عرفته قبل أكثر من 22 عاماً، جمعنا مبنى واحد كنا نعمل فيه معاً، أنا في صحيفة (الجمهورية) وهو في (هاوكاري) لطالما تلاقينا وتمازحنا وتحادثنا، وقد عرفته عراقياً مخلصاً وصحفياً دؤوباً حريصاً على عمله، وفياً لتربة العراق الواحد من الفاو حتى ذرى دهوك.
انه عبدالله عباس، الكاتب الصحفي العراقي الرائع، الذي لم يعرف الا العراق وطناً، بعيداً عن كل الخرائط العنصرية والتسميات الشوفينية، يكتب عن الجريمة الأميركية في العراق في ذكراها العاشرة.
لمناسبة مرور 10 سنوات على الجريمة الأميركية في العراق
عبدالله عباس
بمنطق المثل العراقي (هل النخبة التي تدير أمـريكا لا تموت لأنها لا تستحي)؟!
تذكرت القول الخالد للإمام علي، كرم الله وجهه، [حين سكت أهل الحق عن الباطل، توهَّم أهل الباطل أنهم على الحق] وأنا أطالع كتاب (الدور الأمريكي في بناء الشعوب من ألمانيا إلى العراق) وفي (تمهيد) الكتاب إيضاح يقول [ يحتوي هذا التقرير على أفضل نتائج دراسة أجريت بشأن أحسن التجارب في بناء الشعوب .....!!] ويضيف [ كان الهدف من إجراء هذا العمل الوثائقي هنا ، هو تحليل واستخلاص أفضل تجارب خبرات الولايات المتحدة في بناء الشعوب من فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية .....إلخ ].
وأغرب سطر في الكتاب للتأكيد على غرور النخبة الأمريكية في عالم فرضوا عليه سطوتهم بشراسة ووحشية، وبحجج باطلة، يظهر في قول معدي الكتاب (التقرير) [ .... والآن من الواضح ، أن بناء الشعوب هي مسؤولية لا مفر منها للقوة العظمى الأوحد في العالم ، فمتى ما تم تقبّل هذا التعريف ، يمكن للولايات المتحدة أن تعمل الكثير من أجل تجهيز نفسها بأفضل صورة ممكنة لقيادة مثل هذه المهام ...!؟] والشعوب التي تتباهى بتقرير أن لأمريكا دور في بنائها هم الشعوب (ألمانيا ، اليابان ، الصومال ، هاييتي ، البوسنة ، كوسوفو ، أفغانستان ، وأخيراً العراق ) الذي أقل ما يقال أن أمريكا كذابة ، ولم تعمل شيء لبنائها ، بل عملت كثيراً لإذلالها.
هذا الشعب وبلده لا يزال تحت رحمة البند السابع ، الذي وضعها محررها تحت طائلتها منذ تسعينات القرن الماضي ! وعندما تقرأ تاريخ حضارة اليابان ترى أنها تعود إلى 560 ق . م وتَكَوّن نظام مركزي فيها على أساس حضاري بَنّاء عام 220 ق . م ، ولكن عندما وصلتها يد ( حضارة الدمار الأمريكي ) في الحرب العالمية الثانية ، من خلال سلسلة هجمات جوية مكثفة ، دمرت قوات أمريكية ما مساحته 16 ميلاً مربعاً من طوكيو ، بإسقاط القنابل الحارقة ، وقتلت 100 ألف شخص في يوم واحد ، وشرّدت مليون نسمة ، وتعرّضت أثناء الحرب حوالي 64 مدينة يابانية للقنابل ، وألقت قنبلتين نوويتين فوق مدينتي هيروشيما وناكازاكي ، وبعد هذه المجازر قال الرئيس الأمريكي هاري ترومان ، وهو يكنّ في ضميره الثقافة الأمريكية متباهياً بهذه الجريمة ( العالم الآن في متناول أيدينا ) .
وضمن قائمة بالتهم الموجهة للقوات الأمريكية بارتكاب جرائم حرب ، هناك وثيقة تؤكد أن هذه القوات اغتصبت النساء بعد معركة أوكيناوا باليابان سنة 1945 . وهناك 1336 حالة اغتصاب تم التبليغ عنها في العشرة أيام الأولى لاحتلال ولاية كاناجاوا بعد استسلام اليابانيين فيها .
إن من له وعي ثقافي أو سياسي حتى في حده المتواضع ، إضافة إلى ضمير حي في تقييم الأحداث ، عندما يقرأ أكاذيب وتقليب حقائق تصرفات كل القوات الأمريكية التي قاتلت خارج الأراضي الأمريكية ، فلابد أنه يشك بكثير من كتب وتوثيق أحداث العالم المعاصر ، وأنه من الحق أن لايرى فيها إلا محاولات الأقوياء الوحوش ليسجلوا ما يعملو من أجل الهيمنة ، كأنهم هم من يهبوا الحياة للبشرية على الأرض !
لا نقول شيئاً جديداً أن من يقرأ حقيقة ظهور ( النخبة المتنفذة الأمريكية ) المعروفة بـ ( الولايات المتحدة الأمريكية ) التي أسس بنيانها على جماجم ملايين الهنود الحمر ، يصل عددهم في بعض الإحصائيات إلى أكثر من 100 مليون ، وهم السكان الأصليون لأمريكا ، وبعدها أصدرت النخبة المتنفذة ، قراراً بتقديم مكافأة مقدارها 40 جنيهاً ، مقابل كل فروة مسلوخة من رأس هندي أحمر ، و40 جنيهاً مقابل أسر كل واحد منهم ، وبعد 15 عاماً ، ارتفعت المكافأة إلى 100 جنيه ، و50 جنيه مقابل فروة رأس امرأة أو فروة رأس طفل ، وأصدرت بعد ذلك قانوناً بإزاحة الهنود من أماكنهم إلى غربي الولايات المتحدة ؛ وذلك لإعطاء أراضيهم للمهاجرين ، وهُجّر إلى المناطق الجديدة أكثر من 70 ألف هندي ، فمات كثير منهم في الطريق الشاق الطويل ، وعرفت هذه الرحلة تاريخياً : برحلة الدموع ، وفي عام 1763م أمر قائد أمريكي برمي بطانيات كانت تستخدم في مصحات علاج الجدري إلى الهنود الحمر ؛ بهدف نشر المرض بينهم ، مما أدى إلى انتشار الوباء الذي نتج عنه موت الملايين ، ونتج عن ذلك شبه فناء للسكان الأصليين في القارة الأمريكية ، فكانت هذه الحادثة هي أول وأكبر استخدام لأسلحة الدمار الشامل ضد الهنود الحمر ، وفي إحدى المعارك قتلت أمريكا فيها خلال ثلاثة أيام فقط 45 ألفاً من الأفريقيين السود.
قديماً قيل ( فاقد الشيء لا يعطيه ) ، إن النخبة الطامعة في الكسب من خلال الدم والهدم ضمن حدود انطلاقها ( وهذه النخبة في أمريكا تَكَوّنت منذ ذلكَ التأريخ من ثلاث مؤسسات : العسكرية والسياسية والشركات الكبرى ) لا يمكن أن يخرج خارج حدود نشأتها إلا لتوسيع أطماعها من خلال الهيمنة ، ولا يمكن أن تكون قوة البناء للآخرين !
أدعو القارئ الكريم بأي مستوى من الفهم السياسي أن يتأمل في الصورة أعلاه ، وهي صورة التقطت الأيام الأولى للاحتلال الأمريكي للعراق ، رجل أعزل مع طفله ألقي القبض عليه – قوة تحرير العراق المسلح بأفتك السلاح وأمام طلقة منهم لا يساوي هذا المسكين قوة ذبابة !! ولكن انظروا كيفية تعاملهم معه بهذه الصورة الوحشية ، والتي تعبر الصورة عنها ، ولا داعي لأي تعليق ، إذاً كيف يخدعنا أصحاب تقرير ( الدور الأمريكي في بناء الشعوب من ألمانيا إلى العراق ) أنهم جاءوا إلى العراق من أجل البناء ؟ ونخبة الشر الأمريكي قبل أن تطلق يد قواتها الوحشية لتبدأ التعامل الوحشي المباشر مع العراقيين - كما يظهر في الصورة - حيث تعرف العالم أنها بدأت بالتخطيط لتحطيم العراق وإذلال العراقيين منذ تسعينات القرن الماضي ، عن طريق العقوبات الاقتصادية والتي شملت حتى حبة الأسبرين ، وبذلك دمرت المجتمع العراقي ، وعن طريق الاحتلال المباشر دمرت الدولة عقب 2003 ، وفي حرب الخليج الثانية ضد العراق ، لقد قُتل أكثر من مليون طفل عراقي ، بسبب قصف الطائرات الأمريكية للعراق ، وأصيب الآلاف من الأطفال الرضّع في العراق بالعمى لقلة الأنسولين ، وهبط متوسط عمر العراقيين 20 سنة للرجال ، و11 سنة للنساء ، بسبب الحصار والقصف الأمريكي ، وأكثر من نصف مليون حالة وفاة بالقتل الإشعاعي ، والآن وبعد مرور 10 سنوات على بدء (المحررين الأمريكيين !!) ببناء العراق حسب ادعاء التقرير المذكور ليس نحن العراقيين ، بل التقارير الدولية المحايدة تعترف نصاً ( ...أن كثيراً من العراقيين الذين التقاهم يقولون : أن محطات الكهرباء التي قصفها الأميركيون في استهدافهم مرافق البنية التحية عام 1991 تم إصلاحها بسرعة باستخدام موارد عراقية فقط ، واليوم ورغم توفر الأموال ، وعدم وجود مقاطعة خارجية وعقوبات ، نرى أن الحكومة التي ترتبط بالإدارة الأمريكية باتفاقيات إستراتيجية طويلة الأمد تعجز عن توفير الكهرباء المطلوبة ) وبعد مرور 10 سنوات على ( مبادرة النخبة الأمريكية ) ليكون الشعب العراق ضمن الشعوب التي تدعي هذه النخبة ( لا تخجل من الكذب ) من هذا النوع الثقيل الذي يتحدث عنه في تقرير ( الدور الأمريكي في بناء الشعوب من ألمانيا إلى العراق ! ) ليس نحن العراقيين بل مصادر معلوماتية دولية رزينة تتحدث عن دلائل ملموسة عن كذب هكذا ادعاءات ( جهد الإدارة الأمريكية في بناء الشعوب ) ولابد أن العالم اطلع على تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش الذي أكد أن ناتج الاحتلال الأمريكي في العراق بعد 10 سنوات لم يجن العراقيون منه سوى نظامين سياسي وعدلي "ملعونين" وإرث من الإدارة الأمريكية "يسمح للأجهزة الأمنية والمسؤولين بارتكاب جرائم وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان من دون محاسبة"، وبيّنت أن بعد هذه السنين ما موجود في العراق هي مؤسسات "ضعيفة وفاسدة" غير قادرة على تحقيق العدالة للمواطنين.
أما مصادر المعلوماتية من بريطانيا وكما جاءت في صحيفة الغارديان ، والتي كانت حكومتها عام 2003 حليف وشريك جريمة تخريب ( وليس بناء العراق ) وأيضاً لمناسبة مرور 10 سنوات على تلك الجريمة أكدوا أن عامة البريطانيين اقنتعوا لفترة في بداية الحرب بأن التدخل العسكري في العراق ضروري ، لكن بحلول عام 2007 أصبح نحو 83 % من البريطانيين يعتقدون أنهم خدعوا ، وأنه قد تم استبدال كارثة بأخرى ، ونصف البريطانيين الآن يعتقدون أن حرب العراق دمرت سمعة بلادهم .
أما تباهي التقرير الأمريكي عن دوره في بناء الشعوب ألمانيا واليابان فهي كذبة من نوع لا تخجل من ممارسته كل ما هو قبيح وقذر .
إن النهوض الذي بدأه اليابانيون والألمانيون بعد الحرب يعود لعراقة هذين الشعبين ولا فضل لمجرمي الأمريكيين الذين قتلوا منهم الآلاف ودمروا بلدانهم، أما ما يخص العراق، فإن النخبة المتنفذة في الإدارة الأمريكية احتلته من أجل تحطيمه ، بل بدأ بذلك وبشكل مخطط ومدروس بإعداد كثير من مستلزماتها؛ لعدم نهوض العراق والعراقيين يجري كل ذلك والنخبة الشريرة التي تدير أمريكا لا تخجل من نشر تقرير مليء بالكذب، لماذا ؟ لأنها مع الأسف تعرف أنها زرعت بذراً في عصر تنهار فيه كثير من القيم أمام تبرج عصر الحضارة الكونكريتية الخالية من الروحية الإنسانية، وتستسلم وبسهولة لماديات الحياة، وفي الظاهر أن هؤلاء ضامنين أنه عصر ( سكوت أهل الحق إلى حد أن من حطم العراق وأغرق شعبه في جحيم المحاصصة والطائفية و الفئوية والمناطقية ، وسلم البلد بيد طوابير من المفسدين ، وأن صقر حرب تدمير العراق دونالد رامسفيلد أشرف بنفسه على تأسيس ميليشيات ذات طابع طائفي والتي لا يزال لها اليد الطولى في نشر الفوضى في العراق ) والآن يتباهى من عمل كل هذا الباطل وكأنه على الحق (ولا حول ولا قوةَ إلا بالله) .
ملاحظة:
نشر المقال هنا.