وجهات نظر
عبدالستار الراوي
إلى ذكرى أخي سعد عزالدين الراوي
السنوية الرابعة والاربعون لأول فدائي عربي من العراق استشهد في الثورة الفلسطينية عام 1969.
كان سعد كما وردة الصباح الندية، وديعاً، فناناً، رياضياً، عاشقاً وشجاعاً، ترك مقعده المدرسي في التاسعة عشرة من عمره، ليلتحق فدائياً متطوعاً في جبهة التحرير العربية.
أثناء دراستي العليا في جامعة الاسكندرية في مصر العربية ."أفزعني عنوان خبر صغير وأنا اتصفح جريدة الأهرام يوم 5/8/1969 تحت عنوان: "بغداد تشيع أحد شهدائها سعد عز الدين الراوي". وما أن بدأت بقراءة الخبر وأتيت على الاسم، إلا وشعرت أن الدماء تجفّ في عروقي، وكدت أسقط أرضاً، (أدمون وعامر وبدران وهم في حيرة من أمرهم، فأشرت إلى الخبر المنشور. وكنت يومها مع أصدقائي الثلاثة، في شقة عامر النفاخ في الإسكندرية. بادر أدمون واتصل هاتفياً بأستاذنا الدكتور علي سامي النشار الذي كان المشرف على رسائلنا العلمية في مرحلة الماجستير، ولم يمض وقت طويل، حتى جاءنا إلى الشقة، فأخذني من يدي وعانقني، وهو يقول: "أخوك لم يمت، بل هو يعيش في ضمير أمته كلها، وليست هناك منزلة تقارب منزلة الشهيد".
رافقني الأصدقاء الثلاثة إلى القاهرة، حيث كان عمي أمين والخال عبود، يمضيان الصيف في القاهرة ، وقد أقام الاصدقاء مجلس عزاء في مصر الجديدة ، حضره العراقيون والاشقاء المصريون .
بعد يومين من إنقضاء مجلس العزاء، سافرت إلى بغداد، واتجهت مباشرة من المطار إلى سوق الشورجة . حيث يعمل والدي وما أن رآني أبي مقبلاً عليه حتى هبّ واقفاً، فأخذني بأحضانه وعانقني عناقاً حاراً. وكلانا بكى، وحاول أن يخفف عني ويهوّن عليَّ أحزاني، وهو يقول: "الحمد لله لقد مات شهيداً، وشيّعته بغداد كالملوك ولم يبق أحد إلا وسار في موكبه".
بعد يومين من إنقضاء مجلس العزاء، سافرت إلى بغداد، واتجهت مباشرة من المطار إلى سوق الشورجة . حيث يعمل والدي وما أن رآني أبي مقبلاً عليه حتى هبّ واقفاً، فأخذني بأحضانه وعانقني عناقاً حاراً. وكلانا بكى، وحاول أن يخفف عني ويهوّن عليَّ أحزاني، وهو يقول: "الحمد لله لقد مات شهيداً، وشيّعته بغداد كالملوك ولم يبق أحد إلا وسار في موكبه".
تقول سيدة الصبر الجميل أمي مليكة الحمادي (حين أتانا نبأ رحيل سعد ، صلينا أبوك وأنا ركعتي شكر لله).
ولسنوات مديدة ظل الغياب الابدي ، جرحاً غائراً في قلب أمه وأبيه وأهله، فلم يكن بوسع أحد من أفراد العائلة قادراً على احتواء الفاجعة أو تناسي فداحة المصاب. كانت صورة سعد لا تفارق ذاكرتي، وكأني أراه حاضراً في يقظتي ومنامي. حتى كدت أصاب بجنون الارتياب ، وأنا أرقب عودته حياً، قد يطل علينا في أي وقت، ويطرق الباب علينا .
كان رحيله الدرامي، وهو يخوض معركته الاخيرة، واللحظة الشجاعة التي قضى فيها، عدتها عموم فصائل الثورة الفلسطينية مثلاً بطولياً فريدا في البسالة والتضحية والإيثار، فدونت منظمة التحرير الفلسطينية في يومياتها الميدانية وصفا تفصيليا للمعركة التي قادها سعد، وتخليدا لذكراه بادرت جبهة التحرير العربية بإصدار كتاب يؤرخ ويوثق سيرته الشخصية وحياته الكفاحية والعمليات الفدائية التي قادها ونفذها ضد جيش العدو الصهيوني، في (منطقة كفر أسد والكركار في الغور الشمالي).
كان رحيل أخي قد بلور في عقلي حقيقة فلسفية كبرى، صار إيماني بها يقينا مؤكدا وهي ان الموت الرسالي، هو الحرية بعينها ، طالما كان من أجل الحقيقة وفي سبيل الاوطان .
لذلك صار الفراق الابدي لدى كاتب السطور واحدا من بديهيات العقل، بالرغم من وطأة أحزان الموت ، كما يقول الفيلسوف الكندي في (رسالة الاحزان). وهو كما يقول اصحاب المنطق يعد السبب الكافي، لأن يكون الموت من حتميات حياتنا اليومية قد يحل في أي وقت ويأتي الانسان في أي مكان.. وعلينا فقط أن لانهاب النهاية، بل يتعين أن أتكيف معه شخصيا ولذلك ومنذ عام 1969 درَّب كاتب السطور نفسه على إحتواء نازلة أوجاع فراق الأحبة والأصدقاء من بعده، وأستوعب ما يقضي به الزمن من أرزاء ولا أظن أن هناك حزناً عظيماً، يكافئ أو يعادل الحزن الذي يصيب الإنسان جراء فقدان الاعزاء.
وللسبب نفسه، أو بكيفية أخرى، آمنت أن الانسان منذ ولادته كائن مرشح للموت، بصرف النظر عن العمر، طفلاً وليداً أم شيخاً بلغ من العمر عتياً، وهي إحدى بديهيات الكون البالغة البساطة التي لا تحتاج إلى برهان .
فموكب الغياب الابدي لن يتوقف يوماً، ولن ينقطع في في الزمان والمكان.
استذكر الآن جملة من التداعيات الأليمة قبيل رحيل سعد، إذ اتصلت بي أمي هاتفياً عندما كنت في (بيجي) مديراً لإحدى مدارسها القروية 1968، وهي تحثّني أن أتحدث مع أخي لأثنيه عما عزم عليه، بعد أن التحق فدائياً في صفوف جبهة التحرير العربية، وحدثته، وأنا أقول له: "مازلت طالباً، وصغير السن، وعليك واجب إكمال دراستك".
فأجابني سعد: "نعم أنا طالب، وصغير السن، ولكن متى كان الجهاد مشروطاً بالدراسة وسنوات العمر. أليست معركة فلسطين هي معركة كل العرب والمسلمين؟!"
لم أجد في كلامه إلا وعياً عميقاً، لا يمكن لأحد أن يحاججه فيه. فألقى السلام ومضى، وكتب يوماً فقال: "لن ألقِ السلاح إلا إذا أقعدتني المنية أو تحقق النصر".
وهكذا مضى سعد، كان شهماً وشجاعاً، ومحباً لأهله وأصدقائه.
وهكذا مضى سعد، كان شهماً وشجاعاً، ومحباً لأهله وأصدقائه.
"خلال زيارتي لبيروت ربيع 1974، التقيت بأحد رفاقه في جبهة التحرير العربية الذي عرفه عن قرب، فحدَّثني عن العملية الفدائية التي قادها ونفذها أخي سعد، على الرغم من أنه كان (مجازاً) في ذلك اليوم 31/7/1969، ويستعد للسفر إلى بغداد، لكنه تنازل عن حقه في الاجازة بسبب تكليفه بالواجب، وطبقا لشهادة رفيقه ((فإن سعدا أبلى بلاء حسناً، وخرج ومجموعته منتصرا بعد الاشتباك بدورية من الجيش الاسرائيلي، وفي أثناء العودة من تلك العملية، تصدت له ولمجموعته ثلة من جنود العدو الصهيوني، في منطقة تدعى (الكركار) تقع في الغور الشمالي . وبدلاً من الانسحاب من المعركة غير المتكافئة (عدةً وعدداً) أبى سعد أن يتراجع واتخذ قرار المواجهة، وتبادل الطرفان إطلاق النار، فيما استخدم العدو كل مابحوزته من سلاح وذخائر، مما أدى إلى سقوط سعد جريحاً، وقد أصيب إصابة بليغة قاتلة، وكان آخر كلماته أن طلب من رفاقه الانسحاب، وأن يدعوه في مكانه، رفض الإخلاء خشية أن يعيق أو يعرِّض مجموعته للخطر، فضلاً عن أنه كان قد اقترب من النزع الاخير)).
وصفه رفيقه العراقي المقيم في بيروت أن سعداً أو (سيف الدين هاشم) وهو اسمه الحركي، كان شجاعاً وكريماً. ويعدّه رفاقه مثلاً إنسانياً رفيعاً في الإيثار حتى آخر لحظة في حياته، فيما ظلَّ دوره البطولي في ذاكرة المقاومة الفلسطينية شهيد العراق الأول بوصفه أول فدائي عراقي يقدم حياته ثمناً لحرية فلسطين.
السلام على الغائبين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق