وجهات نظر
صبحي غندور
تعيش
البلاد العربية حالةً شبيهة بما حدث في مطلع القرن العشرين من إعادة رسم الخرائط
السياسية والجغرافية لبلدان المنطقة، في ظلّ الهيمنة الخارجية عليها وعلى
مقدّراتها، لكن مع إضافة العامل الصهيوني الكائن في قلب الأمَّة العربية، والذي
أصبح فاعلاً في العديد من مجريات الأحداث الراهنة بالمنطقة. وهناك الآن أيضاً
حالةٌ فكريّة وسياسية مماثلة لحال العرب آنذاك، من حيث انعدام التوافق على مفهوم
"الأمّة" والهويّة المشتركة، وأيضاً ضعف الانتماء الوطني وانعدام مفهوم
المواطنة، بينما تحضر بشدّة الانقسامات الداخليّة على أسس طائفيّة وقبليّة وإثنيّة.
أيضاً،
هل ما يحدث الآن في العراق وسوريا ولبنان وليبيا وغزّة، ينفصل عمّا حدث قبل ذلك في
العراق عام 2003 من حصار وتفكيك لوحدة الشعب والكيان، وما جرى في السودان أيضاً في
العام 2011 من فصلٍ لجنوبه عن شماله؟! ومن نجاح المقاومة في لبنان وغزّة في مواجهة
وطرد الاحتلال؟ وهل توريط الجيش المصري في صراعات عنفية داخلية مسألة منعزلة عمّا
حصل مع جيش العراق، ويحصل الآن مع جيش سوريا، وهي الجيوش العربية المستهدَفة صهيونياً
منذ حرب عام 1973؟!
للأسف،
تتحقّق الآن مشاريع غربية لعددٍ من بلدان المنطقة تقوم على إعادة تركيبها بأطر
سياسيّة ودستوريّة جديدة تحمل الشكل "الفيدرالي الديمقراطي"، لكنّها
تتضمّن بذور التفكّك إلى كانتونات متصارعة في ظلّ الانقسامات الداخليّة والدور الصهيوني
الشغّال، في الجانبين الخارجي الأجنبي والمحلّي العربي، لدفع الواقع العربي إلى
خدمة المشاريع الصهيونية بإشعال حروبٍ أهليّة عربيّة شاملة تؤدّي إلى ظهور دويلات
تحمل أسماءً دينية وإثنية، كإعلان اسم "الدولة الإسلامية" الآن، وهو ما
سيبرّر الاعتراف بالكيان الصهيوني كدولةٍ دينية يهودية.
فالكيان
الصهيوني هو في قلب المنطقة العربية، وله طموحات إقليميّة تتجاوز حتّى المشاريع
الأميركية والغربية عموماً، رغم توافق المصالح أحياناً مع هذه القوى. ولا يعقل أن يكون
الكيان الصهيوني فاعلاً في أميركا وأوروبا وإفريقيا وشرق آسيا، ولا يكون كذلك في
محيطه الإقليمي الذي منه انتزعت الأرض، وعليه تريد بناء إمبراطوريتها الخاصّة!.
وكم
هو مؤسفٌ أن تكون الخيارات الحالية للمنطقة قائمة على واحدٍ من مشروعين فقط: مشروع
"نظام شرق أوسطي جديد" دعمته واشنطن منذ حقبة التسعينات، ويحاول صياغة
كيانات عربية جديدة تقوم على الفيدرالية المقسّمة للداخل، وعلى التطبيع مع الكيان
الصهيوني وعلى إنهاء حالات المقاومة، أو الخيار الآخر وهو المشروع الصهيوني الداعم
لحروب أهلية عربيّة تُهمّش القضية الفلسطينية وتبني الدويلات الدينية، ويحصد نتائج
الزّرع الحاصل في المنطقة خلال العقدين الماضيين حيث امتزجت فيهما عناصر ثلاثة
تنخر الآن في الجسم العربي، وهي: ضعف وترهّل الأوضاع العربية، مع حضور التدخّل
الأجنبي الإقليمي والدولي، ومع انتشار "السرطان الصهيوني" داخل هذا
الجسم!. فهذه هي الأبعاد الثلاثة في المأساة العربية الراهنة، وحيث كلّ عنصرٍ منها
يخدم ويفيد العنصر الآخر.
إنّ
احتلال أيّ بلدٍ في العالم لا يكون ناجماً عن قوّة المحتل وجبروته فحسب، بل أيضاً
عن ضعفٍ في جسم البلد الذي خضع للاحتلال، وهو أمرٌ بات يُعرف بمصطلح
"القابليّة للاستعمار أو الاحتلال". وبالتالي فإنَّ كلاً من العنصريْن
(قوّة الغازي وضعف المغزوّ) يؤدّي إلى تقوية الآخر. هكذا كان الحال في الحروب
العربية-الصهيونية، وما سبقها في مطلع القرن العشرين من حقبة الاستعمار الأوروبي
عقب الحرب العالمية الأولى. ومواجهة الاحتلال لا تكون بالمواجهات العسكرية وعمليات
المقاومة ضدّ الجيش المحتل فقط، بل أيضاً (وربّما تكون هذه هي المواجهة الأهم) في
إسقاط الأهداف السياسية للمحتل، وفي بناء قوّةٍ ذاتيّة تُنهي عناصر الضعف التي
فتحت الباب لنير الاحتلال.
لقد
ترسّخت في العقود الثلاثة الماضية جملة شعارات ومفاهيم ومعتقدات تقوم على مصطلحات
"الإسلام هو الحل" و"حقوق الطائفة أو المذهب"، لتشكّل فيما
بينها صورة حال المنطقة العربية بعد ضمور "الهويّة العربية"، واستبدالها
بمصطلحاتٍ إقليمية ودينية وطائفية.
وهاهي
بلدانٌ عربية تشهد صراعات عُنفية داخلية بدأت كحراكٍ شعبي واسع من أجل
الديمقراطية، لكن مساراتها تحوّلت إلى اتجاهاتٍ أخرى بسبب عامل التدخّل الأجنبي،
والمرض السرطاني الصهيوني وسطه وفي أحشاء الأمّة، وأيضاً، بسبب عدم توفّر العناصر
اللازمة لنجاح أي حراك شعبي، وهي وضوح وسلامة القيادة والفكر والأسلوب.
وهكذا
تمتزج الآن على الأرض العربية حالات تدويل لأزماتٍ داخلية عربية مع مخاطر تقسيم الأوطان
والمجتمعات العربية، وسط رياحٍ عاصفة تهبّ من الشرق الإقليمي ومن الغرب الدولي،
ومن قلب هذه الأمّة حيث مقرّ المشروع الصهيوني التقسيمي.
وللأسف،
يعيش العرب اليوم عصراً أراد الفاعلون فيه، محلياً وخارجياً، إقناع أبناء وبنات
البلاد العربية أنّ مستقبلهم هو في ضمان "حقوقهم" الطائفية والمذهبية،
وفي الولاء لهذا المرجع الديني أو ذاك، بينما خاتمة هذه المسيرة الانقسامية هي
تفتيت الأوطان والشعوب وجعلها ساحة حروب لقوًى دولية وإقليمية، تتصارع الآن
وتتنافس على كيفيّة التحكّم بهذه الأرض العربية وبثرواتها.
هناك
حتماً أكثريّة عربية لا تؤيّد هذا الطرح "الجاهلي" التفتيتي ولا تريد
الوصول إلى نتائجه الوخيمة، لكنّها أكثرية "صامتة" إلى حدٍّ ما، ومن يتكلّم
منها بجرأة يفتقد المنابر الإعلامية والإمكانات المادية، فيبقى صوته خافتاً أو
يتوه هذا الصوت في ضجيج منابر المتطرّفين والطائفيين والمذهبيين، الذين همُ الآن
أكثر "حظّاً" في وسائل الوصول إلى الناس.
وعلى
جوار حدود الأرض العربية، تنمو مشاريع إقليمية تستفيد من غياب المرجعية العربية
ذات المشروع الضامن لمصالح الأمّة العربية. فلو لم يكن حال الأمّة العربية بهذا
المستوى من الوهن والانقسام، لما كان ممكناً أصلاً استباحة بلاد العرب من الجهات
الأربع كلّها.
ويبقى
أنّ الأمل الكبير هو بعودة دور العقل ومرجعيته في قضايا الدين وفهمه ومعاملاته،
وفي دور الشعوب بنبذ التطرّف والمتطرّفين. فهناك الآن حاجةٌ قصوى لوقفةٍ مع النفس
العربيّة قبل فوات الأوان، وهناك حاجة إلى فكر عربي جامع يتجاوز الإقليميّة
والطائفيّة والمذهبيّة، ويقوم على الديمقراطيّة وعلى نبذ العنف والأخذ بالاعتبار مصالح
الناس وتطلّعاتهم في إقرار النصوص والدساتير والقوانين...
هناك حاجةٌ ملحّة للفرز بين "الثوّار
العرب"، لمعرفة من يعمل من أجل الحفاظ على النّسيج الوطني الواحد، ومن يعمل
من أجل خدمة مشاريع أجنبية تحقّق مصالح فئوية مؤقّتة...
هناك ضرورةٌ عربيّة وإسلاميّة للتمييز بين من
يقاوم فعلاً في المكان الصحيح، وبالأسلوب السليم، الاحتلال الصهيوني وأهدافه، وفي
دعم هؤلاء المقاومين، وبين من يُمارس العنف المسلّح داخلياً ويخدم سياسياً إسرائيل
والقوى الأجنبية ومشاريع الحروب الأهليّة العربيّة...
هناك
حاجةٌ لبناءٍ تضامن عربي جديد يجمع بين الفهم السليم للأمّة العربية الواحدة
القائمة على خصوصياتٍ متنوعة، وبين الولاء للوطن الواحد القائم على أسسٍ سليمة في
الحكم والمواطنة...
هناك
حاجةٌ للاتفاق على "البوصلة المشتركة"، كأساس لإنقاذ الأمّة من حال
الضياع في هذا الزمن العربي الرديء!
هناك تعليق واحد:
تشخيص صحيح لواقع الحال وحلول ضرورية وملحة لكن الشق كبير والرقعة صغيرة.
إرسال تعليق