وجهات نظر
محمد عياش الكبيسي
يجتهد الناس في رمضان بأنواع القربات المفروضة والمندوبة صياماً وقياماً وصدقة وذكراً ودعاء، ويجتهد الدعاة والوعّاظ في تشجيع الناس ودفعهم للتنافس في هذه القربات وتبيين كل الأحكام والآداب الشرعية المرتبطة بها، بيد أن هذا السلوك الديني لم ينفصل عن السلوك المجتمعي والذي يتميز بطابعه البشري المختلف بحسب تركيبة المجتمع ووعيه وطريقته في التعبير عن ذاته وخصوصيته.
في مصر مثلا يتم الاستعداد لاستقبال رمضان بالفوانيس المعلقة في كل مكان ونشرات الزينة ومعالم البهجة لدى الصغار والكبار، والزيارات الاحتفالية بين الأقارب والجيران ودعوات الإفطار.. إلخ.
وفي الخليج تنتشر المجالس والأمسيات الرمضانية وفيها أنشطة ومسابقات ثقافية وهدايا وأجواء من البهجة والتواصل تشمل كل شرائح المجتمع، وهناك ظاهرة (خيمة إفطار الصائمين) وفيها يتم استقبال الراغبين في الإفطار الجماعي خاصة من المعوزين والمحتاجين. وهناك أيضاً (الكرنكعوه) في منتصف رمضان حيث يقوم الأطفال بالتجوال على بيوتات الحي للحصول على ما تيسر من الحلوى والمكسرات، والناس هنا يشجعون هذه الظاهرة لما يلمسونه فيها من تأثير إيجابي كبير على سلوك الأطفال وتنمية روح التواصل والمحبة والتعاون بين أبناء (الفريج)، ولا ننسى هنا كثرة استخدام الرسائل القصيرة في تبادل التهاني والأدعية بمناسبة حلول الشهر الكريم أو العيد.
هناك ظاهرة (المسحراتي) والذي يقوم بتنبيه الناس على وقت السحور بأهازيجه الشعبية المصحوبة بدقات الطبل، ولكنها اليوم أخذت بعداً فلكلورياً وجمالياً أكثر من حاجة الناس الفعلية إلى التنبيه، وهذه الظاهرة تنتشر في مصر والشام وأغلب دول المنطقة وربما بتشجيع رسمي من بعض الحكومات.
في إندونيسيا وربما في الشرق الآسيوي كله يذكر لي بعض الإخوة أن هناك احتفالا خاصاً بالأطفال الذين يصومون لأول مرة، وأنهم يزفونهم كما يزف العريس.
أما في مساجد الفلوجة فقد كنا نعيش حالة أشبه بحالة الطوارئ طيلة الشهر الكريم، فهناك واجب يومي على كل إمام مسجد وهو تقديم (درس العصر) حيث يجتمع الناس في مساجدهم بعد صلاة العصر لاستماع هذا الدرس، أما بعد التراويح فهناك جدول تتفق عليه المساجد للقيام بأمسية رمضانية مركزية وعامة وكثيراً ما يحصل نوع من التنافس في التقديم أو التأخير أو الاتفاق مع الشيخ المحاضر بحسب جماهيريته ومقبوليته عند الناس، وهؤلاء يقع عليهم عبء استثنائي أكبر من طاقتهم ووقتهم، وهناك من يستغل فترة الصباح لعقد الدورات القرآنية للبنين أو للبنات، وهذه الدورات قد يصل عدد المشاركين فيها في المسجد الواحد إلى خمسمائة طالب أو طالبة، قبيل رمضان تبدأ المساجد ببث أهازيج الترحيب برمضان (مرحباً مرحباً بك يا شهر رمضان..) وفي لياليه الأواخر تبث أراجيز الوداع الحزينة (ودّعوه ثم قولوا له.. يا شهرنا هذا عليك السلام)، وإلى جانب المساجد هناك بعض (التكايا الصوفية) والتي تعقد بشكل دوري ما تسميه بحلقات الذكر أو مجالس الصلاة والسلام على رسول الله.
إن هذه الظواهر على كثرتها وانتشارها وتجذّرها في المجتمعات لكنها ما زالت تفتقر إلى التأصيل أو التكييف الشرعي، وهناك من لا يتورع بإطلاق الأحكام المتسرعة بالإباحة أو التحريم والتي لا تخضع لدراسة علمية دقيقة يمكن التعويل عليها.
حقيقة أن هذه الظاهرة لا تقتصر على شهر رمضان، فكل شعائرنا الدينية مرتبطة ومتداخلة بعاداتنا وتقاليدنا وثقافاتنا المتنوعة، فصورة الكعبة مثلا التي تعلق في أذهان المسلمين اليوم إنما هي تلك الكسوة الفنّية الرائعة التي أنتجتها الأنامل الماهرة للتعبير عن مستوى تعظيم الأمة لهذه الكعبة المشرفة، ومثل هذا صورة المصحف الشريف بخطوطه الرائعة وأوراقه المزخرفة وأغلفته المذهبة، وكذلك المساجد والمآذن والقباب والمنابر والتي اتخذت بمرور الزمن طابعاً خاصاً ومميزاً، وكل هذا من المهارات البشرية وليست من الوحي المنزّل، ومثل هذا استخدام وسائل الدعاية والترويج والتكنولوجيا الحديثة في مجال الدعوة إلى الله والتربية والتعليم وحتى في قراءة القرآن الكريم، وقد رأيت من يقرأ القرآن على شاشة أمامه وهو في الصلاة، وبعض المساجد الكبيرة صارت تضع أكثر من شاشة لعرض خطبة الجمعة في الأدوار الأخرى من المسجد، وهناك أدوات حديثة لعد التسبيح والذكر إضافة إلى المسبحة المعروفة والمنتشرة في كل العالم الإسلامي خاصة في مكة والمدينة.
إن الوحي المنزّل لا بد أن يمتزج بالتجربة البشرية في كل صورة من صور التطبيق، فالحج فريضة ربانية، لكن صورة الحج اليوم لا يمكن أن تكون نسخة من صورة الحج أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك كل العبادات الأخرى مع بقاء الأحكام الشرعية الثابتة والتي تميّز كل عبادة عن غيرها، وهذا التغيّر لم يطرأ الآن بل هو متواكب مع حركة الأمة بهذا الإسلام منذ العصور الأولى، ومعلوم قصة جمع القرآن ومتعة الحج وسهم المؤلفة قلوبهم وجمع الناس على إمام واحد في التراويح وتدوين السنّة ونشوء العلوم الجديدة مثل الجرح والتعديل وأصول الفقه والمذاهب الفقهية ثم المدارس والجامعات إلى المصارف والبنوك الإسلامية وهكذا.
إن توزيع كل هذه السلوكيات على دائرتين اثنتين فقط إما سنّة نبوية ثابتة فنتبعها وإما بدعة منكرة فنحاربها فيه قدر كبير من المجازفة، كما أن الفهم الخاطئ لمقولة (لو كان خيراً لسبقونا إليه) فيه مجازفة أخرى تقتل روح التفكير والإبداع والقدرة على تلبية الحاجات المتجددة للعصور والأجيال المختلفة. كما أن هذا النمط من التفكير الأحادي من شأنه أن يلغي الفوارق الطبيعية بين الفئات العمرية المختلفة، فإن صورة رمضان التي ينبغي أن يفهمها الطفل ويتفاعل معها لا يمكن أن تكون هي نفس الصورة لدى الرجل الكبير، وقل مثل ذلك في القرآن والأذكار المأثورة كالاستغفار والصلاة والسلام على رسول الله، ويمكن الاستئناس بقوله عليه الصلاة والسلام: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) فهذه الحال تناسب الرجال لكنها قد لا تناسب الأولاد الصغار.
لقد سمح الرسول صلى الله عليه وسلم للحبشة أن يلعبوا في مسجده الشريف يوم العيد مراعاة لخصوصية العيد ولطبيعة الحبشة المعروفة في حبها للهو واللعب، وسمح للسيدة عائشة أم المؤمنين بالنظر إليهم كما في البخاري وغيره، وزاد النسائي في سننه الكبرى قولها رضي الله عنها: (فقدّروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو) ج1 ص225.
وفي مقابل كل هذا فإن فتح المجال في هذه الساحة بلا ضوابط أو قواعد واضحة من شأنه أن يخلط الحق بالباطل والدين بالأهواء، ومن شأنه أيضاً أن يضيّع هوية الأمة وخصوصيتها العقدية والثقافية، وقد رأينا كيف تحول الطواف بالكعبة عند البعض إلى الطواف بالقبور، وكيف تحولت بعض مجالس الذكر من ذكر الله إلى الغلو بمديح الصالحين والاستغاثة بهم، وتحولت أعياد الفطر والأضحى إلى مناسبات لاختلاط الرجال بالنساء وإقامة الحفلات المخالفة لرسالة العيد أصلا.
إن الحل لا يكمن أبداً في ردّات الفعل المتبادلة والتي تفقد المرء قدرته على التمييز والتشخيص، وتفقده القدرة على رؤية الطيف الواسع الممتد ما بين الأبيض والأسود، وإن الموضوع قبل كل هذا وذاك ليس آراء أو رغبات شخصية بل هو بحث عن الحلال والحرام والقول فيه إنما هو قول على الله أو توقيع عن الله على حد تعبير ابن القيّم رحمه الله.
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق