عبد الكاظم العبودي
لماذا يبدو المشهد العراقي على هيئة فوضى وجنون دموي عاصف وعنف أعمى وتشتت منظور يحاول ان يضعه البعض شرطا مستديما؟ وكأن الشعب العراقي تائه لا غاية له ولا عقلانية في توجهاته.
السؤال المطلوب اجابته في انتصار الفعل الديمقراطي تظاهرا واعتصاما وإضرابا عاما ثم عصيانا مدنيا، عبورا الى الثورة والتغيير. وعندئذ ستمسح تلك الصورة البائسة عن وجه شعبنا.
الصورة السلبية على سطح الاحداث اليومية تعكس مظاهر سطحية نراها كل يوم ونحن تحت تأثير الصدمات المتتالية منذ عقود وصولا الى الحصار والغزو والإحتلال، وهي حصيلة معقدة تترك آثارها العميقة عند تلك السمات الاجتماعية المتبقية او المبرمجة ضمن مخططات موضوعة ومدروسة ومفروضة على العراقيين قسريا.
ولولا هذه المحنة، لما كان الكثير منا ينشد التغيير ونراه داعيا الى ضرورة الخروج من هذا المستنقع. هناك من يرى، انطلاقا من فلسفة التاريخ، أكثر من درس يستحق التوقف عنده، ربما كنا قرأناه ولم نلتفت له، أو لم نتعلم منه بعد تماما خلال محنتنا المعاصرة.
بقيت أشباح من تلك الدروس وغبنا عن درس الثورات العظيمة في ذاكرتنا ودواخلنا وغيبناها أكثر من مرة عن وجوب التفعيل المطلوب وفي اللحظة المطلوبة الحاسمة.
لقد بات التأمل في الانعطافات الهامة في تاريخ العالم، كالثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، والثورة الروسية في بداية القرن العشرين، وهي كأحداث تاريخية هامة، ليست على مستوى فرنسا أو روسيا وأوربا فقط؛ بل ايضا على مستوى العالم. ولا ينبغي ان ننسى ثورة 1848 وربيع الشعوب الأوربية، الذين صفق لهم فاغنر ولامارتين وبودلير وهيجو وماركس وانجلز وسواهم من المثقفين والفلاسفة الأوربيين وكم من مرة راجعنا فصولها.
سيكون العصر العربي الحالي ضمن اهتمامات التاريخ الانساني المعاصر، وسيتوقف الكثيرون من مؤرخي العالم وسياسييه بإمعان عند ما يسمى الربيع العربي؛ فالانتفاضات العربية الجارية حاليا ستكون أمام خيارين: اما دفع الجماهير لكي تنتفض على الفساد والاستبداد وانهاء سلطة الحزب الواحد أوالعائلة الواحدة، واما تعيد الوعي التاريخي للجماهير عندما تشعر الشعوب بانتقاص يمس كرامتها الوطنية وبامتهان لاستقلال بلادها وعند تسيد الطارئين والتابعين للخارج على حكمها واختطاف سلطات بلدانها.
ويبدو ان مسار الربيع العربي الذي أرهب الغرب والصهاينة والتوجهات الامريكية قبل ترهيب الحكام العرب عاد الى تهدئة هؤلاء في محطة حرجة عندما قدمت نتائج الربيع العربي الانتخابية بدائل لفئات سريعة ومفاجئة وطارئة على الحكم خطئت بوصولها كل الحسابات السياسية السابقة، حيث تمكنت بعض القوى الإسلامية من ركوب موجة الممارسة الديمقراطية فحسمت في جولاتها الاولى نتائج الصندوق وجرفت الوعاء الانتخابي لصالحها على حساب انحسار القوى الأخرى، وخاصة القوى العلمانية والقومية والليبرالية.
وهكذا فان العملية السياسية التي أعقبت اضطرابات الربيع العربي أضحت ثمارها مقتطفة لصالح قوى وظفت الخطاب الديني، وسيلة تعبوية لحشد الجماهير المتطلعة الى تغيير حقيقي في حياتها السياسية وفي مسائل مصيرية مرتبطة بحرياتها. ولكن سيادة الطغيان من جديد بيد الفئات الاسلامية الصاعدة ادى الى ردود فعل سريعة أعادت للشارع العربي تمرده وقلقه وحتى صدامه مع السلطات الجديدة التي استعانت بجهاز القمع القديم الذي اضطهدها يوما لصالح الحاكم السابق، لتستخدمه ضد حلفاء ساحاتها بالأمس.
وفي العراق لم يسقط النظام الوطني السياسي القائم عشية الغزو والاحتلال فقط؛ بل كان هناك سقوط مدوي لدولة ومجتمع وحدث تفكك لمجموعة قيم تآكلت وسقطت مرة واحدة بفعل آليات الحصار، وعوامل فعلها الاحتلال، وآليات خبيثة أعتمدت للتفكيك القسري للمنظومة الاجتماعية العراقية وتنظيماتها ومكوناتها.
هل نحتاج الى فلاسفة وعلماء اجتماع ومؤرخين ومنظرين ونخب منها باتت تبكي على أطلال المذكرات الثورية لها، وتجلس مشدوهة أمام مشاهد ورود الأخبار العاجلة الى مكاتبها وحواسيبها وتواصلها الاجتماعي؛ أم اننا سنحتاج الى الرواد والطلائع والنشطاء في الفعل اليومي والقيادة والتأثير المباشر وسط الجماهير.
واذا كان المشهد العربي العام يشير الى تصدر القوى الاصولية والسلفية في كثير من الساحات؛ إلا أن الغياب الكلي للمثقفين العضويين والفاعلين الاجتماعيين بات سائداً وملموسا، وان صورة المشهد توحي الى قدوم استبداد من نوع جديد، وحضور خطاب يكرس مشروعيته في حق الحكم نيابة عن الخالق، ويوكل البعض على حكم المخلوق، وهذا كله حذف عنفي لمفهوم وحقوق المواطنة، وسيجعل من عبيد الله اتباعا خاضعين لسلطات ثيوقراطية تحكم باسم الله والدين وحتى أنها سمحت لنفسها أن تتصدر المذهب والطائفة وتتجاوز العشيرة والهيكلية الاجتماعية الموروثة وتنصب نفسها، أو تضع السلطة كلها بيد رجل الدين المسيس أو وكلائه محققا ولاية الفقيه بوجهها السلطوي الغاشم .
وهكذا أفرز التجييش المليوني للحشود، والدعوة الى الخروج ضد ارادة الحاكم حالة معقدة وشائكة الحل، وجد الخطاب الديني بؤرة انطلاقته من الجوامع وفي مواعيد صلوات الجمعة مما اعطى للأصوليات الاسلامية فرصة استغلال هذا الخطاب في التعبئة وفي الممارسة الانتخابية والسياسية وحتى عند محاولة وضع الدساتير الجديدة وتشريع النظم الانتخابية. وهكذا تم تحويل القواعد الجماهيرية الساخطة بالأمس على حكامها الدكتاتوريين الى ملاحق وحشود مرتبطة بالتنظيمات الاسلامية التي يقودها الاخوان المسلمون والجماعات السلفية.
والغريب ان الغرب الذي عاد فأبدى قلقه من نتائج الانتخابات في مصر وتونس، وهي النتائج التي تمت بمباركته وبتأييد منه، جند لها الغرب ماكنة اعلامية ضخمة، ودعما ماليا خليجيا كبيرا. دعم الغرب لتلك القوى ينطلق من اعتماد سياسة مقصودة في محاولة تغييب القوى الفاعلة والصاعدة والمتطلعة الى التغيير الجذري للنظام العربي الرسمي والحداثة المعاصرة لحياة العرب. وهذا لا يصب بمصلحة الغرب ودوائره وتطلعات اسرائيل في المنطقة. وهكذا خسرت المنطقة العربية فرصة هامة من فرص التغيير عندما تسلطت عليها قوى اجتماعية لا تؤمن بالتغيير الثوري الجذري، وهي تحاول ان تكون محافظة في توجهاتها، لذا أبدت السلطات الجديدة منها استعدادا غير متوقع للمساومات وعقد الصفقات السياسية، شرط ابقائها وتمكنها من البقاء في السلطة والتنعم بامتيازاتها.
ان الدكتاتورية والوصاية على الجماهير باسم الدين وشرعية احتجاز السلطة بيد رجال الدين ونشطاء الاسلام السياسي كان ترجمة لشعار مرفوع منذ سنوات بعيدة يرى حاملوه في " الاسلام هو الحل" ويدفع بكتلة هامة من الجماهير بحماس اليه، وعبره يتم الرضوخ لقناعات الضخ والتأثير النفسي لمنح تلك القوى الصاعدة بطموح الى السلطة فرصة الحصول على الاغلبية البرلمانية في كل الانتخابات التي جرت في اقطار الوطن العربي في كل من تونس ومصر والمغرب وحتى في العراق، مع استثناء الحالة الجزائرية التي خسرت فيها احزاب الاسلام السياسي الكثير من مواقعها السابقة نظرا لما اكتوت به جماهير الشعب الجزائري في سنوات الارهاب ووضع البلاد على حافة الحرب الاهلية. اما بقية البلدان العربية فان تلك القوى الاصولية والسلفية، رغم تشتتها في عديد القوائم الانتخابية، كانت تلقى الدعم المالي والإعلامي والسياسي، بسخاء لا نظير له من جهات اجنبية عدة، وفي مقدمتها دول الخليج والمال النفطي الذي دفعته بلدان السعودية وقطر من جهة وإيران من جهة اخرى، خاصة في حالة العراق.
ان النتائج التي افضت اليها عمليات الاحتكام الى الصندوق كانت مخيبة لآمال الجماهير العريضة، والتي بدت تستفيق من حالة شبه غيبوبة عندما وجدت في برلماناتها قوى واشخاص لم يرتفعوا الى مستوى رجال دولة ومجتمع، وعدم كفائتهم لأن يكونوا بدائل شرعية عن من سبقهم من النخب الفاسدة التي وظفتها السلطات السابقة قبل سقوط الانظمة العربية البائدة.
ومنذ الساعات الاولى لظهور النتائج الانتخابية تبين ان مجموعة الاسلام السياسي لم تخرج عن نطاق خطابها الديني القديم، بل ظلت تمارس به التوجيه والتحشيد وحتى التظاهر تحت عنوان " التظاهرات المليونية" وأضحت تمارس السلطة بعقلية المعارضة السابقة وسلوكياتها في التصدي بعنف لمعارضيها وبذلك فعلت من سرعة الاستقطاب السياسي في الشارع ومهدت لانقسام المجتمع بدلا من توحيده.
وعندما توجهت تلك القوى الصاعدة الى السلطة فانها لم تسع الى بناء مؤسسات النظم الجديدة، حيث أنها أبقت على هيكل الدولة القديم وأبقت كثير من مؤسساتها التي لم يتم هدمها كاملة، بما فيها أجهزة الامن السياسي والمخابرات ووحدات التدخل السريع والشرطة وادارة السلطات المحلية. توجهت بنهم نحو الاستحواذ على ما يسمى بالوزارات السيادية من داخلية ودفاع ونفط ومالية، تاركة لحلفائها مشاركات هامشية في السلطة الجديدة، تدفعها الى عقد الصفقات والرشى السياسية لتستفيد من مناهل الفساد السياسي والإداري، وظائفا وامتيازات ومقاولات. وظهر للجميع غياب اية حداثة سياسية أو اجتماعية، لا على مستوى التشريعيات ولا حتى في التنفيذ للقرارات التي تستدعي حلول مشاكل المواطنين منذ سنوات.
كما انها تخلت وبسرعة عن مهام حماية جماهيرها المستلبة والجائعة والاهتمام بشبابها الذي همشته البطالة والإقصاء والمطاردات وانعدام فرص العمل، بما فيها فرص النشاط السياسي في ظل التغيير المنشود للسلطة الجديدة. كما ان تلك القوى الصاعدة الى مواقع الحكم في البلدان العربية ظلت رهينة مواقف إمتنانها لمن دعمها في السابق من الرجعيات العربية والدول النفطية الخليجية المحافظة، فعادت تناشد حلفائها في النظام العربي الرسمي وتطلب الدعم المالي لسلطاتها، ولو على شكل هبات وقروض ومشاريع إستثمار، كانت تريد من خلالها تنفيذ صفقات سياسية وأخرى مالية فيها الكثير من وسائط اللصوصية والاختلاسات مقابل وقف التغيير الثوري المطلوب في هذا البلد او ذاك.
وهكذا لاحظنا ما جرى في اليمن ومصر وتونس حيث استسهلت تلك الحكومات العمل والتعاون مع الدول العربية الرجعية مستهينة بمشاعر جماهيرها التي عانت من تحالف تلك الانظمة الخليجية مع الحكام السابقين وهي التي دعمتهم في دكتاتورياتهم وقمعهم وتنسيقهم الأمني على حساب حرية الشعوب العربية وحركة تحررها الموؤودة.
ان مشاهد تبرير المثقفين السطحيين العرب في نكوصهم وتقوقعهم نراها ونسمعها عبر العديد من المنابر الاعلامية العربية، نسمعهم وهم يعلقون خيباتهم على مشجب نتائج الربيع العربي المعاصر في عديد البلدان العربية التي باتت مقلقة ومفزعة لهم ولغيرهم. وتبريرا لموقف الانعزال عما يجري في الشارع العربي يطرحون تحججهم، بما ارتهنت اليه الامور في اغلب بلدان الربيع العربي من نتائج بعد سقوط أنظمة الطغيان والفساد وحلول انظمة ثيوقراطية تستغل الخطاب الاسلامي والطائفي وتوظفه لتشديد قبضاتها على السلطة وهي في مرحلة ضعفها، ومنها في حالة التشكل منة جديد، وتبدو من بدايات ملامحها وممارساتها القمعية انها ستكون مستقبلا اكثر قسوة وتجبرا واستعدادا لقمع الجماهير التي اوصلتها الى السلطة عن طريق الانتخاب وعبر التصويت والصندوق.
التقوقع للنخب الثقافية عبر عن انتهازية الكثير من المثقفين في فترات سابقة، كانت العامل الاول في عزلتهم وخسارتهم كل الانتخابات في الدول العربية، حيث سجلوا فشلا ذريعا وماحقا، وبسبب تلك الخيبات بات الخيار الديمقراطي والحداثة المنشودة في مهب الريح والأعاصير السياسية في المنطقة.
وهم في حالة الانتظار ويعيشون سن اليأس بسبب رفضهم التجديد وتمسكهم في الوصاية على افكار الاجيال يعيشون حالة نكوص لا يحسدون عليها وعندما ترتفع بعض الاصوات منهم في تجمعاتهم المعزولة في تصوير مئآل الحتميات الى صالحهم فهم يخطئون مرة اخرى. وما لم تتم مراجعة شاملة ونقدية عن ممارسات وأخطاء الماضي البعيد والقريب فان العلل ستتسلل مرة اخرى الى جسد حركة التحرر الوطني العربية التي لم تتحرر بعد من كثير من الوصايات عليها.
وهنا لابد من الاحتراس من الوهم الذي يعيشه البعض من مثقفينا العرب: بان التاريخ لازال يتقدم، وهم جزء من مسيرة هذا التاريخ المنتظر، وهم يركبون موجة التأمل من دون سعي الى مستقبل بات مجهولا لعبث الاقدار فيه.
ومن دون تحرر تام من بعض تلك المنطلقات النظرية والتبسيطية فان التاريخ المنتظر هذا، تكمن فيه الكثير من العثرات والكبوات، وحتى حالات من الارتداد والنكوص المتوقعة ايضا؛ فنخب التكنوقراط والليبراليين منها ارتضت الانخراط في المشروع السلطوي العربي الجديد ومنها ما تبدي الاستعداد حتى في القابلية للتلوث المرضي والانغماس في الفساد الذي يستشري بمعدلات تتجاوز كل معايير الشفافية المحلية والدولية.
ومن النخب تتشارك في النهب المنظم مع السلطات، وتمارس وظيفة شاهد الزور على الممارسات في الانظمة الجديدة، بعملها معهم كخبراء وتكنوقراط، ومنها تتمادى في خضوعها لمصالحها الذاتية حتى عندما تضع نفسها تحت تصرف حفنة من الأميين والجهلة والطارئين وحاملي الشهادات المزورة والموظفين من دون استحقاق وكفاءة في الحكم الجديد وإشغال اهم مناصب مؤسساته وتسيير عملياته السياسية، كما هو الحال في العراق اليوم.
ان المقاومة العراقية التي هزمت الاحتلال الامريكي تظل تمثل حالة ثورية قائمة، لكنها لم تستكمل مسارها الى الشوط المرتقب لها، بسبب كثرة محاولات الخاطفين لثمرات تلك المقاومة، ومنهم من المستعدين للمساومة في آخر الأشواط لإتمام صفقة تاريخية على حساب آلام وتطلعات الشعب العراقي وتضحياته الجسيمة. وقد تراهن قطاعات منها ايضا على نهاية تلك الأشواط، لكنها تحاول البقاء في الظل، تاركة الساحات والخطاب السياسي لغيرها.
من هنا تتصدر واجهات التظاهر والاعتصام الكثير من الاسماء والشخصيات الدينية والعشائرية على حساب غياب المثقفين العراقيين وعناصر النخب الوطنية المستعدة للمقاومة حتى النفس الأخير. من هنا بات على المقاومة ان تدفع بنخبها الوطنية وممثليها الى ساحات العمل السياسي والتعبوي من خلال التمثيل لها داخل العراق وخارجه بشكل واضح تماما كما فعلت حركات التحرر عندما اعتمدت لها ممثليات ومكاتب خارج اوطانها لتسهيل التواصل معها.
ان التجربة المصرية والتونسية تفرض علينا الاحتراس قبل تسارع الاحداث المرتقبة في العراق. وكما يقال ان مكر العقل او مكر التاريخ، كما كان يردده هيغل سيظل قائما، وقد سبق للقرآن الكريم ان جاء في آياته بان ذكر بني البشر بالمكر، بمعناه الايجابي، الوارد في الآية : [ ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين].
بمعنى ان العقل والوعي بمسار التاريخ التقدمي يجب ان يسبق الاحداث قبل الوصول الى النهايات المفجعة لتربص سراق الثورات وخاطفيها، كما ان فلسفة التاريخ تذكرنا ايضا: ان استخدام السلبي للتوصل الى الإيجابي شئ ضروري جدا، ومن دون تجاهل الحقيقة في أن: [ التاريخ المكبوت والمحتقن تاريخيا ينبغي ان ينفجر بكل قيحه وصديده الطائفي والإثني حتى يشبع انفجارا]، وهو مرتقب في العراق في كل لحظة .
ان العراق ملئ بكل هذا القيح، وجبهاتنا الاجتماعية الداخلية متفجرة لسبب أو آخر، طالما انها مغيبة عن الوعي بالمصير، ومنها تعيش أحلام اليقظة ومنها سادرة في احلام الانتصار على الغير، ومنها الشاعرة بالغبن الإجتماعي، ومنها من تعاني الإجتثاثات والاقصاء والحرمان والمطاردة، وكلها عوامل تفجر وتفجير، ستمنع مرحليا التئام وولادة حركة ثورية عراقية موحدة او تسمح من انبثاق جبهة وطنية تعجل من خطوات الانتصار المطلوب.
ان استمرار الانتفاضة وبنفس طويل وتعبئة يومية يجب ان ترافقها حوارات عميقة ومسؤولة تسهم فيها نخب وطنية عراقية لتقريب وجهات النظر، لا داخل الفصيل الواحد؛ بل حتى مع الخصوم الآخرين، وكذلك عليها أن تنفتح على العالم لتتمثل بقناعة الجميع كونها حركة تاريخية جديدة للشعب العراقي، وعليها ان تقطع اشواطا من الانفكاك عن حالة تعلقها بالماضي ومغادرة ترسباته وثاراته وخلافاته التي فرضتها الاجتهادات الخاطئة السابقة.
ومن المخاطر في العمل الوطني، بكل اشكاله، محاولات الاستئثار في احتلال المواقع وفي كل المراحل على حساب تضحيات الآخرين، وعندما يتم تجاوز وحدة الوطن ووحدة الشعب يجري الحديث عن الأغلبيات الطائفية والأغلبيات القومية. وعندما يتم تزييف الوعي التاريخي وادراك وحدة المصير لنا، كشعب وكأمة، فان واجهات الاسلام السياسي تسارع الى ترديد مقولات تجزئة الشعب الى أغلبيات طائفية، بدلا من العمل على تشكيل الأغلبيات السياسية للوصول الى الحكم، وعلى هذا الاساس تجند الحملات الانتخابية عبر تشكيلات ما يسمى بالتحالف الوطني او القائمة العراقية أو التحالف الكردستاني، وهي جميعها قوى تسعى بذات الوقت الى اقصاء بعضها بعضا بممارسات اقرب الى الطائفيات منها الى الاحزاب السياسية، وهي تعلن دون مواربة تعلقها بالتمسك بالسلطة مهما كانت النتائج، لذا تدفع سياساتها بالصراع الطائفي الى سكب المزيد من الدماء. انها حالة اشبه بحالات القئ القميئ يدفع به الجسد العراقي المثخن بالجراح بكل صديد التاريخ المتزامن مع آلام لا حصر لها، تدفعها يوميا الاغلبية الوطنية الحقيقية الصامتة أو المغيبة.
هل هو قدر العراق هكذا؟ إبتلاء بنخب أو قيادات مكنتها القوى الاجنبية ان تتمكن من السلطة، أم انها فاتورة إضافية ستدفعها أجيال جديدة، واذا كان الامر كذلك، فكيف يمكن لطلائع هذا الشعب ان تخفض من كلفة الضرائب الدموية، وتصل بالعراق والعراقيين الى الشاطئ الآمن في حرية وأمان ومستقبل وضمان لبقاء العراق، بأقل كلفة ممكنة من الخسائر البشرية والمادية، وبمعدل زمني سريع.
لا يعفي احد من العراقيين نفسه من هذه المهمة، خصوصا ان الجماهير بحسها الثوري انتفضت ونزعت عن نفوس أفرادها الخوف والترقب والانتظار للمجهول. من هنا لا بد من الفعل المقاوم الخلاق، بكل صيغه وأساليبه وأدواته، ومن خلال تفاعلية خلاقة مرسومة ومدركة لحقيقة صراع الإرادات، لابد من إسقاط الانتهازية السياسية، وكذلك الرهانات القصيرة المدى، وحتى كل اشكال التدين السطحي، ورفض خطاب التعبئة باسم الدين والطائفة والمذهب ومظلومياته القديمة او الجديدة، لا يمكن ان يمر اي خطاب آخر على حساب الخطاب الوطني الداعي للتحرير.
ان تبرير الالتحاق بجبهة المقاومة وبساحات الانتفاضة والإضراب الوطني الشامل لا بد أن يكون إيمانا بحتمية مواجهة الشرور التي جاء بها المحتل وعملائه، ولا بد ان يمتلك العابرون والطارئون عقابهم بالعزل التام، لا مجال هنا لتحقيق حساباتهم الضيقة في اعادة كشف الدفاتر القديمة وصراعاتهم مع البعث او مناضليه أو تجيير الظرف المذهبي في السياسات والتحالفات مع السنة او الشيعة، في حركة التحرير العراقية لا بد ان تكون هناك جماهير وقادة، كلهم مواطنون وسادة في تقرير المصير. القادمون الى ساحات العمل الوطني برواسيهم القديمة وبتلك الحسابات يقدمون للسلطة التي تضطهدهم المزيد من الدعم والبقاء على صدر العراقيين.
واذا ما تحجج البعض بسطوة الخطاب الديني على الساحات، فان الخطاب الطائفي على ساحة السلطة وحلفائها بات كارثيا ويزكم الانوف في ضحالته، ويدفع الى التطرف على مستوى الجبهة المنتفضة الأخرى. وفي كلتا الحالتين يتم التجاوز على حق المواطنة والانتساب للعراق كوطن وشعب.
لسنا غرباء وشواذ عن مسار التاريخ الإنساني؛ فالوطن العربي، وان تفاوتت مراحل تطور بلدانه، يبقى ضمن اطار تحولات الإنسانية جمعاء، فالمراحل التاريخية التي قطعتها اوربا في أيامها الغابرة ، ها نحن نقدم عليها ونمر بمثلها. ولا بد من تجاوز الحدود الفاصلة بين العصور الحديثة عن ما قبلها من عصور الانغلاق والعزلة والمحافظة والتقليدية والقبلية والعشائرية والتمذهب والتمترس الطائفي والعزلة القومية، وكل الانقسامات المذهبية والطائفية، كلها عاشتها اوربا حتى انها اوصلتها في كثير من المرات الى حروب اهلية مروعة، وهي اكبر بكثير بما تمر بنا من احوال قاسية في بلادنا العربية، حيث ينقسم الشعب بين معسكر سلطة ظالمة وقوى حداثة تسعى الى التغيير وما بينهما تراهن قوى محافظة وانتهازية ومرتبطة بأجندات خارجية، تترصد الفرص للانتصار على الاثنين معا لو توفرت لها الفرصة لتصبح هي السلطة القمعية الجديدة، السلطة التي تلد من رحم السلطات القمعية السابقة، وتدفع الى نزف صديد اورام الاحتقان السابقة.
العراق سموه بمسميات، قد تسئ له لفظيا، كما يتراءى للبعض، وردت نعوت عنه في سجلات التراث والتاريخ، فهو بلد الشقاق والنفاق، وهو بلد الفتنة النائمة، وهو... ، لكنها شهادات عبرت عن مسميات لمكر سلبي، اما المكر الايجابي فيها، فهو بلد الانتفاضات والثورات العظيمة، وهو بلد التمردات ضد المظالم والطغاة، وهو بلد اعتاد على عدم الرضوخ للظلم الداخلي مهما كانت طائفة الحاكم أو دينه او مذهبه وقوميته، وهو الثائر والمقاوم ضد السطوة الاجنبية.
كم من مرة قلب العراقيون كل الحسابات واثبتوا انهم امة متحضرة ذات عمق ثقافي مستند الى تربة حرة جديرون بالبقاء.
لقد مرت على العراق فتن كثيرة وتمردات لا حصر لها، ولا يعصم تاريخ العراق احدا من الخطأ والتجاوز، طالما ان القاعدة في الحكم التي ترضي جميع العراقيين ليست حاضرة دائما، وتضيع دائما عندما يفرض البعض التجاوز على حق المواطنة لإنسان العراق.
العراقيون بعد كل محنة، ادركوا انهم بتحررهم، من عقد الارتهان لانتقام الماضي سيبقون عبيدا وضعافا وشتاتا، ولكنهم في كل مرة كانوا القادرين على تجاوز حالاتهم وانقساماتهم وتشتتهم بعمليات جراحة جريئة وبمراجعات اكثر الما وقسوة، ولا بد لهم في الحالات الصعبة عدم الانتظار للمسكنات والمهدئات؛ لأنها وسائل تأجيل الشعور بالألم ولا تلغيه.
لا بد من عراق يتسع للجميع، يتجاوز طموحات زعامات الأفراد على حساب مصلحة امته. وإذا ما تصدرت للعراق مجموعة من القيادات، فلا بد ان تتجاوز الاقصاء لطرف لحساب آخر. واذا كانت الطائفية هي مرضنا المستفحل اليوم فان حلها وتجاوزها ليس صعبا فإلهنا واحد وديننا واحد، وقرآننا واحد، وحتى انتمائنا القومي في العراق يكاد ان يتوحد في بعديه العربي الإسلامي، معبرا عن أمة عاشت على مر العصور تواقة الى الحضور الانساني تحمي اقلياتها وتقدم ابنائهم اسوة بالآخرين.
اوربا الموحدة امامنا تجاوزت انقساماتها وتعايشت بكل قومياتها رغم مرارات تاريخها الدامي القريب والبعيد، تعلمت من دروس محنتها في الانقسام كيفية الوصول الى الوحدة، ومن المخجل ان يهرع الجميع اليها طلبا في حفظ وحدة العراق شعبا وترابا. ان المصالح الدولية البعيدة والقريبة منا تريد العراق مريضا مقسما كي تسهل عملية استنزافه ونهبه وتدميره.
وفي خضم معركتنا من اجل تحرير العراق لا بد من القيام بعملية تفكيك لتداخلات الحالة الاجتماعية وترتيبها في اولويات انساق تنظيم المظاهرات والإعتصامات، ومن ثم تهيئة مستلزمات الاضراب العام او إعلان العصيان المدني كوسيلة تعبير سلمية، قد تقود الى الانتصار. وعندما تركب السلطة غير الشرعية رأسها، وتذهب، لا محالة، الى القمع وسيلة، فإنها بذلك ستوقع شهادة وفاتها بتوقيع مواطني العراق جميعا، بكل طوائفهم وأديانهم وقومياتهم.
لقد سبق ان تحدثنا وكتبنا عن اسباب انتكاسة انطلاقة الربيع العربي في العراق 25 فيفري/ شباط 2011 نظرا لخصوصية وضع العراق، كمجتمع لازال يعيش صدمة الإحتلال، وتعبث به تجارب جديد لا عهد للعراقيين بها، قد تعمل وتنشط باسم الديمقراطية وتؤمل الناس بالتداول على السلطة بطريقة سلمية؛ لكنها في ذات الوقت تغتال تطلعات الجماهير وتضللها من خلال واجهات معينة زكاها الاحتلال ونظمها ودربها ومكنها من تصدر المشهد السياسي في العراق ما بعد الاحتلال. وضع المحتل بيد اجنحة معينة من عملائه القوة والقمع والمال والإعلام وضمن لها مباركة المرجعيات الدينية والتقليدية.
ولم يغب عن المشهد العراقي تواطؤ المحتل الامريكي ودوائره المتنفذة لكي تجهض الانتفاضة العراقية والقضاء على مقاومتها ورجالها، لأن هذه المقاومة وجمهورها الوطني ستفضي الى ظهور قوى عراقية وطنية آمنت أولا بحقها في مقاومة الاحتلال وتتطلع بجماهيرها لاستعادة العراق لموقعه ومكانته العربية والدولية.
اهمية انطلاقة الربيع العربي في العراق 2011 ، أنها عجلت في تعرية الواقع من جهة وكشفت عن مدى استعدادات الجماهير للسير في الانتفاضة الى شوطها الاخير وحماية جماهيرها من جهة ثانية.
وفي العراق استغلت واجهات الاسلام السياسي، المذهبية الطائفية طريقا الى تجنيد جماهيرها باسم الدين والطائفة وكرست الخلاف الاجتماعي لمصالحها الفئوية، وعندما حسم حزب الدعوة، والتحالف الشيعي، استرضاء المرجعيات الدينية في النجف ومباركتها له، استقطبت المعارضة لنظام المالكي الجماهير في المناطق العربية في الوسط والشمال، واعتمدت في كثير من وسائل تعبئتها الخطاب الديني بشكل واضح وراح البعض يعزف على بعض التطلعات المذهبية والطائفية، وخصوصا الحزب الاسلامي الذي لم يغادر حكومة المالكي وبرلمانه ابدا.
وهكذا تقدم رجال الدين ودعاة السياسة باسم الدين على الجبهتين بخطاب التعبئة الطائفي، بحيث تقدم رجال الدين نشاطات العملية السياسية، والتقدم أمام صفوف الجماهير وتم استغلال المناسبات الدينية في التحشيد والوعظ والشحن الطائفي، في الجنوب بمناسبات تم التصعيد في ممارسة طقوسها، أو عبر صلوات الجمعة في مناطق الغرب والوسط وشمال العراق، وهكذا اصطفت صفوف مئات الالوف من العراقيين خلف هذا الامام او هذا الخطيب في صلوات وتجمعات تقاسمتها المساجد والجوامع والحسينيات.
وفي الحالتين ظل الخطاب الديني هو السائد على الخطاب الوطني او حتى على الخطاب القومي.
وفي غمرة انشغال المقاومة بإخراج المحتل عسكريا، كان المحتلون الامريكيون وخلفهم الإيرانيون، يوفرون مناخات شيوع الخطاب الديني في هذه الجهة او تلك وتصعيده نحو خلق حالة الصدام او تأجيجه في الشارع والمجتمع، وبذلك فهم يكرسون به انقساما وطنيا تحت طائل من الشعارات التي تدفع الى الصدام الاجتماعي قبل التوحيد في مواجهة المظالم.
وبعد الانسحاب الأمريكي، كان لا بد من وقف تلك الحالة، لأنها حالة تردي يراد لها أن تستمر، ولأنها إذا تقدمت فستشكل خطرا على مصالح الشعب العراقي ووحدته ومستقبله، ولأنها حالة مدانة وطنيا، كونها لا تريد الانتقال بالجماهير العراقية الى حالة ثورية متقدمة، وخاصة بعد خروج قوات الاحتلال وظهور نوازع الاستئثار بالسلطة بشكل دكتاتوري لصالح حزب الدعوة وايران.
لقد حسمت واجهات الاسلام السياسي، ذات الخطاب الديني المذهبي الشيعي وبطريقة ميكافيلية باتت معروفة، قضية التسلط وحسم الاستئثار بالسلطة وحكم العراق، وتوجهت نحو ممارسة دكتاتورية حزبها الدعوي على خصومها السياسيين في العملية السياسية، وامتد قمعها الى الطوائف الاخرى بدعم ايراني واضح وبتواطؤ أمريكي.
وعلى الجهة الاخرى وجدت المقاومة نفسها امام معركة مفروضة عليها بالوقوف الى جانب الجماهير المقموعة في كل العراق، وخاصة في المناطق التي كانت ولا زالت حاضنة للمقاومين، لكن تفاوت الاستعداد لمواجهة الدكتاتورية المالكية الجديدة جعلها تتواجد بشكل اكثر ظهورا في محافظات الغرب والوسط ومحافظات الشمال العربية.
ان حضور رجال الدين الى الساحات في تلك المحافظات وبهذا الوضوح، ما كان ان يتم ، بهذا الزخم والظهور البارز، لو ان القوى القومية والليبرالية والنخب الثقافية العراقية قد ظهرت موحدة ومنظمة ومتحالفة بمطالبها واحتجاجاتها وتحديها للسلطة الدعوية في أكثر من محافظة وساحة، بما فيها بغداد مركز الحدث والفاعلة فيه. وهذه واحدة من أخطر الحالات التي تواجهها انتفاضة العراق الآن. فالجماهير التي تستمع كل يوم الى خطاب تعبوي، بمضمون خطاب ديني، عبرت اكثر من مرة حاجتها الى خطاب وطني، وباستثناء خطاب الشيخ عبد الملك السعدي وعدد من خطباء الجمعة، فان بقية الخطاب الديني يتقدم على غيره، بفعل نشطاء الحزب الاسلامي وبعض القوى الاجتماعية المشاركة في الانتفاضة، منها تسعى الى تحقيق مصالح فئوية وسياسية تخدم اجنداتها الخاصة بها.
ولا شك ان نضج ظروف الانتفاضة، وهي تجتاز عتبة شهرها الثالث، يحتم عليها تجاوز الخطاب الديني نحو تبني الخطاب الوطني في كل اعلامها وبياناتها، وبإقدامها على اعلان الاضراب العام يوم 22 أفريل/ نيسان 2013، فانها ستنتقل في عملها التعبوي من التظاهر والاعتصام الى ادارة الحشود والأعمال والانشطة الواسعة المرتبطة بحياة الناس، وسوف تخرج من حالة التحشيد أيام الجمع والمناسبات الدينية، بما للجمعة وصلاتها من رمزية ايمانية وجهادية عند البعض، الى حالة العصيان المدني، معلنة عدم طاعتها لسلطة فقدت الشرعية.
كما ان يوم 22 نيسان 2013 هو اليوم الموالي لما سمي بالانتخابات المحلية التي ستفرز، كما يريد المالكي وحلفائه في العملية السياسية، سلطات جديدة ستنصب عبر العملية السياسية المدانة شعبيا. وبهذا المدلول وبإعلان الاضراب العام، تعبر جماهير الانتفاضة باسم شعب العراق رفض السلطة القائمة مركزيا ورموزها محليا، فالاضراب العام والعصيان المدني هو تعبير علتي لرفض وصاية اية سلطة تفرزها العملية الانتخابية التي تجاهلت صوت الشعب وتظاهراته في الساحات، والعملية الانتخابية التي جرت في محافظات دون أخرى، عملية وممارسة غير ديمقراطية دفعت بها سلطة المالكي الى ذروة الصدام والتعبئة في الانقسام الوطني وتجاهل جمهور وطني عراقي ظل رافضا اصلا لدستورها وقوانينها وسلطتها القمعية وما تفرزه من ممارسات.
في مرحلة الاضراب العام تنتقل قيادة الجماهير الى مواجهة كل المسؤوليات لتنظيم الحياة العامة في المدن والقرى، وعليها التكفل بالأمن وتوفير الخدمات والتأثير على الجماهير بخطاب آخر للتعبئة الوطنية، والدعوة الى تحمل نتائج الثورة المنتظرة على السلطة والاستعداد للتضحية.
من هنا سارعت حكومة المالكي الى جس النبض لمعرفة ردود الفعل بتطويق ساحة الاعتصام في الحويجة والتهديد باقتحامها وهي تراقب بقية الساحات وردود افعالها وفي خطوة تصعيدية وقحة دفعت قواتها الى محاصرة المنتفضين في الحويجة بالجرافات والسلاح وقطعت عنهم الماء والغذاء، لكن الساحات الاخرى سارعت الى التعبئة العامة دعما ونصرة للحويجة المحاصرة، وتجندت العشائر العربية ومعها القوى الشعبية وأعلنت استعدادها في المواجهة، وبذلك اعطت قطاعات ن ابناء الشعب دلائل ملموسة ورسائل الى السلطة والعالم ولبقية الساحات تعبر عن الاستعداد لحمل السلاح اذا اقتضى الأمر لحماية ساحة المنتفضين اليوم والإضراب العام غدا.
ان تطور الحالة نحو العصيان المدني وشموله محافظات عدة لانتظار التحاق البقية من المحافظات خطوة في الاتجاه الصحيح، وهي محطة لاختبار وطنية التضامن الوطني والتواصل بين الساحات، وستسمح هذه الخطوة على ظهور القادة في الميادين وعلى مستوى العراق كله، وعلى هؤلاء القادة الميدانيين وضع لبنات سلطة ثورية تدير المجموعات وتنظم نشاط المتطوعين لحفظ السلم وحماية حياة المضربين والممتلكات العمومية والخاصة وعزل السلطة الادارية والسياسية للنظام القائم، وبالتالي تعزيز دور القيادات الميدانية التي لها دور التسيير والتأثير الاجتماعي والإداري والسياسي تدريجيا. هذا النشاط الجماهيري سيمهد، وحسب تطورات الظرف السياسي والميداني للخطوة الاكثر اهمية ما قبل الشوط النهائي للإنتصار، اي التمهيد لسقوط السلطة القائمة ونظامها وأداتها القمعية ، وعندئذ ستجد الجماهير الظرف مناسبا لها لفرض سلطتها وإنهاء العصيان المدني بسلطة الشعب.
وهكذا بدخول الانتفاضة في العراق شهرها الثالث فانها تتجاوز مرحلة الظرفية وردود الفعل والانفعال الى حالة الفعل واتخاذ القرار بشأن مصيرها ومصير البلاد معها، وهي تفرض نفسها اليوم، كحدث وطني عراقي باعلان الاضراب العام، سيمتد في كافة انحاء العراق. ورغم تفاوت الحراك بين ساحة وأخرى؛ فالتظاهرات السلمية المستمرة تؤكد يوما بعد يوم انها منظمة وواعية ومنضبطة ومدركة لمراحل تصاعد الصراع وصيرورته مع سلطة طائفية مستبدة وطاغية لا بد من اسقاطها في نهاية المطاف.
والملاحظ المظهري على هذه الانتفاضة المتعددة الساحات انها موحدة المطالب مترابطة النشاط والشعارات من جهة، لكن غياب او ظهور القيادة الموحدة لها يشكلان مصدر قلق عليها، كما ان التغيب عن واجهتها الشخصيات ذات الكارزما او من هم قادة الفكر والرأي، وحتى قادة المعارك المنتظرة، من الذين يمكنهم ان يخطوا بها خطوات نحو مراحل اكثر اقداما لإنهاء حالة الانتظار في ساحات الإعتصامات وأولها خطوة الغد في الاضراب العام طريقا الى بقية مراحل الانتصار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق