وجهات نظر
صبحي غندور
الحديث عن جمال عبدالناصر ليس دائما حديث ذكريات إيجابية أو سرد لسيرة بطل تاريخي، بل نجد الحديث عن عبدالناصر في معظم الأحيان يتراوح بين حبّ العاشق الذي يرى الكمال في محبوبه، أو حديث الحاقد الذي يعمّم جزئية سلبية على كلّ الصورة، فلا يرى إلاّ السواد والظلم والظلام. فالحبّ الشديد والحقد الشديد كلاهما يتساويان في تسبّب غشاوة البصر وأحيانا في الإصابة بالعمى.
ولا أعلم إلى أي مدى سأكون قادراً على رؤية جمال عبدالناصر بعيْنٍ موضوعية مجرّدة عن العواطف والمشاعر، وهو كان بالنسبة لي، كما لعشرات الملايين من العرب، قائداً ورمزاً وبطلاً قوميا
ً أعتزّ بالانتماء إلى مرحلته وإلى ما طرحه من أهداف وغايات.لكن جمال عبدالناصر لم يكن قائداً عربياً فقط، بل كان أيضاً حاكماً ورئيساً لشعب مصر. فبينما عرفه العرب غير المصريين بدوره كقائد تحرر قومي، عرفه شعب مصر إضافة إلى ذلك كحاكم يحكم من خلال أجهزة وأشخاص، فيهم وعليهم الكثير من الملاحظات والسلبيات.
بدايةً أريد التأكيد أنّ الناصرية هي كلمة رفض عبدالناصر نفسه استعمالها. وقد استخدمت "الناصرية" للتعبير عن تيّار شعبي عربي مناصر ومؤيد لناصر، كالقول (الديغوليين في فرنسا)، وليس تسمية لعقيدة ايديولوجية شاملة. ولعلّ أفضل الحالات المشابهة والمعاصرة أيضا لحالة عبدالناصر هي:
أولا: حالة المهاتما غاندي في الهند (الذي قاد الأمّة الواحدة المحتلّة من الإنكليز).
ثانياّ: حالة ماوتسي تونغ في الصين (الذي قاد الأمّة الواحدة المحتلّة من اليابان).
ففي هاتين الحالتين ظهرت قيادة واعية مخلصة لأمّتها وطرحت أفكاراً من وحي ثقافة أمّتها وحضارتها وأضافت أبعاداً فكرية خاصة بحكم التجربة العملية، ومارست أساليب عمل متعددة (فيها إيجابيات وسلبيات).
وكما كان مستحيلاً وجود رأي حيادي في الصين تجاه ماوتسي تونغ، وفي الهند تجاه غاندي، كذلك الأمر عربياً تجاه ناصر، يستحيل الحياد والموضوعية المجردة.
ومن الطبيعي أن يكون لكلّ فكرة أو عمل من يستفيد ومن يتضرّر منهما .. حتى الرسالات السماوية كان هناك من هم معها، ومن هم ضدّها وحاربوها.
لذلك أقول:
أولاً: لا أستطيع أنا، ولن يستطيع أيّ إنسان عربي غيري أن ينظر إلى تجربة ناصر من موقع الحياد الموضوعي المجرّد.
لكن يمكن النظرة إلى هذه التجربة من أحد أربعة مواقع:
1 – الحقد الأعمى: الذي لا يرى أية إيجابيات، ويأخذ الكلّ بجريرة الجزء الصغير، وقد يكون دافعه: فكري/ سياسي/ حزبي/ مصلحي خاص..
2- الحبّ الأعمى: الذي لا يرى سلبيات أو يضع الملامة كلها على "الآخر"، ولا يجد أية مشكلة ب "الذات".
3- الاختلاف الموضوعي: وهو الرأي الذي يُسلّم بوجود "الشكلين في الصورة الواحدة" – كالرسومات المستخدمة في علم النفس- لكنه ينظر إلى الشكل السلبي معظم الأوقات.
4- التوافق أو التأييد الموضوعي (وهو ما أحاول أن أنطلق منه): والذي يسلّم بوجود "شكلين في صورة واحدة" فيفصل بينهما ويجعلهما صورتين، ويعطي لكلّ واحدة منهما حجمها الحقيقي، إذ لا يصح المساواة بين الشكلين.
ثانياً: إننا كعرب لم نكن في فترة عبدالناصر (ولسنا كذلك الآن طبعاً) نعيش في ظلّ دولة واحدة، كما كان الأمر في حالة غاندي بالهند وماوتسي تونغ في الصين وديغول في فرنسا، ليكون الفرز على أساس المتضرّر والمستفيد من وجود طروحات وأعمال هؤلاء القادة التاريخيين..
بل أيضا كنّا عربياً (وما زلنا) ننتمي إلى أمّةٍ واحدة لكن في إطار دول وحكومات متعدّدة، وأثر ذلك على فهم تجربة عبدالناصر كبير جدا.
فهو كان لعموم العرب قائدا تاريخياً وبطلاً تحرّرياً، لكنّه أيضاً كان للشعب المصري حاكماً ورئيسا .. والحاكم يعني حكومة وبيروقراطية وأجهزة وإجراءات ..إلخ. وليس فقط مواقف وأفكار قومية وتحررية.. كما كان عبدالناصر مصدر خطر على الوجود والمصالح لدى العديد من الحكومات..
ثالثاً: رغم كلّ ذلك، يكفي شهادة لشعبية عبدالناصر في المنطقة العربية ما حدث في مناسبتين: يوم استقالته بعد حرب 67 (9 و10 يونيو/ حزيران)، ويوم وفاته في 28 سبتمبر/ أيلول 1970، حيث خرجت الجماهير العربية إلى الشوارع، من المحيط إلى الخليج، وبدون دعوة من أيّ جهة، لتؤكد تأييدها وحبّها الجارف لجمال عبدالناصر.
وما أحاوله في هذا العرض الموجز عن تجربة عبدالناصر هو "الفصل بين الشكلين في الصورة الواحدة" والتعامل معهما من حيث محاولة فهم أسباب وجود كل "شكل" أكثر من الاكتفاء بتعظيمه أو لعنته:
nهناك طبيعة تأسيس لتجربة جمال عبدالناصر: فقد قامت ثورة 23 يوليو بواسطة جبهة "الضباط الأحرار" وليس من خلال حزب أو تنظيم موحد الفكر وأسلوب العمل، وباعتماد على أسلوب التجربة والخطأ في تطوير النظام السياسي والإجتماعي.
nهناك ظروف داخلية وخارجية محيطة بالتجربة: تجزئة عربية وتعامل مع الساحة العربية أما من خلال الحكومات أو أجهزة المخابرات المصرية، وحرب باردة بين الكبار لكنها ساخنة جداً في دول العالم الثالث، حيث تركت هذه الحرب الباردة بصماتها على كل المعارك التي خاضها عبدالناصر وعلى كل مراحل التجربة.
nهناك عمر زمني محدّد لهذه التجربة (لا أقصد طبعا الانجازات المادية المستمرة الآن): بداية (1952) ونهاية (1970).
nهناك مراحل مرّت فيها هذه التجربة، وكان لكلّ منها سمة خاصة بها:
- مرحلة التحرر الوطني (1952-1956): التي رافقها تشكيل تنظيم "هيئة التحرير" في مصر لمرحلة حرب السويس.
- مرحلة المد العروبي والتحرر القومي (1956-1961): التي رافقها تشكيل تنظيم "الاتحاد القومي" لمرحلة الوحدة مع سوريا، وسياسة عدم الانحياز وثورات الجزائر والعراق ولبنان.
- مرحلة الفرز الاجتماعي (1961-1967): التي رافقها تشكيل "الاتحاد الاشتراكي" لمرحلة الطرح الإشتراكي الذي بدأ مع قرارات يوليو/ تموز 1961 الإشتراكية.
- مرحلة التضامن العربي والمواجهة مع الكيان الصهيوني: من مؤتمر الخرطوم (1967) إلى اجتماعات القاهرة لوقف مجازر الأردن (1970)، وهي مرحلة النضوج الفكري والسياسي لتجربة عبدالناصر، والبناء الداخلي السليم والعلاقات العربية التضامنية. وأهم مميزات هذه المرحلة: أولوية المعركة مع الكيان الصهيوني- أولوية التضامن العربي- أولوية البناء الداخلي السليم عسكرياّ واقتصادياً وسياسياً– إعلان بيان 30 مارس 1968- رفض الوحدة الاندماجية الفورية مع السودان وليبيا لعدم تكرار أخطاء تجربة الوحدة مع سورية، ورفض الانجرار إلى صراعات عربية "تأخذ من المعركة مع (إسرائيل) ولا تعطيها"، كما قال عبدالناصر.
لكن المشكلة بثورة 23 يوليو أنّ ساحة حركتها وأهدافها كانت أكبر من حدود موقعها القانوني .. كانت قضاياها تمتدّ لكلّ الساحة العربية، وأيضا لمناطق أخرى في إفريقيا وآسيا .. بينما هي محصورة قانونياً في مصر.
والثورة تحوّلت في مصر إلى أنظمة وقوانين، وكانت في ذلك تتعامل مع جانب محلي داخلي هو أساساً مبرّر حدوثها عام 1952 (المبادىء الستّة للثورة كانت كلّها محليّة مصرية).
وأعتقد - كوجهة نظر خاصة - إنّ "23 يوليو" بدأت ثورة مصرية، ونضجت كثورة عربية، ثمّ ارتدّت إلى حدودها المصرية بعد وفاة ناصر.
أهداف التجربة الناصرية
شعارات ثورة 23 يوليو (المبادىء الستّة) كانت كلها محلية خاصة بمصر ولم يكن فيها أي شعار عربي أو حتى خاص بالصراع العربي الصهيوني:
1- القضاء على الاستعمار وأعوانه في مصر.
2- القضاء على الاقطاع.
3- القضاء على الاحتكار.
4- إقامة عدالة اجتماعية.
5- إقامة جيش وطني قوي.
6- إقامة ديموقراطية سليمة.
n عبدالناصر كان قائداً تحرريا بالمجالين: الوطني المصري والقومي العربي، ولم يكن صاحب فلسفة خاصة أو نظرية فكرية متكاملة (هو نفسه أكّد ذلك في "الميثاق" وفي مناسبات أخرى).
n عبدالناصر كان يقف على أرضٍ فكرية محسوم فيها الجانب الديني (وما فيه من أبعادٍ فلسفية) والجانب القومي (وما فيه من تأكيدٍ للهوية العربية).
n عبدالناصر طرح مجموعة أهداف وغايات هي حصيلة واقع عربي عام (وأوضح معها أيضاً أساليب الوصول إليها)، وعلى قاعدة من الإيمان بالله ورسله ورسالاته السماوية، ودور الدين في المجتمع:
- الثورة الشعبية/ وليس عن طريق الصراع الطبقي/ والشعب هو: تحالف قوى الشعب العاملة: العمّال، الفلاحون، المثقفون الوطنيون، الجنود، الرأسمالية الوطنية غير المستغلة.
من أجل:
- الحرية الداخلية: ديموقراطية سياسية وديموقراطية اجتماعية.
- الحرية الخارجية: التحرر الوطني من الإحتلال.
- الاشتراكية: مفهوم التخطيط الاقتصادي الشامل، وبناء العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص في المجتمع.
- الوحدة والتضامن العربي والاستقلال القومي.
خلاصات حول فكر جمال عبدالناصر
أولاً: فكر جمال عبدالناصر كان مزيجاً من أساسات فكرية شخصية عنده عبّر عنها في مبادىء ثورة 23 يوليو وفي كتاب "فلسفة الثورة" وفي خطبه بالخمسينات، ثمّ تبلورت حصيلة التجربة والخطأ في إعداد "الميثاق الوطني" وتقريره عام 1962.
ثانياً: إنّ فكر جمال عبدالناصر تعزّز وتعمّق (بدعوةٍ منه أصلاً للمثقفين) من خلال كتابات عديدة ساهم بها مفكرون عرب، ومن مصر تحديداً، لبلورةٍ أكثر عمقاً لما وضعه عبدالناصر من خلاصات أهداف وغايات للأمّة العربية:
1- حرية بمعناها الشامل لحرية الوطن ولحرية المواطن.
2- حرية المواطن بمعناها المركّب من: الحرية السياسية والحرية الاجتماعية.
3- العدل الإجتماعي الذي كان ٌيعبّر عنه كمطلب باسم الإشتراكية.
4- الوحدة بمعناها الوطني الداخلي وبمعناها العربي الشامل، شرط الإجماع الشعبي عليها ورفض العنف كوسيلة لتحقيقها.
5- الإستقلال القومي في مجال السياسة الخارجية ورفض التبعية الأجنبية.
وقد إرتبطت هذه الغايات لدى عبدالناصر بثلاث مسائل:
الأولى: من حيث نبذ العنف كوسيلة للتغيير الإجتماعي أو السياسي أو للعمل الوحدوي القومي.
الثانية: من حيث الإستناد الى العمق الحضاري الإسلامي والدور الإيجابي للدين عموماً والقيم الروحية في المجتمع.
الثالثة: من حيث مفهوم ناصر للدوائر الثلاث التي تنتمي مصر اليها: العربية والإفريقية والإسلامية، وبحالٍ من التفاعل والتكامل بين الوطنية والعروبة والإنتماء الحضاري الإسلامي.
سلبيات خلال التجربة الناصرية
·دور أجهزة المخابرات (داخلياً وخارجياً) في المجال غير الأمني المحدد لها أصلاً، حيث حلّت الأجهزة مكان العمل السياسي المنظم والسليم البنية فكرياً وأخلاقياً، ثم آثار ذلك أيضاً على تعطيل الممارسة الديمقراطية السليمة رغم وجود البرلمان في مصر.
·دور البيروقراطية الإدارية (مراكز القوى) التي حلّت مكان الكوادر والقيادات وأصحاب الكفاءات.
·وجود المشير عبدالحكيم عامر لفترة طويلة في الحكم الى جانب عبدالناصر (وكذلك أنور السادات) والتساؤلات عن موقف عامر خلال أزمة السويس عام 56 ثم مسؤوليته عن اقليم سورية خلال الإنفصال عام 1961 ثم مسؤوليته العسكرية عن نكسة 1967.
·حرب اليمن وتفاعلاتها السيئة عربياً، وخسائر مصر فيها، ووجود الجيش المصري هناك خلال حرب عام 1967.
·الدور الفكري السلبي لبعض الجماعات الماركسية داخل "الإتحاد الإشتراكي" و"التنظيم الطليعي"، خاصة بعد تعمق العلاقة المصرية-السوفياتية.
ناصر في حقبة ما بعد عام 1967
nإعلان بيان 30 مارس عام 1968 -الذي وضعه عبدالناصر واستفتى الشعب المصري عليه - أوضح في بُعدَيْه الداخلي والعربي أولوية المعركة مع الكيان الصهيوني وضرورة وقف الصراعات العربية/ العربية (كما جاء في قرارات مؤتمر الخرطوم في العام 1967 ثم في إنهاء حرب اليمن)، والتركيز على بناء سليم للمؤسسة العسكرية المصرية وبدء حرب الاستنزاف مع إسرائيل التي مهّدت لحرب أكتوبر عام 1973.
nمقالات الأستاذ محمد حسنين هيكل بعد حرب 1967 أشارت الى قناعة عبدالناصر باستحالة "تصدير الثورة" وبضرورة الوفاق العربي وتعزيز دور العمل العربي المشترك من خلال الجامعة العربية باتجاه التكامل العربي.
أي انتقلت التجربة الناصرية في مراحل مسيرتها من عقد الخمسينات (حيث مرحلة التحرر الوطني والمد القومي العربي) الى عقد الستينات/ قبل نكسة 67 (مرحلة الطابع الاجتماعي والاشتراكي) الى ما بعد نكسة عام 67، حيث أولوية الصراع مع إسرائيل وإعتماد معيار الموقف من العدو الإسرائيلي (عربياً ودولياً).
ملخص وجهة النظر
· النظر إلى تجربة عبدالناصر في إطار الأوضاع التي كانت سائدة مصرياً وعربياً ودولياً وفي إطار الظروف الدولية التي كانت سائدة (الحرب الباردة وصراع المعسكريْن)، وفي إطار طبيعة النظام السياسي الذي قام على جبهة ضباط وليس على تنظيم سياسي موحّد الانتماء والفكر والأهداف، علماً أن معظم "الضباط الأحرار" كان في مطلع الثلاثينات من العمر. فناصر قاد الثورة وله من العمر 34 سنة، وواجه أزمة السويس والعدوان الثلاثي وهو في ال38 سنة، وكان رئيساً لمصر وسورية معاً وزعيماً عربياً ودولياً وهو في عمر الأربعين، ثم وافته المنية وهو في مطلع الخمسينات من عمره.
· مقارنة الحقبة الناصرية (16 عاماً منذ أن تولى ناصر رئاسة مصر بعد اللواء محمد نجيب في العام 1954) مع ما تلاها في مصر وفي أكثر من بلد عربي.. أي مقارنة إنجازات التجربة الناصرية في 16 سنة مع ما قام به أكثر من زعيم عربي في المدة الزمنية نفسها.
· دراسة الأهداف التي عمل من أجلها جمال عبدالناصر (مصرياً وعربياً ودولياً) وهل هي صالحة الآن وللمستقبل، مع أهمية المراجعة طبعاً في الأساليب والوسائل التي اعتمدت في حقبة زمنية مختلفة وفي ظروفٍ دولية لم تعد قائمة الآن. والنظرة إلى جمال عبدالناصر كقائد تحرّرٍ قومي عربي جسّد في في حقبة زمنية محدّدة مجموعة أهداف مشتركة بين العرب، حقّق بعضها وما زال الكثير منها لم يتحقّق بعد.
· النظرة إلى الحقبة الناصرية كتجربة عربية مميزة في القرن العشرين جمعت بين أهداف ووسائل، حيث التمييز ضروري في مجال التقييم والتقويم بين:
ضرورة عدم التراجع عن الأهداف، وضرورة المراجعة في الأساليب ونقدها وتقويمها. كذلك ضرورة إعتماد الرؤية الشمولية لدراسة مراحل تجربة عبدالناصر والتطور الذي حدث في مرحلة نضوج الثورة والدولة والشخص والفكرة (حقبة ما بعد 67)، وليس الحكم على تجربة ناصر عبر إختيار عشوائي من المراحل.
أخيراً، فإنّ "الناصرية" هي كلمة تحمل الكثير من المعاني- وأحياناً المضامين المتناقضة وسط من يحملونها كتسميةٍ لهم- وقد رفض عبدالناصر نفسه استخدامها (أي الناصرية) كتعبير.. فإذا كان هناك قناعة الآن لدى العرب بأهمية بناء نهضة عربية شاملة تصون وحدة المجتمع في الأمّة، وتُحصّن الوحدة الوطنية في كلّ بلد عربي وتعمل من أجل بناءٍ ديموقراطي سليم وتنمية اجتماعية واقتصادية، وتعمل أيضاً من أجل تكامل الوطنيات العربية واتحادها مستقبلا، فإنّ "الناصرية" في هذا المنظار تُصبح تجربةً مهمّة في التاريخ العربي المعاصر، نستفيد من إيجابياتها ونسعى إلى عدم تكرار سلبياتها. ونكون أيضاً أوفياء لأهدافها العربية الكبرى التي بدأت قبل عبدالناصر ويجب أن تستمرَّ بعده.
لقد اخترت كعنوانٍ لهذا الموضوع (وجهة نظر حول تجربة عبدالناصر) ولم أقل حول جمال عبدالناصر أو فكر عبدالناصر، بل قلت تجربة لأنّه هو نفسه اعتمد على تسلوب "التجربة والخطأ" محاولاً خدمة هذه الأمّة العربية وخدمة شعبها وخدمة وطنه مصر ومحيطها العربي والإفريقي والإسلامي، كما قال ناصر عن الدوائر الثلاث التي تحيط بمصر: العربية، الإفريقية والإسلامية، حيث كانت مصر وستبقى نقطة الارتكاز في هذه الدوائر الثلاث، إنْ صلح أمرها صلحت أوضاع الدوائر، وإن اختلّت فيها الأمور والموازين اختلّت الدوائر كلّها.
وإذا كان الذي يجتهد ويُصيب يُكافأ بأجريْن، ومن يجتهد ويخطئ له أجر واحد، فإنّ الحكمة في ذلك هي الحضّ والحثّ على الاجتهاد وعلى عدم الركون والرضوخ للواقع وما فيه من جمودٍ وتقليد، فإنّ عبدالناصر بهذا المعيار له حسنات عديدة.. لأنه لم يجتهد فقط فكرياً ونظرياً بل جاهد بحياته وعافيته من أجل العرب كلهم، فجرحه الأول كان في فلسطين ونوبة القلب الأولى أصابته بسبب الانفصال الذي حدث في سورية يوم 28 أيلول/ سبتمبر عام 1961، وإذا بالإرادة الإلهية تجعل يوم موته هو أيضاً 28 أيلول/ سبتمبر من العام 1970، ومن أجل صون الدماء العربية والفلسطينية التي كانت تُهدر في شوارع الأردن.
إن الوفاء سمة عربية وقيمة أخلاقية ودينية، وأعتقد أنّ من أدنى واجبات الوفاء أن نُكرم هذا البطل التاريخي الذي- بمعيار الوطنية المصرية- حقق الكثير من الانجازات لمعظم شعب مصر، و-بمعيار القومية العربية- فإنه أكّد وحدة هذه الأمّة العربية رغم المحاولات كلّها التي قامت بها القوى الكبرى منذ مطلع القرن العشرين من أجل تجزئتها وتفتيتها …
أيضاً، بمعيار القيم الدينية والخلقية، فإنّه كان حاكماً وقائداً نزيهاً ونظيفاً وزاهداً بالحياة الدنيا، فلم يعش حياة الثراء والبذخ وتوزيع مناصب الحكم على أفراد عائلته.
فرحمة الله على جمال عبدالناصر الذي جمع في شخصيته بين الإيمان بالله تعالى، وبين العمل الصالح من أجل الإنسان العربي أينما كان.