كما وعدناكم، أعزائي القراء، هنا، بأننا سنكشف حقائق مهمة نردُّ بها على إدعاءات الخادم الوفي لنظام حسني مبارك، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، ننشر اليوم تفاصيل ذلك، في جزئه الأول.
ملاحظة مهمة:
تعميماً للفائدة، وحتى يطلع القارئ الكريم، مباشرة، على أوليات حديث السيد موسى، فإننا ننشر في أدناه نص الحلقة الثالثة من الحوار، مؤشراً عليها، باللون الأصفر، الفقرات التي سندحضها في كلام السيد الأمين العام السابق.
هذه حقيقة مقابلة عمرو موسى للرئيس الشهيد صدام حسين في بغداد عام 2002.
كيف تمَّت الزيارة؟
وماهي أولياتها؟
وماذا حصل فيها؟
ولماذا يُشكِّك السيد موسى بنوايا العراق في علاقته مع مصر قبل عام 1990؟
رداً على مزاعم عمرو موسى حول الحكم الوطني في العراق 1
مصطفى كامل
في الحلقة الثالثة من حواره مع السيد غسان شربل والمنشور في صحيفة الحياة اللندنية في 27 نوفمبر/ تشرين ثاني 2012، هنا، تحدَّث السيد عمرو موسى المرشح الرئاسي الفاشل والأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ووزير خارجية نظام حسني مبارك البائد، تحدَّث عن العراق أيام العهد الوطني.
وتضمن حديثه آراء ومعلومات عن أحداث عديدة، وقد أثارت الآراء التي قدَّمها عن العراق في العهد الوطني وعن بغداد الجميلة، موئل الحضارة العربية والإسلامية وقلعة الصمود والنصر، أثارت استغراب الكثيرين ممن كانوا يظنون أنه أكثر حصافة وحكمة واحتراماً لنفسه من الإنحدار الى مستوى قريب من جوقة المصفقِّين والمطبّلين والمزمّرين لعهد الخراب والانحطاط والفساد والدمار الذي جاء به الإحتلال الأميركي- الإيراني للعراق.
ومع اننا سنرجىء، الى وقت آخر، التعليق على هذه الآراء، وسنركِّز هنا على الأحداث التي أتى على ذكرها السيد موسى مما له صلة بالقضايا التالية:
- ما دار في لقائه بالرئيس الشهيد صدام حسين ببغداد في اثناء زيارته الى العراق في يناير/ كانون ثاني 2002.
- تفاصيل الزيارة وأولياتها وما تمخَّض عنها.
- علاقة مصر بالعراق قبيل أزمة الكويت عام 1990.
- مواقف العراق ازاء جامعة الدول العربية.
- علاقة العراق بالأمم المتحدة.
أولا: علـَّق المسؤول في الدائرة السياسية في ديوان الرئاسة، والذي كان يتولى إدارة شعبة الشؤون العربية على ما ورد في حديث السيد موسى حول لقائه بالرئيس الشهيد، قائلا:
1. تشير سجلاتنا في الدائرة السياسية حسب المحضر الرسمي للقاء إلى ان السيد عمرو موسى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، التقى السيد الرئيس الشهيد صدام حسين بحضور وزير الخارجية الدكتور ناجي صبري الحديثي، وسكرتير رئيس الجمهورية الفريق المرحوم عبد حميد المحمود، والسكرتير الصحفي لرئيس الجمهورية الدكتور علي عبد الله.
2. ابتدأ اللقاء بتأكيد السيد موسى موقف الجامعة الرسمي بالحرص على سيادة العراق واستقلاله ومصالح شعبه الوطنية، ووقوف الجامعة مع حكومة العراق وشعبه بوجه كل ما من شأنه إنتهاك سيادته واستقلاله، ودعم توجهات العراق في السعي لإنهاء الأوضاع الصعبة التي يعيشها في ظل قرارت الحصار.
3. ثم طرح السيد موسى على الرئيس الشهيد استعداد الأمانة العامة لجامعة الدول العربية لمساعدة العراق في السعي لإيجاد مخرج للأزمة التي تمر بها علاقة العراق بالأمم المتحدة ولمعالجة المشكلات الكبيرة التي يعاني منها العراق تحت وطأة قرارات الأمم المتحدة التي فرض بموجبها الحصار وشتى القيود على العراق وشعبه.
وطرح أيضاً مقترحا لعودة الحكومة العراقية إلى طاولة الحوار مع الأمانة العامة للأمم، وأعرب عن استعداد الأمانة العامة لدعم التوجه العراقي في هذا المجال، سعياً للبحث عن حل للأزمة في العلاقة مع الامم المتحدة.
وقال أنه في حالة موافقة الحكومة العراقية على ذلك سيقوم بالإتصال بالأمين العام للأمم المتحدة، كوفي عنان، لضمان موافقته، والاتفاق على ترتيبات إعادة الحوار بين الجانبين في أسرع وقت.
4. ردَّ الرئيس الشهيد على مقترح السيد موسى، شارحاً له موقف العراق من موضوع العلاقة مع الأمم المتحدة، واستعرض ما مرَّرته الولايات المتحدة وبريطانيا من مجلس الأمن من قرارات ظالمة حافلة بالتعسف والانتهاك الصارخ لسيادة العراق وحقوقه الوطنية ولحقوق الإنسان في العراق التي يكفلها القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وعن ممارسات فرق التفتيش التابعة للأمم المتحدة المنتهكة لكل إعتبارات السيادة والأمن والكرامة الوطنية في العراق.
5. بعد مناقشة مستفيضة امتدَّت نحو ساعة، أعرب الرئيس الشهيد عن عدم ممانعة العراق من العودة للحوار مع الأمانة العامة للأمم المتحدة.
واختتم اللقاء بتعهد السيد موسى بالإتصال بالأمين العام للأمم المتحدة لإبلاغه ذلك ولضمان موفقته على المقترح.
ولم يتطرَّق الرئيس الشهيد صدام حسين ولا السيد موسى الى أي موضوع آخر.
وفي إطار مسؤوليتي حضرت بصحبة مدير دائرة المراسم في ديوان الرئاسة، الذي أشرف على ترتيب اللقاء، حضرت إجراءات التهيئة والإعداد للقاء، حتى نهايته ومغادرة الضيف قاعة الإستقبال.
سكرتير رئيس الجمهورية المرحوم عبد حميد المحمود مستقبلاً السيد موسى |
وأود أن أشير الى أن سكرتير رئيس الجمهورية المرحوم الفريق عبد حميد المحمود التقى بالسيد عمرو موسى ووزير الخارجية في أحد مباني الإستقبال التابعة لرئاسة الجمهورية في منطقة كرادة مريم بوسط بغداد، واصطحبهما من هناك بسيارته الى أحد القصور الرئاسية في منطقة الرضوانية جنوب غرب بغداد.
وبعد الدخول الى القصر ترك المرحوم سكرتير رئيس الجمهورية وزير الخارجية وضيفه الأمين العام في إحدى غرف الاستراحة، وذهب الى قاعة الإستقبال حيث كان الرئيس الشهيد، وبعد أقل من 10 دقائق عاد إليهما ودعاهما لمرافقته الى قاعة الإستقبال ففعلا.
وبعد انتهاء المقابلة خرج وزير الخارجية والأمين العام ومعهما سكرتير السيد الرئيس الذي اصطحبهما الى سيارته، وعاد بهما، عبر شوارع بغداد، الى حيث انطلقا في الصباح، أي إلى مبنى الإستقبال الرئاسي في منطقة كرادة مريم.
وكان سكرتير الرئيس الشهيد يقود السيارة بنفسه ولم تكن هناك أية سيارة عسكرية أو مدنية ترافقها ولا حرساً أو مرافقين لا في الذهاب ولا في الإياب. وهذه هي الطريقة التي كان يتبعها السكرتير في كل مقابلات الضيوف للرئيس الشهيد والتي كنت أحضر التهيؤ لها، بحكم مسؤوليتي، خصوصاً تلك المتعلقة بالضيوف العرب.
وكل ما قاله السيد عمرو موسى عما حصل بعد انتهاء اللقاء لا صحة له.
وأود أن أشير الى نقطة بروتوكولية مهمة يعرفها كل الضيوف الذين زاروا العراق واستقبلهم الرئيس الشهيد في أحد قصور الرئاسة، وهي ان الرئيس الشهيد في جميع مقابلاته مع الضيوف العرب والأجانب، ممن هم أقل منصباً من رئيس دولة، كان ينتظر الضيف في نهاية قاعة الإستقبال واقفاً، وبعد مصافحته والترحيب به يدعوه للجلوس، ويجلس معه، وبعد إنتهاء المقابلة يودِّع الضيفُ السيدَ الرئيس ويخرج من القاعة مع من يرافقه، من وفده، بصحبة السكرتير ومن يحضر من الجانب العراقي، أما الرئيس الشهيد فيبقى في القاعة ولا يغادرها إلا بعد مغادرة الوفد الضيف قصر الإستقبال.
ولم يتغير هذا التقليد إلا في زيارات رؤساء الدول، وهذه هي تقاليد المراسم (البروتوكول) التي تسير عليها رئاسة الجمهورية فيما يخص مقابلات السيد رئيس الجمهورية مع الضيوف طيلة 35 عاماً من العهد الوطني.
ثانيا: تحدَّث المسؤول السابق في الدائرة العربية بوزارة الخارجية في العهد الوطني عن أوليات زيارة السيد موسى لبغداد، فأفادنا بما يأتي:
ثانيا: تحدَّث المسؤول السابق في الدائرة العربية بوزارة الخارجية في العهد الوطني عن أوليات زيارة السيد موسى لبغداد، فأفادنا بما يأتي:
1. أثناء انعقاد الدورة السنوية الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر شهر أكتوبر/ تشرين أول عام 2001 بعد أن تأجلت، عن موعدها المقرر في سبتمبر/ أيلول من كل عام، بسبب وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، التقى وزير الخارجية الدكتور ناجي صبري الحديثي بالأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى، وبحث معه ملف علاقة العراق مع الأمم المتحدة، وأبلغ الدكتور الحديثي السيد موسى انه يعتزم العمل على إعادة الحوار مع الأمانة العامة للأمم المتحدة، للبحث في إمكانية إيجاد حلول للأزمة التي كانت تتحكم بعلاقة العراق بالأمم المتحدة بعد أزمة الكويت وما صدر من قرارات متعسفة من مجلس الأمن تنتهك سيادة العراق ومصالحه وحقوق شعبه.
2. وخلال اللقاء طلب وزير الخارجية دعم جامعة الدول العربية لهذا المسعى، ووجَّه له دعوة رسمية لزيارة العراق لتأكيد هذا الدعم، والمساعدة في تأمين موافقة الأمين العام للأمم المتحدة على ذلك.
3. وقد وافق السيد عمرو موسى على دعوة السيد وزير الخارجية لزيارة العراق، ووعد بدعم المسعى الدبلوماسي العراقي مع الأمانة العامة للأمم المتحدة .
4. وصل السيد عمرو موسى الى بغداد في 19 يناير/ كانون الثاني 2002 على رأس وفد من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وفريق كبير من الصحفيين المصريين وبعض المراسلين العرب.
5. أقيمت للضيف العربي دعوتان تكريميتان، الأولى مأدبة عشاء في مطعم برج الإتصالات بمنطقة المأمون، في بغداد، أقامها نائب رئيس الوزراء السيد طارق عزيز وحضرها وزير الخارجية السيد ناجي صبري وأعضاء الوفد الرسمي المرافق للسيد موسى، ولم يتأكد لديَّ حضور نائب رئيس الجمهورية المرحوم طه ياسين رمضان، حسب ما ذكر السيد موسى.
لم يطرح السيد موسى في جلسة العشاء أي موضوع عن أزمة الكويت أو الحرب مع إيران، أو عن السياسات العراقية، ولم يطرح المسؤولون العراقيون معه أي موضوع تفصيلي، وإنما اشتمل الحديث على نتفٍ من أحاديث عامة عن الوضع العربي وأحاديث مجاملات مما هو معتاد أن يطرح في جلسة عشاء لضيف.
ومما يثير الإستغراب أن يقع السيد عمرو موسى، وهو الدبلوماسي المتمرِّس والمحترف، في خطأ شنيع عندما قال إنه وهو ضيف على الحكومة العراقية وأمام عدد من كبار المسؤولين العراقيين انتقد سياسات الحكومة العراقية!! فهل يُعقَل أن ينتقد ضيف من عامة الناس مضيفيه وعلى مائدتهم وفي دارهم؟ فما بالك بدبلوماسي كان ذات يوم رئيساً للدبلوماسية المصرية العريقة! هل يُعقل أن يتصرف ضيفٌ من كبار الدبلوماسيين على هذا النحو مع مضيفيه بانتقاد حكومة مضيفيه أمامهم وفي جلسة يقيمونها تكريماً له؟ وهل يُعقل أن يشكو له كبار المسؤولين العراقيين عدم قدرتهم على الكلام مع رئيسهم وقائدهم، وأنهم طلبوا منه أن يقول للرئيس ما لا يستطيعون قوله لأنهم يخافون ذلك؟!
دعوة الفريق الحبوش، ويبدو موسى متوسطاً وزير الخارجية العراقي ناجي صبري وسكرتير رئيس الجمهورية المرحوم عبد حميد |
أما الدعوة الأخرى التي أقيمت على شرف السيد عمرو موسى فهي مأدبة غداء أقامها مدير جهاز المخابرات العراقي الفريق طاهر جليل الحبوش في دار ضيافة خاصة بجهاز المخابرات، في منطقة العلوية ببغداد، وحضرها مرافقو السيد موسى، كما حضرها من المسؤولين العراقيين وزيرا الخارجية، الدكتور ناجي صبري، والتجارة الدكتور محمد مهدي صالح وسكرتير رئيس الجمهورية، ولم يُطرح فيها سوى موضوعات عامة ومجاملات.
يقول السيد عمر موسى ما يلي "بعد طرح العراق قيام شكل من التعاون العسكري والاستخباراتي في 1989، ساورت القيادة المصرية شكوك حول النوايا الفعلية للعراق" ويقول أن ذلك أدى الى انهيار المجلس وان "غزو العراق للكويت لم يكن ابن ساعته".
وهو هنا يحاول في سياق تقرُّبِه وتملُّقِه حكام الكويت، أن يختلق حدثاً لكي يستند إليه في محاولته تبرئة عملاء آل صباح من اختلاق الأزمة وتصعيدها الى ما وصلت اليه يوم 2 أغسطس/ آب 1990، وذلك بالزعم أن العراق كان يخطط منذ زمن بعيد لاحتلال الكويت.
ويشير في هذه المحاولة الخائبة الى مجلس التعاون العربي بين العراق ومصر والأردن واليمن الذي ولد بمبادرة من العراق وأعلن رؤساء دوله الأربع عن تأسيسه وتوقيع اتفاقيته في بغداد يوم 16 فبراير/ شباط من عام 1989 بعد إجتماعهم يومي 15 و16 منه، فيحاول أن يوحي أن سبب انهيار المجلس لا يكمن في خروج نظام حسني مبارك منه في أغسطس/ آب 1990 بانحيازه السافر الى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وحليفاتهما في الحملة الحربية الإستعمارية على العراق، وإنما يعود الى اكتشاف مصر نوايا عدوانية لدى العراق، ويقصد بالطبع بخصوص الكويت، منذ عام 1989!
وبخصوص قول السيد موسى إن حكومته استدعته من نيويورك وكلَّفته زيارة العراق عام 1989 لإبلاغ رسالة رسمية برغبة مصر في الخروج من مجلس التعاون العربي، فلم نسمع، نحن العاملون في الإعلام العراقي، بمثل هذه الزيارة، كما أكد المسؤول في وزارة الخارجية أنه لم يسمع هو أو أي من زملائه في وزارة الخارجية بهذه الزيارة وليس ثمة إشارة لها في وثائق الوزارة! ونحن وإياه لم نسمع بها إلا من تصريح السيد موسى لجريدة الحياة!
ولذلك يبدو أنها من صنع الخيال الخصب للسيد موسى! إلا إذا كانت زيارة سرية جداً وغير معلنة وجرى التكتم عليها، ولا تتحدث عنها أي من وثائق العراق الرسمية، سواء في رئاسة الجمهورية أو وزارة الخارجية، وهو أمر مستبعد حدوثه تماماً، خصوصاً أنه ليس ثمَّة مبرر لكي تَعمِد حكومة مصر لاستدعاءِ ممثلها الدائم في الأمم المتحدة في نيويورك لكي تُكلِّفه بالقيام بزيارة سرّية لغرض إبلاغ العراق رفضها التنسيق العسكري والاستخباري معه، فقد كانت القنوات السياسية والإستخبارية والدبلوماسية كلها سالكة بين البلدين آنذاك.
وأتساءل: لماذا بقيت تلك الزيارة المزعومة بعيدة عن أنظار وأسماع الجميع حتى الآن، ورغم مضيِّ 10 سنوات على إحتلال العراق، مع أنَّ معظم وثائق العراق الرسمية انكشفت لمحتلّي العراق وعملائهم.
فبالإضافة للإجتماعات المتواصلة على المستوى الرئاسي والوزاري التي كان يمكن للقيادة المصرية إستثمارها لإبلاغ القيادة العراقية بما تريد على نحو مباشر، كان هناك، في بغداد، سفير لمصر وملحق عسكري وممثل رسمي للمخابرات المصرية مثلما كان للعراق مسؤولين مماثلين في القاهرة.
ومما يلقي مزيداً من الشك على رواية السيد موسى، أنه كان للعراق تعاون عسكري ومخابراتي مع مصر، وبعض الأقطار العربية حتى منتصف عام 1990، بل ان التعاون المخابراتي مع مصر وبعض البلدان العربية تواصل، حتى في أعقاب قطع العلاقات الدبلوماسية بين العراق وبعض الدول العربية على خلفية قضية الكويت، وكان لجهاز المخابرات العراقي ممثل رسمي في مصر وأقطاراً عربية أخرى.
وفضلاً عن ذلك، فإن مصر لم تخرج من مجلس التعاون قبل انفجار ازمة الكويت في أغسطس/ آب 1990، كما نوَّه بذلك السيد موسى.
إحدى اجتماعات مجلس التعاون العربي على مستوى القمة |
فقد تواصلت اللقاءات الرباعية بين أعضاء مجلس التعاون العربي، على كل المستويات، بل أن زعماء الاقطار الأربعة عقدوا في المملكة الأردنية الهاشمية والجمهورية العربية اليمنية وجمهورية مصر العربية لقاءات على مستوى القمة، في الأشهر التي تلت إعلان قيام المجلس في أعقاب اجتماعهم الرباعي في بغداد في فبراير/ شباط 1989، كما أسلفنا.
ورغم أن من الطبيعي، بل من المفروض والضروري، أن يقوم تعاون عسكري وأمني بين دول عربية شقيقة، إلا أن اتفاقية المجلس ركَّزت على السعي لتحقيق التكامل الإقتصادي بين الدول الأعضاء بوصفه خطوة صلبة على طريق التضامن العربي الفعّال وصولاً الى الوحدة العربية، وهذا نص المادة الثانية من نظامه الداخلي، وهي الأهم:
((المادة الثانية: يهدف مجلس التعاون العربي إلى:
1- تحقيق أعلى مستويات التنسيق والتعاون والتكامل والتضامن بين الدول الأعضاء والارتقاء بها تدريجياً وفق الظروف والإمكانات والخبرات.
2- تحقيق التكامل الاقتصادي تدريجياً وذلك بتنسيق السياسات على مستوى قطاعات الإنتاج المختلفة والعمل على التنسيق بين خطط التنمية في الدول الأعضاء مع الأخذ في الاعتبار درجات النمو والأوضاع والظروف الاقتصادية التي تمر بها الدول الأعضاء في الانتقال بين المراحل المختلفة وتحقيق ذلك التكامل والتنسيق في المجالات التالية بخاصة :
أ - الاقتصادية المالية.
ب - الصناعية والزراعية.
ج - النقل والمواصلات والاتصالات.
د - التعليم والثقافة والإعلام والبحث العلمي والتكنولوجيا.
هــ - الشؤون الاجتماعية والصحية والسياحية.
و - تنظيم العمل والتنقل والإقامة.
3- تشجيع الاستثمارات والمشاريع المشتركة والتعاون الاقتصادي بين القطاعات العامة والخاصة والتعاونية والمختلطة.
4-السعي إلى قيام سوق مشتركة بين الدول الأعضاء وصولاً إلى السوق العربية المشتركة والوحدة الاقتصادية العربية.
5- توثيق الروابط والأواصر بين مواطني الدول الأعضاء في جميع المجالات.
6- تعزيز العمل العربي المشترك وتطويره بما يوثق الروابط العربية. ))
مع ذلك لا أرى حاجة للسيد الأمين العام لكي يساوره، وأركان نظامه، الشك في نوايا العراق، وما عليه إلا أن يعود الى المادة الأولى من اتفاقية المجلس التي تشير بصريح العبارة الى اتفاقية الدفاع العربي المشترك، وهذا نصُّها:
1. ((المادة الأولى: يؤسس مجلس التعاون العربي من المملكة الأردنية الهاشمية والجمهورية العراقية وجمهورية مصر العربية والجمهورية العربية اليمينية وفق الأحكام الواردة في هذه الاتفاقية.
ويعد المجلس أحد تنظيمات الأمة العربية يتمسك بميثاق جامعة الدول العربية وبمعاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي والمؤسسات والمنظمات المنبثقة عن جامعة الدول العربية ويقيم علاقات تعاون مع التجمعات الإقليمية العربية والدولية.))
فلو افترضنا ان العراق طلب التعاون العسكري والاستخباري مع دول المجلس أو مع أية دولة عربية أخرى، فما العيب في ذلك؟ هل يرى السيد عمرو موسى في التعاون العسكري بين مصر وأية دولة عربية أخرى عيباً، ولا يرى ذلك في تعاون نظامه، نظام حسني مبارك البائد، عسكرياً واستخبارياً مع الولايات المتحدة وبريطانيا لمحاربة وتدمير العراق؟ وهل يرى في التعاون الإستخباري بين مصر والعراق عيباً ولا يرى ذلك في تعاون نظامه البائد مع المخابرات الصهيونية والأميركية، حتى بات الكيان الصهيوني يعتبر نظام مبارك وجهاز مخابراته كنزاً استراتيجياً لها؟ ولعلم السيد موسى فإن تعاون العراق في الميدانين العسكري والاستخباري كان موجوداً مع الدول الثلاث الأعضاء في مجلس التعاون العربي ومع بعض الدول العربية الأخرى وإن بدرجات متفاوتة من حيث السعة والعمق قبل عام 1990- وهو أمر طبيعي بل واجب، ثم إنه كان حرياً به، كونه أميناً عاماً لجامعة الدول العربية، أن يكون أميناً على كل ما يجمع بين الدول العربية، وأن يكون أول من يدعو لمثل هذا التعاون، لا أن يرتاب، حسب زعمه، في رغبة العراق في التعاون العسكري والاستخباراتي مع مصر.
فالإرتياب ينبغي أن يكون في تعاون نظام يحكم دولة عربية عزيزة كبيرة مثل مصر عسكرياً واستخبارياً مع دولة أجنبية يحسبها معظم العرب عدواً لهم، ضد دولة وشعب شقيقين لمصر، مثل العراق، والارتياب يجب أن يكون في تعاون نظام مبارك استخبارياً مع الكيان الصهيوني ضد شعب شقيق لمصر يجاهد من أجل استعادة ارضه ووطنه المغتصب.
...
وقبل أن ننهي الجزء الأول من الرد على تصريحات السيد عمرو موسى، نودُّ الاشارة إلى قوله أن الهدف الثاني من زيارته للعراق في عام 2002 هو مساعدة صديق، حيث قال ما نصه "الصديق الذى كنت أريد إنقاذه هو الدبلوماسى العراقى العريق رياض القيسى، الذى كان معنا فى الأمم المتحدة. كنت أعرف أنه كان شبهَ محدد الإقامة، ومهدداً ربَّما فى حياته، وطلبت لقاءه لإعطاء رسالة أن لديه اتصالات، وأن الأمين العام للجامعة تربطه به صلة لعلها تخدمه".
فالحقيقة التي يعرفها العاملون في وزارة الخارجية، والتي يبدو أنها قد خفيت على السيد موسى، هي أن السيد رياض القيسي أحيل على التقاعد لبلوغه السن القانونية للتقاعد، ولمخالفته توجيها من رئاسة الجمهورية بعدم السماح لمسؤولي الدولة من مدير عام فما فوق وخصوصاً في وزارة الخارجية بتشغيل أبنائهم أو ذويهم في المنظمات الدولية العاملة في العراق.. ولم يكن لإحالته على التقاعد أي بعد سياسي أو أمني أو جنائي. وأن تلك المخالفة ليست أكثر من مخالفة إدارية، وبقي يحظى باحترام وزارة الخارجية ودوائر الدولة ومسؤوليها، ولذلك عَرَضَ وزير الخارجية الدكتور ناجي صبري الحديثي على الدكتور رياض القيسي، بعد إحالته على التقاعد، العمل مستشاراً في الوزارة أسوة بالعديد من كبار الدبلوماسيين العراقيين المتقاعدين، لكنه إعتذر متعللاً بالرغبة في الراحة والإنصراف للقراءة، كما عُرِضَ عليه لاحقاً المشاركة في عمل استشاري للإعداد لواحدةٍ من جولات الحوار مع الأمم المتحدة، فاعتذر أيضا لسبب مماثل.
ومما يقدِّم دليلا آخر على خطأ معلومات السيد عمرو موسى هو استعانة إحدى الدوائر السياسية المهمة في الدولة العراقية بالسيد القيسي للعمل بوظيفة استشارية لديها.
ويبدو ان السيد موسى يناقض نفسه بنفسه، فهو من جهة يقول ان الأخير محدد الإقامة وحياته مهددة، ومن جهة أخرى يقول إن لقاءه بالسيد القيسي كان جزءاً من البرنامج الرسمي لزيارته، وإن الأخير زاره في مقر إقامته وامام الصحفيين والتقط معه الصور.
فكيف يتاحُ لمن هو محدَّد الإقامة وحياته مهددة، القيام بكل ذلك يا معالي الأمين العام؟
والى الجزء الثاني قريباً، بإذن الله تعالى...
ملاحظة مهمة:
تعميماً للفائدة، وحتى يطلع القارئ الكريم، مباشرة، على أوليات حديث السيد موسى، فإننا ننشر في أدناه نص الحلقة الثالثة من الحوار، مؤشراً عليها، باللون الأصفر، الفقرات التي سندحضها في كلام السيد الأمين العام السابق.
عمرو موسى:صارحت صدام حسين بأخطاء سياسته وغزو الكويت لم يكن ابن ساعته مصر ودول عربية أخرى عارضت مناقشة مبادرة الشيخ زايد لتنحية الرئيس العراقي (3)
حاوره غسان شربل
الثلاثاء ٢٧ نوفمبر ٢٠١٢
عايش عمرو موسى تقلبات الملف العراقي من موقعه وزيراً لخارجية مصر ثم أميناً عاماً للجامعة العربية. قبل ذلك، قام موسى بمهمة ديبلوماسية حساسة لم تكن أقل من إعلان انهيار «مجلس التعاون العربي»، الذي كان يضم مصر والعراق والأردن واليمن.
بعد طرح العراق قيام شكل من التعاون العسكري والاستخباراتي في 1989، ساورت القيادة المصرية شكوك حول النوايا الفعلية للعراق. استدعي مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة عمرو موسى إلى القاهرة وطُلب منه نقل رسالة إلى صدام حسين لا تخفي عباراتها الديبلوماسية قرار مصر الخروج من المجلس. ذهب موسى إلى بغداد وقيل له إن الرئيس كان خارجها، فأوجز مضمون الرسالة لنائب الرئيس طه ياسين رمضان الذي فوجئ. وهكذا انهار المجلس، ولهذا يعتقد موسى «أن قرار غزو الكويت لم يكن ابن ساعته»، وأن لهجة المسؤولين العراقيين في القمة العربية التي عقدت في بغداد قبل شهور من الغزو كانت مثيرة للتساؤلات. ولاحقاً سيسخر الرئيس حسني مبارك من وصف صدام له بـ «الخفيف»، وسيقول: «هو ده يا تقيل هببت الدنيا على راسك»، وكان يشير إلى النتائج الكارثية للنهج المغامر لصدام.
وفي أيلول (سبتمبر) 2002، نجح موسى في جهود على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في إعادة التعاون بين المنظمة الدولية ومراقبيها والعراق ما أدى إلى تأجيل قرار الحرب بضعة اشهر.
> متى التقيت صدّام حسين؟
- رأيت صدام في القمة العربية في بغداد (أيار/ مايو 1990) وقبلها في قمة أخرى في الإسكندرية (قمة مجلس التعاون العربى فى الصيف السابق) ثم عندما عُيِّنتُ أميناً عاماً لجامعة الدول العربية. لم ألتقه بصفتي وزيراً للخارجية، بسبب قطع العلاقات الديبلوماسية (إثر غزو الكويت). ولكن عند تعييني أميناً عاماً لجامعة الدول العربية زرت بغداد، لأنني قررت أن أزور كل العواصم العربية، وأن ألتقي كل الرؤساء وكبار المسؤولين في جميع الدول العربية، ولم أستثن منها العراق.
عُينت أميناً عاماً للجامعة العربية، وتوليت منصبي في الأسبوع نفسه الذي عُينت فيه وزيراً للخارجية قبل ذلك بعشر سنوات، أي في منتصف أيار (مايو) 2001، حيث بقيت عشر سنوات، ثم انتقلت إلى الجامعة.
ذهبت إلى بغداد فى كانون الثاني (يناير) 2002، وأنا مؤمن بأن السياسات التي يتبعها صدام كلها خطأ، من غزو الكويت إلى مواقفه في القمم العربية وعدم تعاونه مع الدول العربية وعدم تسهيله الأمور لحل المشاكل العربية القائمة، وكنت أندهش من موقفه في مواجهة الأمم المتحدة. كنت على علم بهذه المواقف، عربياً أو دولياً، حيث كانت معرفتي بكوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة قديمة منذ كان موظفاً في الأمم المتحدة، وكبرنا سوياً، وأصبح هو أميناً عاماً للأمم المتحدة، وأصبحت أنا مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة ثم وزيراً للخارجية. بعد تعييني أميناً عاماً للجامعة، عدت ألح عليه بألاّ تُترك قضية مثل قضية العراق من دون دور نشط للأمم المتحدة، هذه مسألة فيها اتهامات نووية للعراق ودور لمراقبين دوليين، فهناك دور سياسي للأمم المتحدة يفوق دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهناك حرب سابقة (مع ايران)، وقد تحدث حرب لاحقة، وأصررت عليه جداً أن يحيي دور الأمم المتحدة، وقلت نحن مستعدون لأي مساعدة. اقترحت عليه إيجاد طريقة لإعادة المراقبين الدوليين، وكنت أرى أنه من الضروري لنا أن ننهي حالة سيئة جداً، وكان الشعب العراقي بدأ يعاني. بدأتْ اتصالات دولية رفضها صدّام، وقال لي كوفي إن صدّام يرفض كل شيء. المهم أن الزيارة إلى العراق تحددت، وتوجهت إلى بغداد في 19 كانون الثاني (يناير) 2002.
> كيف وجدت العراق؟
- وجدت بغداد بلداً مهجوراً متعباً، بعدما كانت بغداد لا تزال في ذاكرتي منذ اجتماع القمة العربية في 1990، حين كان يُعاد بناؤها، أحياء تبنيها شركات كورية وأحياء تبنيها شركات أوروبية، وبدأت بغداد تضم أحياء أنيقة، وكان يُترك في كل حي بيت أو أكثر على الطراز القديم، لإظهار الفرق بين القديم والحديث، وكان يتم شق طرقات وبناء جسور جديدة. وجدت بغداد 2002 وقد علاها التراب والصدأ وبدَت في حالة سيئة مؤسفة، وكان في ذهني أمران: الأول مهمتي الأساسية كأمين عام والثاني أن أساعد أحد أصدقائي هناك.
أبلغت أنان بتوجهي إلى بغداد، وطلبت منه أن يحمّلني رسالة إلى صدام، فقال لي أبلِغه أن كوفي أنان مستعد لاستئناف المباحثات مع العراق بشأن المراقبين الدوليين، وطلب مني معرفة ما إذا كان صدّام مستعداً لإنجاح هذه المباحثات. وافقت على نقل الرسالة، وفور وصولي دعاني طه ياسين رمضان وطارق عزيز وناجي صبري (وزير الخارجية) إلى العشاء في فندق يطل على القصر الملكي القديم وبغداد التقليدية. قلت لهم خلال العشاء بكل صراحة، إن الأخطاء بدأت من الحرب على إيران وتبلورت بغزو الكويت، وإنني أجد طريقة التعامل العراقية مع مسألة الكويت، سواء عربياً أو دولياً، طريقة غير منتجة وسلبية، والأفضل أن تنظروا إلى طريقة أخرى للتعامل مع الأمم المتحدة. أجابوا: قُلْ له (أي لصدام). ومنهم مَنْ سأل: ما الوضع بعد انتهاء الغزو؟ قلت له إن هذا وضع لم ينته، لأن المرارة التي تركها كبيرة، ليس عند الكويتيين فقط، بل عند الجميع في العالم العربي، ومواطن مصري مثلي لا يتقبل فكرة أن تقوم دولة عربية بغزو دولة عربية أخرى، فقالوا لي أيضاً: «قُلْ له». وسألتُ ما لزوم ما حصل؟
كان من الصعب على المسؤولين العراقيين أن يعبروا عن حقيقة مواقفهم. كان لديهم شعور بالخطورة عليهم، لا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وكان من الممكن التكهن بأنهم غير موافقين على ما قام به صدّام وهم يعايشون النتيجة، ولكن معظمهم خائف من صدام.
في صباح اليوم التالي جاءني إلى دار الضيافة أحد الضباط ودعاني إلى مرافقته إلى مبنى حكومي من البنايات القديمة التي تشعرك بالعراقة، ثم جاء ضابط أدى التحية العسكرية وقدم نفسه: الفريق عبد حمود (سكرتير الرئيس صدام). بدا رجلاً عسكرياً بشوشاً (أُعدم أخيراً)، وتوجهنا في سيارة تويوتا لونها بيج قادها هو في اتجاه طريق المطار ثم أخذنا منعطفاً نحو فيلا كبيرة ووراءنا سيارة عسكرية ثم أخرى فيها أعضاء وفد الجامعة العربية احمد بن حلي، مساعد الأمين العام، الذي أصبح بعد ذلك نائب الأمين العام للجامعة العربية ومدير مكتبَيْ السفير هشام بدر، الذي أصبح سفير مصر في جنيف، والسفير الدكتور حسين حسونة، الذي أصبح لاحقاً سفير الجامعة العربية في واشنطن.
تم حجز بقية الوفد ليدخلوا بعد دخولي منفرداً، ثم فُتح باب على قاعة ضخمة يقف صدّام في الربع البعيد منها، نزلت درجتين إلى داخل القاعة وتوجهت للسلام على صدّام، الذي تقدم إلى منتصف القاعة، وكان سلاماً عسكرياً جافاً، وليس كالسلام العربي بالأحضان والقبلات. تصافحنا، ورحَّب بي قائلاً: أهلاً وسهلأً بسيادة الأمين العام، أهلاً وسهلاً بالأخ عمرو، قلت: شكراً يا سيادة الرئيس. وتوجهنا الى ركن جلوسنا، ثم دخل بقية أعضاء الوفد وصافحهم صدام، وجلسنا صفاً واحداً وأمامنا صدام، وإلى جانبه عبد حمود وناجي صبري الحديثي، وهو شخص ودود وعلى كفاءة عالية ويوحى بالصدقية، لكنه في الوقت نفسه مغلوب على أمره.
بدأت حديثي مع صدام بطريقة عملية محددة، وربما صارمة (فشعر بن حلي -كما قال لي لاحقاً- أننا لن نغادر بغداد). عدَّدتُ لصدام الأخطاء، مركزاً على عدم التعاون مع الدول العربية ولا التجاوب مع المساعى العربية لتحسين الوضع وتخفيف التوتر، وقلت يا سيادة الرئيس، وبصفة محددة، كان غزو الكويت بداية لمأساة، وقلت له أريد أن أوجه سؤالاً: ما لزوم ما حصل وأنتم ترون نتائج ما حصل؟ والآن على الأقل للخروج من الأزمة عليك التعامل مع الأمم المتحدة، وأنا معي رسالة من كوفي أنان أنه سيكون مستعداً لاستئناف المباحثات إذا كنتم مستعدين لعودة المراقبين والمفتشين الدوليين، وقرارات الأمم المتحدة هي التي تحدد سلطة الأمين العام. قال: أنا مستعد، سألته: يا سيادة الرئيس، هل لديكم أي أسلحة نووية؟ فاجاب: إطلاقاً. وقلت له: اسمح لي أن أسالك السؤال مجدداً: هل لديكم أسلحة نووية؟ (لمحت في عينيه الدهشة والتوجس من تكراري السؤال) فرد صدام: ليس لدينا على الإطلاق، قلت له: إذاً لماذا أنت متخوف يا سيادة الرئيس ومتردد من حضور المراقبين الدوليين؟ فقال: لأنهم جواسيس وعملاء للـ «سي آي إي». قلت له: ماذا لو عالجنا موضوع الجاسوسية واشترطنا هذا على كوفي أنان، وهو مستعد لمعالجة أي شكوى منطقية للقبول بعودتهم وبما يريحك. فوافق صدّام بعد تردد، قلتُ: أنا سأحمل رسالة الرد أنك يا سيادة الرئيس أولاً مستعد للتفاوض، وأنك ثانياً لا تملك أسلحة نووية، وأنك ثالثاً تخشى من أن يكون عدد كبير من المراقبين، إن لم يكن معظمهم، من الجواسيس، ولكنك مستعد لاستقبالهم إذا قدمت الضمانات الكافية بالنسبة لموضوع التجسس. سألته: هل لديك أي رسالة أخرى؟ قال: نعم، فقد أثرنا الموضوع في شكوى إلى الأمم المتحدة، ولم تهتم الأمم المتحدة بالرد، قلت له: إذا عالجنا كل ذلك هل ستكون مستعداً؟ قال: نعم أنا مستعد.
بعدها تطرقت إلى السياسة العراقية وسلوكهم في القمة العربية، وكيف أن الشيخ صباح الأحمد كان يستمع إلى آرائنا كوفود عربية، وإلى وساطتي المقترحة كأمين عام للجامعة العربية بالنسبة للقرارات والصياغات، ولم يعترض، بل كان يُسهل علينا الأمور، وإنما أتى الاعتراض من الجانب العراقي، وهذا ما لا أفهمه، فأنتم في موقف ضعيف جداً. الجامعة العربية ووفود عربية تستطيع أن تفعل الكثير لعلاج الوضع القائم. لم يرفض طرحي. وهكذا سارت الأمور بعد لقاء استمر ساعتين وثلث الساعة.
لم يتحدث صدّام في القضايا العربية المختلفة، ولا حاولت أنا أن أثير أي موضوع آخر، بعدما كان العراق البلدَ الكبير الذي يتحدث عالياً في العلاقات العربية وفي مختلف القضايا، كان صدام يتحدث الآن كرئيس عادي، وبصوت خفيض، ويريد أن يفهم الأمم المتحدة وآلياتها وإمكاناتها. وخرج الوفد ليستقل سياراته من باب وخرج صدام معي لوداعي ومعه وزير خارجيته من باب آخر، ورافقنا عبد حمود. عند خروجنا أشار الرئيس إلى بحيرة إلى اليمين، ودعاني لأرى ما فيها من بَجَع، الأمر الذي أخذ حوالى دقيقة من التأمل والنظر، ولما التفت للسلام على صدّام لشكره وتوديعه، وجدته كما هو، لكن ساورني شعور لا يزال يساورني حتى الآن، بأن الشخص الذي يقف أمامي الآن ليس الشخص الذي كنت معه في القاعة، وخرج معي إلى هذه البقعة ووجهني لأتفرج على البحيرة وطيورها، رغم أنه يرتدي البدلة نفسها وربطة العنق نفسها وله الشارب نفسه. نعم، ساورني شعور غريب بأن الشخص الذي أمامي الآن ليس صدّام حسين الذي كنت مجتمعاً به قبل دقائق، والله أعلم، حيث لا دليل لدي على ما أقول، ولكنه مجرد شعور. أوصلني الى باب السيارة وبقي واقفاً إلى أن تحركت السيارة. في طريق العودة، ركب معي وزير الخارجية العراقي، وذلك كان اللقاء الوحيد الذي جمعني مع صدام في اجتماع خاص، والذي أوضحت له فيه كيف أننا كعرب لم نقبل غزو الكويت والآثار التي ترتبت عن هذا الغزو، ونحن نحاول أن نتعامل مع الوضع. استمع صدّام إلى النقد صامتاً، وعندما ركبنا السيارة قال لي ناجي صبري إن سيادة الرئيس أمر بهدايا لكل أعضاء الوفد سيارات مرسيدس، فقلت له: أرجوك يا ناجي، هل ترى العراق في وضع طيب لتُهدونا سيارات مرسيدس؟ هذا ليس وقت سيارات، ولن آخذ لا أنا ولا أي من أعضاء الوفد أياً منها، فحضنني ناجي وقبّلني شاكراً وانتهت الزيارة، ولكنى وأعضاء الوفد قبلنا عباءات عربية.
الصديق الذي كنت أريد إنقاذه هو الديبلوماسي العراقي العريق رياض القيسي، الذي كان معنا في الأمم المتحدة. كنت أعرف أنه كان شبهَ محدد الإقامة، ومهدداً ربما في حياته، وطلبت لقاءه لإعطاء رسالة أن لديه اتصالات، وأن الأمين العام للجامعة تربطه به صلة لعلها تخدمه. وأصررت أن يكون لقاؤه ضمن برنامج الزيارة الرسمي. فأتاني القيسي والتُقطِت لنا صور معاً وأمام الصحافيين لأحاول مساعدته، ووصلت الرسالة إلى المعنيين والحمد لله لم يحدث له شيء طوال عشر سنوات وخرج عقب الغزو الأميركي مباشرة، وهو يعيش الآن في قطر.
> كنت أميناً عاماً للجامعة العربية عند الغزو الأميركي للعراق.
- نعم، وكان موقفي واضحاً ضد هذا الغزو، وقلت إن هذا الغزو سيفتح أبواب جهنم على المنطقة وأميركا والجميع، وهو ما نشرته وكالات الأنباء وعلقت عليه وسائل إعلام عالمية، منها «تايم» و «نيوزويك» و «الإيكونوميست» وغيرها، والغريب أنه في 24 أيلول (سبتمبر) 2012، نشرت صحيفة الـ «هافنغتون بوست» الأميركية مقالاً تضمن الفقرة التالية:
«في العام 2003، قام الديبلوماسي المصري عمرو موسى بتحذير إدارة الرئيس جورج بوش من أن غزوها العراق قد يفتح أبواب الجحيم. بالطبع لم تلقِ واشنطن أي بال لهذا التحذير، لأنه لم يكن ديكتاتوراً أو عسكرياً، وإنما أميناً عاماً لجامعة الدول العربية، ولا يريدونه أن يفسر لهم الواقع. الحقيقة أنه لم يكن من الممكن أن تكون رؤيته أدق مما كانت. للأسف، ضاع الكثير من الوقت، اختراقات كثيرة، فوضى عارمة، الملايين من اللاجئين وحرب أهلية مريرة (تتكرر الآن في سورية). وامتلأت القبور بالجثث قبل أن يبدأ الربيع العربي، سميت هذه الحركة تيمناً بفصل مجدد واعد، كانت هناك حقيقة مغايرة تماماً: نظام كامل طالما حكم منطقة غاية في الحيوية أصبح في طريقه إلى الزوال التام».
(Huff post: Obama Against the World
Tom Dispatch: 24 - 09 - 2012)
لقد أدى هذا الغزو إلى قلب الأمور في المنطقة كلها تماماً، وكان الإعداد له إعداداً ملتبساً انتهى إلى أن العراق تفكك، وأن الجنيَّ الخطير الذي كنا سعداء لحبسه في القمقم -وأقصد الصِدام السني الشيعي- خرج، وفوجئنا بمشكلة في العالم العربي وفي العالم الإسلامي وفي الشرق الأوسط تزيد في خطورتها على الاحتلال الأجنبي. ربما يكون صحيحاً ما قيل إن تلك مسألة كانت تُرتب من قبل، وأن صدّام لم يكن يصح أن يبقى في الحكم، إلا أن الحقيقة أن صدّام كان منتهياً، وقد كان لغزو العراق رد فعل قاسٍ جداً في العالم العربي كله، وعلى العراق، ومن نتائج الغزو ما نراه حتى الآن من تداعيات... ولكن الحقيقة أيضاً أن غزو الكويت كان قاسياً جداً علينا، وكان خطأ فادحاً من جانب صدام حسين.
> هل رأيت صورة الدبابة الأميركية وهي تُسقط تمثال صدّام حسين مثلاً؟
- طبعاً، كانت رمزاً لانتهاء عهد وبداية عهد. ولو كان هذا العهد العراقى البائد بقي، لشهد العراق أول ثورات الربيع العربي. يُقال الآن إن الناس في سورية يهدمون التماثيل، تماثيل الرئيس (حافظ الاسد)، وفي مصر كذلك، حيث قام الشعب بإنزال صور الرئيس، ولم تقم بذلك أي دبابة أجنبية أو تحت حراسة جيوش أجنبية. أعتقد أن الشعب العراقي كان سيصل إلى تلك المرحلة لوحده، لأنني كنت أرى أن النظام العراقي كان منتهياً، وسياسات صدّام كانت عنيفة، من نوع معالجة المسألة الكردية بغزو كردستان العراق، وهو أمر غير مقبول ولا عاقل، وكان يعالج المسألة الشيعية بطريقة عنيفة أيضاً. للحقيقة، كان هناك العديد من الأخطاء الكبيرة، لكن مهما كان الأمر، فإن إقصاء الرؤساء يجب أن يكون بيد الشعب وليس بيد دولة أجنبية.
> هل لديك معلومات عمّا إذا كان الرئيس مبارك أو غيره حاولوا إقناع الأميركيين بعدم غزو العراق؟
- لا أظن أن العرب، ومنهم مصر، قاموا بمثل هذا الدور. كانت لدى صدام حسين عداوات مع عدد من القادة العرب، وإدارته علاقات العراق مع الدول العربية لم تترك قاعدة تأييد له أو تعاطفاً معه. طبعاً كان هناك من يخشى على البلد وليس على النظام، لكن لا أعتقد أن جهداً عربياً عملياً أو ملموساً بذل، وإن كان هناك من حاول تفادي الغزو بصرف النظر عن عدم اقتناعه بصدّام وسياساته، وقد حاولت ذلك بصفتي الأمين العام للجامعة العربية بالتعاون مع كوفي أنان، مما أغضب الأميركيين كثيراً، وتلك قصة أخرى.
> تعرضت لانتقادات لرفضك مناقشة اقتراح الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان تنحي الرئيس صدّام حسين؟
- كان ذلك في القمة العربية التي عُقدت في شرم الشيخ، والتي سبقت الغزو الأميركي مباشرة في آذار (مارس) 2003. كان الملك حمد بن عيسى ملك البحرين يتولى رئاسة تلك القمة. وصل مغلف مغلق من وفد الإمارات الى ملك البحرين. تم فتح المغلف وتصفحه الملك وأعطاني إياه. قلت للسفير هشام بدر (مدير مكتبي) إن تلك الرسالة خطيرة جداً، وطلبت منه أن يُشرف شخصياً على نسخ 22 صورة فقط من تلك الرسالة وأن يحضر إليّ النُّسخ الـ 22 مع الأصل. وزعت 22 نسخة من تلك الرسالة على القادة العرب في الجلسة نفسها، بعدما أعلنت أن هناك رسالة مهمة ستوزع عليهم، وهي موجهة من سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان إلى جلالة الملك حمد بن عيسى رئيس القمة وملك البحرين. وكان الشيخ راشد عبدالله النعيمي وزير خارجية الإمارات، وكان في غاية النشاط، يعمل على تعبئة التأييد لرسالة الشيخ زايد، حينها ذكرت للملك أن هناك ضرورة للتشاور لاتخاذ القرار المناسب في صدد هذا التطور المهم. كان علي، باعتباري أميناً عاماً للجامعة، أن ألفت الانتباه إلى أي تطور يحدث خلال الاجتماع، وأن أشير إلى أي رسالة مهمة توجه إلى القمة، وقد سُلِّمَت الرسالة إلى ملك البحرين، وهو سلمني إياها فطلبت توزيعها مباشرة فور تصويرها، وهو ما تم. وطُلبت مهلة تُرفع فيها الجلسة للتشاور، أعتقد أن مصر واليمن طلباها، كان الرئيس اليمني علي عبدالله صالح في منتهى التشوق لمعرفة ما ستنتهى إليه الأمور، وكان الرئيس مبارك محتاراً ماذا يفعل، ولكنه لم يكن رئيس الاجتماع، وبدا مرتاحاً لذلك. رُفعت الجلسة للتشاور فور التوزيع بناءً على هذا الطلب المزدوج. فوجئ العراقيون، وأصيبوا بحالة هياج لأنني قمت بتوزيع الرسالة. مصر لم تكن مستعدة لطرحها للنقاش، لأنها توقعت حدوث مشادات وانقسامات، وربما ملاكمات، والمصريون يريدون تهدئة الأوضاع في القمة التي تعقد على أرضهم، وكذلك دول أخرى كان لديها التوجه نفسه. قلت: نحن في حاجة إلى آراء بالنسبة إلى هذا الموضوع، لأن هناك اقتراحاً قُدِّم، فقال المصريون، وعلى ما أذكر أيضاً الليبيون، وبالتأكيد الأردنيون، إنه لن تتم مناقشة الرسالة الآن، بل سنتشاور بأمرها ثنائياً وخارج الإجتماع الرسمي، وانتهى الموضوع عند هذا الحد ولم تتم مناقشته. لكن هناك مَنْ اتهمني بأنني السبب (في عدم مناقشة مضمون الرسالة)، وهذا غير صحيح. كان عدد من الملوك والرؤساء غير مستعدين لمناقشة علنية لها. والحقيقة أنني شعرت بأن الموضوع خطر وحساس جداً، ولا بد أن تتكلم الدول وتعلن إن كانت مستعدة لأن تطالب صدّام بأن يتنازل ويذهب إلى الإمارات كضيف، كما كان الاقتراح الإماراتي. الحقيقة أن الحملة ضدي لم تكن مبررة، لأن الرسالة لم تكن موجهة إليّ، والبند لم يكن قد اقتُرِح، وأنا قمت بتوزيع 22 نسخة على رؤساء الوفود الـ 22 المشاركين، وأن الذي طلب عدم مناقشتها هم ملوك ورؤساء طلبوا رسمياً عدم الإصرار على المناقشة العلنية (عتب علي السفير أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس مبارك آنذاك، لأنني وزعت الرسالة، قائلاً على طريقته: «ما كنت تخفيها»، فقلت له على مسمع من الآخرين فى الأمانة العامة للجامعة: ده مش لعب يا أسامة، ودي رسالة من رئيس دولة إلى القمة، وهي لا توضع في الأدراج. وتركته ومشيت).
> هل كان العتب عليك من الدول التي كانت ميّالة لمناقشة الموضوع في المواقف؟
- لو كان أحد تشاور معي قبل ذلك لكنت أشرت عليه بطريقة مختلفة، وكان الحريّ بهم أن يعرفوا أنهم لو تشاوروا معي مسبقاً لما كان ذلك سيعني أنني سأنقل ذلك التشاور إلى أيّ كان. كنت سأشير على مَنْ اقترَحَ أنه بما أن هذا موضوع حساس جداً ونحن في قمة علنية، فيجب أولاً أن نضع المسألة العراقية على الأجندة، وهذا ليس صعباً، فالوضع في العراق وتطوراته كان يجب وضعه على الأجندة في كل الأحوال، ثم يُثار هذا الوضع في إطاره، بما في ذلك الرسالة الإماراتية، ولكن لا تكون هي نقطة البداية، بل مناقشة الوضع في العراق، بغرض أن ينتهى باقتراحات وحلول، منها استضافة صدام في الإمارات. وكنت مستعداً لأن أحاجج الوفد العراقي من هذا المنطلق. لكن لم يتشاور معي أحد وفوجئت بالرسالة التي سلمني إياها ملك البحرين فكيف لا يتم التشاور مع الأمين العام؟ وأنا -كأمين عام- أمينٌ فعلياً على كل ما يُقال لي، لأن هذا أمر يتعلق بشأن عربي مهم وحساس. هم اعتقدوا ربما أن كون الأمين العام مصرياً سينقل الأمر إلى دولته، والواقع أن هذا لم يكن أسلوبي في العمل، وقد وزعت الرسالة، كما ذكرت، وتسلم الوفد العراقي نسخته، فكان ما كان من ثورتهم وتهديداتهم،وربما أدى هذا إلى تراجع الوفود العربية عن المناقشة الرسمية، خشية حدوث ما لا تحمد عقباه.