وجهات نظر
صبحي حديدي
حين شاء الردّ على نقّاده الكثر، حول إقراره
السابق بأنّ إدارته لا تملك، بعد، ستراتيجية لمواجهة «داعش»، فقرّر أخيراً الإفراج
عن الركائز الأربع التي سينهض عليها معمار تلك الستراتيجية الوليدة، طاب للرئيس
الأمريكي باراك أوباما أن يضع المشروع ضمن سياقين، ومناسبتين: الذكرى الثالثة عشرة
للهجمات الإرهابية الأشهر في تاريخ أمريكا، يوم 11/9/2001، في نيويورك أساساً،
والذكرى السادسة لأسوأ «انتكاسة» اقتصادية شهدتها الولايات المتحدة منذ «الركود
الكبير»، أواخر عشرينيات القرن الماضي.
.. هكذا تكلم أوباما!
لا عتب على امرىء إذا خال أنه لا يصغي إلى
الرئيس الأمريكي الرابع والأربعين، بل إلى الرئيس الأمريكي الأوّل، أو بالأحرى كلّ
وأيّ رئيس أمريكي حين ينجرف إلى غنائيات امتداح الولايات المتحدة، خصوصاً في هذا
الجانب الأثير تحديداً: قيادة العالم. أم لعله ذلك المحلل السياسي الأمريكي
الظريف، أرنولد ستيل، الذي لم يتوانَ ذات يوم عن الشكوى من «عبء مقدّس»، حملته
أمريكا حين صارت «إمبراطورية بالصدفة العمياء»، حسب تعبيره: «على النقيض من روما،
إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً… نحن الذين
استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا»!
أو فلنعدْ إلى سلف أوباما، جورج بوش الابن، حين جرّد الحملة تلو الحملة ضدّ أنماط من الإرهاب كانت «القاعدة» اختزالها «الهمجي» و»البربري» الأقصى، قبل أن تتأسس «داعش»، وتكبر وتستفحل وتستشري، تحت سمع وبصر القوّة الكونية العظمى، فتضع «القاعدة» خلفها، وتستأثر بالصفات البغيضة جمعاء. ولنعدْ إليه في واحد من سياقَيْ أوباما، أي 11/9 وعواقبها، أسوة بجذورها، وكذلك، غنيّ عن القول، تنظيراتها التي راجت، ثمّ سادت، ثمّ بادت بفعل اشتراطات الحياة ذاتها: حين انتقل الجهاد من مفهوم غائم، منفكّ عن الواقع أصلاً، قريب أكثر من الخُلُق وجهاد النفس، إلى «صناعة» على يد الاستخبارات الأمريكية، في غمرة تهليل زبغنيو برجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي في رئاسة جيمي كارتر، فإلى سحر منقلب على الساحر، في أفغانستان والعراق والصومال واليمن وكينيا ونيجيريا، وأخيراً… إلى «خلافة» و»دولة إسلامية» و»داعش»، تتنادى للقضاء عليها قوى عظمى، وأمم، وأحلاف أطلسية!
بوش، قبل عقد من الزمان، كان يتمسح بتلك النظرية، الثابتة واليقينية والراسخة التي لا تتزحزح قيد أنملة عن معادلتها البسيطة، والتبسيطية بالأحرى: 11/9 كانت جولة للشرّ، ضدّ الخير (الذي ينبغي أن يبدأ من هاهنا: من واشنطن، والقِيَم الأمريكية، وطرائقنا في العيش، وديمقراطيتنا، وفلسفات سياستنا واجتماعنا واقتصادنا…)، ولا وسيلة لانتصار الخير على الشرّ إلا بما فعلنا ونفعل في أفغانستان والعراق (ثمّ في فلسطين ولبنان بالإنابة، أو بالتفويض، ضمن الشراكة مع إسرائيل، بوصفها الحليف والشريك)، وهذه الحرب على الإرهاب، بقيادة أمريكية دائماً، هي سمة القرن الحادي والعشرين.
أو فلنعدْ إلى سلف أوباما، جورج بوش الابن، حين جرّد الحملة تلو الحملة ضدّ أنماط من الإرهاب كانت «القاعدة» اختزالها «الهمجي» و»البربري» الأقصى، قبل أن تتأسس «داعش»، وتكبر وتستفحل وتستشري، تحت سمع وبصر القوّة الكونية العظمى، فتضع «القاعدة» خلفها، وتستأثر بالصفات البغيضة جمعاء. ولنعدْ إليه في واحد من سياقَيْ أوباما، أي 11/9 وعواقبها، أسوة بجذورها، وكذلك، غنيّ عن القول، تنظيراتها التي راجت، ثمّ سادت، ثمّ بادت بفعل اشتراطات الحياة ذاتها: حين انتقل الجهاد من مفهوم غائم، منفكّ عن الواقع أصلاً، قريب أكثر من الخُلُق وجهاد النفس، إلى «صناعة» على يد الاستخبارات الأمريكية، في غمرة تهليل زبغنيو برجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي في رئاسة جيمي كارتر، فإلى سحر منقلب على الساحر، في أفغانستان والعراق والصومال واليمن وكينيا ونيجيريا، وأخيراً… إلى «خلافة» و»دولة إسلامية» و»داعش»، تتنادى للقضاء عليها قوى عظمى، وأمم، وأحلاف أطلسية!
بوش، قبل عقد من الزمان، كان يتمسح بتلك النظرية، الثابتة واليقينية والراسخة التي لا تتزحزح قيد أنملة عن معادلتها البسيطة، والتبسيطية بالأحرى: 11/9 كانت جولة للشرّ، ضدّ الخير (الذي ينبغي أن يبدأ من هاهنا: من واشنطن، والقِيَم الأمريكية، وطرائقنا في العيش، وديمقراطيتنا، وفلسفات سياستنا واجتماعنا واقتصادنا…)، ولا وسيلة لانتصار الخير على الشرّ إلا بما فعلنا ونفعل في أفغانستان والعراق (ثمّ في فلسطين ولبنان بالإنابة، أو بالتفويض، ضمن الشراكة مع إسرائيل، بوصفها الحليف والشريك)، وهذه الحرب على الإرهاب، بقيادة أمريكية دائماً، هي سمة القرن الحادي والعشرين.
الأرجح أنّ ذلك الترحيل نحو الإيديولوجيا لم
يكن يستهدف التغطية على سوءات الإدارة الأمريكية وما يستشري سلباً ويتفاقم
كابوسياً في جبهات حرب القرن هذه، إذْ كيف يمكن حجب الشمس بغربال: في العراق الذي كان يقف كلّ يوم على شفير التفكك الوطني والحرب الأهلية المذهبية،
وفي أفغانستان حيث كان الطالبان يعودون صحبة والخشخاش وأمراء الحرب، ثمّ اليوم، في
سوريا المعاصرة، والعراق المعاصر، وليبيا، واليمن، والصومال…؟ كان غرض بوش آنذاك،
على غرار غرض أوباما اليوم، هو ردّ نقاش الإرهاب إلى المربّع البدئي الأوّل في
المعادلة العتيقة إياها، عن الخير والشرّ، والأسود والأبيض، والذي ضدّنا لأنه ليس
معنا. ذلك غرض لا يغطّي على إرهاب حلفاء الولايات المتحدة، وإسرائيل في المقام
الأوّل، فحسب، بل يكفل تسعير المزيد من النيران التي تشدّد رهاب الأمريكي في
الداخل، وتعصب عينيه عن حقائق ما جرى ويجري.
متغيّرات 11/9، التي طالت الحياة اليومية
الأمريكية، أتاحت سنّ قوانين الحدّ من الحريات، واستيلاد مكارثية جديدة، وتجميل
الغزو العسكري، وتسويغ أخلاقيات غوانتانامو وأبو غريب، وتطبيع المعتقلات الطائرة،
واعتماد السجون السرّية، وشَرْعَنة التنويع في أفانين التعذيب، والتعاقد مع أنظمة
الاستبداد والفساد لإنجاز مهامّ التحقيق القذرة… أمّا المظهر الأبرز لهذا
الانجراف، فقد كان مصطلح «محور الشرّ» الشهير، الذي اجترحه بوش في أعقاب 11/9، ولم
يتوقف عن إعادة إنتاج تجلياته حتى الساعة: «ما نزال نواجه تهديداً إرهابياً. ولا
نستطيع اجتثاث كلّ أثر للشرّ في العالم، كانت هذه هي الحال قبل 11/9، وهي تظلّ
صحيحة اليوم»، قال أوباما في خطبته الأخيرة.
المظهر الثاني، الذي يكمل الاشتغال المتغاير
على مصطلح «محور الشرّ» ويتناغم مع مفرداته العملياتية إذا جاز القول، هو تصنيف
الإرهاب الكوني. البيت الأبيض، بالأمس كما اليوم، سواء أكان الرئيس جمهورياً أم
ديمقراطياً، ما فتئ يعيد الأمريكي، ومعه العالم بأسره في الواقع، إلى ذلك المربع
البدئي الذي يصنّف أنساق الإرهاب، وأنساق الخير والشرّ استطراداً، من خلال التقرير
السنوي الشهير الذي اعتادت وزارة الخارجية الأمريكية إصداره. والحال أنّ هذه
التقارير، وما بعد 11/9 تحديداً، صارت لا تصف موصوفاً قائماً، بقدر ما تخترع وحشاً
متخيَلاً، فبات من نافل القول إنّ الأخصائيين الأمريكيين في شؤون الإرهاب
والإرهابيين لم يتعلّموا شيئاً من الدروس الدامية لهزّة 11/9، سواء على نطاق
الولايات المتحدة نفسها، أم في مختلف بقاع العالم.
رؤساء أمريكا لا يطرحون سؤال الإرهاب بوصفه ـ غالباً، وليس بين حين وآخر ـ مخلوق الفقر والفاقة والبؤس والمهانة، والعداء لسياسات الولايات المتحدة هنا وهناك في العالم، خاصة النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، أو ردّ الفعل على حرب أمريكا ضدّ الإرهاب… لهذا سوف تظلّ العناصر العليا، التي تتشكّل منها فلسفة الولايات المتحدة في «الحملة ضدّ الإرهاب»، قائمة على هذا الميزان: أغلقوا هنا ثغراً (أي: حاضنة!) للتشدد الإسلامي، الذي يهيىء المناخات ويصنع ويصنّع موضوعياً ظواهر التطرّف والإرهاب، ولكن لا بأس أن تفتحوا هناك ثغراً جديداً لتشدّد مماثل، أو أدهى، بهوية مختلفة وأجندات ملتهبة. وفي صياغة عملية، وأمثلة من التاريخ المعاصر: أغلقوا ثغور الطالبان في أفغانستان، وافتحوا ثغور «المحاكم الشرعية» في الصومال، وأغلقوها هنا، ومهدوا الأرض لانطلاقها في العراق، ثمّ بعد العراق، هنالك الزرقاوي و»الدولة» الأولى، و»الدولة» الثانية في العراق، التي ستصبح «داعش» في العراق وسوريا، معاً، ثمّ «الخلافة»، والـISIL كما يفضّل أوباما، للإشارة إلى المشرق برمّته!
أيّ عجب، إذاً، أن تفشل الحملات، فرادى وجماعات؟ وأنّ يواصل الأبرياء، عن فطرة او عمد، طرح السؤال الساذج: كيف، ومن أيّ سماء سوداء مدلهمة، يهبط الإرهاب، إذاً؟
رؤساء أمريكا لا يطرحون سؤال الإرهاب بوصفه ـ غالباً، وليس بين حين وآخر ـ مخلوق الفقر والفاقة والبؤس والمهانة، والعداء لسياسات الولايات المتحدة هنا وهناك في العالم، خاصة النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، أو ردّ الفعل على حرب أمريكا ضدّ الإرهاب… لهذا سوف تظلّ العناصر العليا، التي تتشكّل منها فلسفة الولايات المتحدة في «الحملة ضدّ الإرهاب»، قائمة على هذا الميزان: أغلقوا هنا ثغراً (أي: حاضنة!) للتشدد الإسلامي، الذي يهيىء المناخات ويصنع ويصنّع موضوعياً ظواهر التطرّف والإرهاب، ولكن لا بأس أن تفتحوا هناك ثغراً جديداً لتشدّد مماثل، أو أدهى، بهوية مختلفة وأجندات ملتهبة. وفي صياغة عملية، وأمثلة من التاريخ المعاصر: أغلقوا ثغور الطالبان في أفغانستان، وافتحوا ثغور «المحاكم الشرعية» في الصومال، وأغلقوها هنا، ومهدوا الأرض لانطلاقها في العراق، ثمّ بعد العراق، هنالك الزرقاوي و»الدولة» الأولى، و»الدولة» الثانية في العراق، التي ستصبح «داعش» في العراق وسوريا، معاً، ثمّ «الخلافة»، والـISIL كما يفضّل أوباما، للإشارة إلى المشرق برمّته!
أيّ عجب، إذاً، أن تفشل الحملات، فرادى وجماعات؟ وأنّ يواصل الأبرياء، عن فطرة او عمد، طرح السؤال الساذج: كيف، ومن أيّ سماء سوداء مدلهمة، يهبط الإرهاب، إذاً؟
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق