هذا اليوم 1 -12- 1980 أكد فيه ضرورة إزالة المخاوف الحوزوية، وأن تنهض بمسئولياتها الواقعية لأنْ تخرج المفكرين الملتزمين، وإنّ الجامعة التي تقرن الدراسات والبحوث بالتربية والالتزام قادرة على أن تقود الدولة والمجتمع نحو السعادة، والحوزات العلمية الملتزمة تستطيع أن تنقذ البلاد، فالعلم وحده لا نفع فيه، بل قد ينطوي على أضرار!".
2- أنشئ مركز بحوث الحوزة والجامعة عام 1982 بقرار من الخميني؛ حيث وجه إليه اهتمامه بصورة مباشرة، وكان اسمه آنذاك معهد بحوث الحوزة والجامعة (دفتر همـﮕاري حوزة ودانشـﮕاه).
والهدف الأساسي لإنشائه هو تحقيق المساهمة الفكرية والعلمية في مسألة أسلمة الجامعات، وذلك عن طريق تعاون علمي بين الحوزويين والجامعيين، وبدأ بخمسة أقسام أساسية للبحث والتأليف وهي: الاقتصاد وعلم الاجتماع والحقوق والعلوم السياسية وعلم النفس والعلوم التربوية.
3- ولتعزيز التقارب بين المؤسستين صدرت مجلة "حوزة ودانشـﮕاه" (الحوزة والجامعة) 1994، والتي تضمنت إشكالات العلاقة بين الحوزة والجامعة، وأبرز المحاور الخلافية، والجدل الدائر حول الوحدة والتقارب.
وصدر عن مركز بحوث الحوزة والجامعة عدة مؤلفات في هذا الميدان، وتم تأسيس أقسام أخرى هي: العلوم القرآنية والإدارة والتاريخ، وفي عام 1999 أصبح المجلس تحت رعاية القائد الأعلى (المرشد)، ومسئولية المجلس الأعلى لشورى الحوزة العلمية في قم ووزارة العلوم والبحث العلمي.
كما تم إضافة قسم آخر وهو قسم الفلسفة والكلام.
4- في عام 2003م تم تغيير اسم المعهد إلى "مؤسسه ﭙزوهشي حوزة ودانشـﮕاه" "مؤسسة بحوث الحوزة والجامعة"، وتم افتتاح قسمين آخرين هما: مركز بحوث العلوم الإنسانية والاجتماعية "مؤسسة ﭙزوهشي حوزة ودانشـﮕاه " "مؤسسة ﭙزوهشي حوزة ودانشـﮕاه"، ومركز بحوث الحكمة وتاريخ الأديان، كما أصدرت المؤسسة مجلة "التربية الإسلامية والبحوث الاقتصادية"، أما التقسيم الحالي للمؤسسة فيتضمن مراكز البحوث التالية:
- العلوم الاجتماعية والعلوم التربوية وعلم النفس.
- التاريخ والفلسفة والأديان.
- الاقتصاد والإدارة والحقوق.
5- على الرغم من المحاولات التي قامت بها الثورة الإسلامية والتي هدفت إلى إزالة الفجوة التاريخية بين الحوزويين والجامعيين وتحقيق قدر من التقارب بينهما إلا أن الواقع يؤكد لنا أن هذه الفجوة لا زالت موجودة، ولم يتم القضاء عليها بعد.
يتضح من خلال المشهد الحوزوي والجامعي أن هناك اتجاهين أساسيين فيما يتعلق بمسألة تقارب التعليم الديني والمدني (الحوزة والجامعة):
الاتجاه الأول: يعارض هذه الدعوة ويمثله عدد من الجامعيين وأبرزهم عبد الكريم سروش، ويرى أنه ثمة متناقضات تحول دون تحقيق هذه الوحدة، أو التقارب وأهمها:
1- أنه لا يمكن نقد أسس العلوم الحوزوية، بينما العلوم الجامعية تقبل النقد.
2- استيلاء الحوزة على السلطة "ولاية الفقيه".
3- اختلاف خطاب التعليم في الحوزة عن خطاب التعليم في الجامعة.
4- اختلاف طبيعة المعرفة في الحوزة عن طبيعة المعرفة في الجامعة.
5- التباعد بين آليات ومنهجيات البحث في كل من الحوزة والجامعة.
6- تباين لغة التعليم في الحوزة عن الجامعة.
أما الاتجاه الثاني: فهو مؤيد لهذه الدعوة؛ لأنه هو الذي أطلقها، ويمثله علماء الحوزة العلمية، ويرون إمكانية تحقيق هذه الوحدة برغم التباينات بين الحوزة والجامعة؛ لأن "الوحدة لا تكون بين العلوم، وإنما بين الرؤى والأسس الفكرية، فالجامعيون الذين يدرسون العلوم التجريبية يؤمنون بسلسلة من المحاور العقائدية التي يمكن من خلالها إقامة الوحدة بين هاتين المؤسستين العلميتين.
7- أخذ الحوزويون منذ فترة الالتفات إلى ضرورة الحصول على درجات الماجستير والدكتوراه من الجامعة، وذلك للتمكن من الوجود في الجامعة بشكل رسمي أو بمعنى أدق يبعد شبهة المحاباة.
وكان من نتائج ذلك أن وجد الأستاذ "الحوزوي الجامعي" وهو بذلك يتفوق على قرينه الجامعي؛ لأنه حصَّل العلوم الدينية والدنيوية معًا، فهو إذًا يمتلك الحقيقة الدينية والعلمية؛ لذلك لا نجد غرابة في أن يتولى رئاسة أقدم وأكبر جامعة في إيران، وهي جامعة طهران، شخص معمم.
كما أن تفوق الأستاذ "الحوزوي الجامعي" ليس على المستوى النظري أو العلمي فحسب، بل إن ذلك أوجد طبقتين من الأساتذة داخل الجامعة:
الأولى: الأساتذة الحوزويون الجامعيون، الذين يحصلون على رعاية كاملة من النظام والمسئولين.
والطبقة الثانية: الأساتذة الجامعيون، وهم في المرتبة الأقل لدى النظام، من حيث الاهتمام والثقة.
8- مسعى النظام إلى تحقيق الاندماج بين اللاهوت والناسوت–تعدى الاطار الاكاديمي إلى الميادين المهنية ، فأنت تلحظ شخصية جديدة في المجتمع الإيراني مثل رجل الدين الصحفي، ورجل الدين المدير العام، ورجل الدين منفذ البرامج التليفزيونية ... وهكذا؛ مما ساعد في ترسيخ حالة الانفصال الموجودة في المجتمع.
الخاتمة:
الخلافات القائمة بين الجامعة واللاهوت السياسي تحمل سببياتها الموضوعية والإنسانية أكثر من كونها وجهات نظر ذاتية، أو أنها ملاسنات تعود الناس على سماعها من لدن الفريقين، إنها تشكل نسيجاً متواصلاً من الصراعات السياسية تحت ضغط نظام سياسي ذي بعد واحد، يحتكر الحقيقة والسلطة معاً، ولا يرى لاي طرف من خارج عالمه اللاهوتي الحق حزبا أو كيانا أو جماعة تشاركه في الحكم، رجل الدين سايكولوجياً موهوم بالوصاية على الآخرين، لذلك يتقلد الصفة الأبوية في إحكام سيطرته على المجتمع، فالشعب الذي جرد من حق اختيار شكل النظام ومن حق اختيار فلسفة الحكم، هو في شرح ولاية الفقيه وتفسيرها، كما الطفل الصغير يحتاج إلى رعاية الفقيه، ومن هنا فإن التدافع على المشاركة في السلطة أو في العملية السياسية من جهة القوى الأخرى، يعد من وجهة نظر رجل الدين السياسي تخط لحق الولي الفقيه، وهو بالضرورة تجاوز على نيابته الإلهية والنبوية ولآل البيت النبوي، فالنيابة الدينية المطلقة لا مكان لغير الروحاني في قيادتها وتولي أمرها ولذلك فإن القوى المدنية لن تتوقف عن مطالباتها.. وفي المقابل لن تتردد الطبقة الثيوقراطية الحاكمة عن فتح نيرانها في وجه كل من يحاول أن يفتح باباً أو نافذة للحرية في حجرة اللاهوت المظلمة.