وجهات نظر
مصطفى يوسف اللداوي
غادرتنا الحكمة، وفارقنا العقل، فلم نعد نميّز بين الخير والشر، ولا بين الصالح والطالح، لم نعد نعرف من ينصحنا ويخاف علينا، ومن يضلُّنا ويورطُّنا ويتآمر علينا!
لم نعد ندري أي الطرق تؤدي بنا إلى النجاة، وتقودنا إلى بر الأمان، وتخلِّصنا من جرحنا النازف، وأيُّها دروب الهلاك ومسالك الدمار، وممرات الموت الأكيد..
مشاركون يشحذون السكين لذبحنا، ويبكون على جرحنا، وآخرون ناصحون لنا يراقبون موتنا، ويشهدون على قتلنا، يوثقون مشاهد الموت، ويسجلون عمليات القتل،
لا تضطرب قلوبهم وهم يشاهدون، ولا تختلج نفوسهم وهم يراقبون، باتت مناظر الدماء مألوفة، وأشلاء القتلى مقبولة، فلا شئ منها يثير أو يستفز، كنا نظن أن عداد الموت سيتوقف عند حد، وسيكتفي بقدر، وسيمتنع عن التعداد بعد عدٍ، لكن دولاب القتل يتسارع، ودوراته تزداد، وأعداده تتضاعف، وفئاته تتشكل وتتنوع، أتدرون أن المناطق تُؤجر وتُوزع، وتُوهب وتُمنح، وأنها تُعطى للمقاولين، وترسو على كبار وصغار المتعهدين، تمنح بسكانها ومساكنها، وبأملاكهم وممتلكاتهم، وببقايا آثاثهم وبتلافيف ثيابهم، يتعهدها كبارٌ، ينسقون ويرتبون ويؤمنون، ويضمنون النتائج ويحسبون العوائد، ويتوقعون جني الكثير من الفوائد.
أما المقاولون فإنهم في عجلةٍ من أمرهم، وفي سباقٍ مع غيرهم، يتعجلون ويتعسفون ويركضون ويتعثرون، يخافون أن تصحو الضحية، وتستفيق الفريسة، فتفلت الأمور من بين أيديهم، وتضيع الفرصة التي كانت لهم، ما خف وزنه وغلا ثمنه يحملون، وما عجزوا عن فتحه يكسرون، وما فيه يأخذون، أما ما لا فائدة منه، أو لا قدرة على حمله ونقله، فإنه يخرب، يمزق، يكسر، وأخيراً يحرق، يغدو والجدران رماداً، ما كان يعمر البيوت والمنازل، بات يغرق المستودعات والمخازن، ما كان غالياً لا يقوى على شرائه إلا الأغنياء، ولا يقتنيه إلا الأثرياء، ولا يعرفه كثيرٌ من الفقراء، بات اليوم في الأسواق متوفراً بكثرة، بضاعةً كاسدة لا يشتريها أحد، ولا يتنافس عليها المشترون، ولا يرغب في اقتنائها من كان يحلم يوماً أن تكون في بيته.
أتدرون كيف يجرح الجرح من جديد، ويكوى الجسد في نفس مكان الكي القديم،
كيف يكون الألم، وكيف يكون الوجع، وكيف يتأخر العلاج ويتعذر الشفاء.
البيوت والمعامل، والمصانع والمصالح، تسرق من جديد، وتنهب نفسها مرةً إثر مرة،
يسرق المسروق، وينهب المنهوب، ويكسر المكسر، ويمزق الممزق، ويخرب المخرب، ويحرق المحروق، لا يكل اللصوص، ولا يتعب السارقون، ولا تنتهي المسروقات، ولا تتوقف عربات "الزق" عن النقل والتوصيل، باتت السرقة مهنة محترمة، يمتهنها الأصدقاء والجيران، والمعارف والأقارب، ومن كان يوماً خلاً وفياً وصديقاً مخلصاً، أو شريكاً مؤتمناً، أو جاراً موصىً عليه، فالبيت الذي لا يسرقه اللصوص الأصلاء، والحرامية الحقيقيون، يتولاه المحترفون، والمحتاجون، ومن فقدوا النبل والشهامة، واستمرؤوا الضعة والمهانة، ينظفونه ويكنسونه، ولا يبقون على شئٍ فيه، مخافة أن يسرقه اللصوص، أو ينهبه الناهبون، بيدي لا بيد عمروٍ، هذا قولهم، وهو شعارهم، يرددونه ويطبقونه، ولا يخجلون من بيانه، إن كان بيت جاري سيسرق فأنا أولى بسرقته، بل لعلني في حاجةٍ لما فيه أكثر من صاحبه، لم يضع العقل فقط، ولم نفقد الحكمة فحسب، ولم تختلط علينا الأمور وتتداخل الأشياء، بل في ظل المحنة بانت أخلاقٌ كانت وضيعة، وكشفت عن شمائل كانت خسيسة، وتعرت شخصياتٌ كانت متلفعةً بالخلق، ومتدثرةً بالفضيلة، وتدعي النبل والشهامة، ترى ما الذي جرى لنا وحاق بنا، أهذا نحن، أهذه هي قيمنا التي كنا بها نعتز ونفتخر، أهكذا تفعل بنا الحروب وتفضحنا المعارك والأحداث، وتكشف عن خبايانا المحن والابتلاءات.
أنا يا سادة لا أتحدث عن بلادٍ غريبة، ولا عن أوطانٍ بعيدة، أو أقصد أحداثاً قديمة وقصصاً محبوكة، أنا أبكي الشام التي دمرت وخربت، والتي سرقت ونهبت، والتي تمزقت وتبعثرت، أبكي الرجال والشيم، وأتحسر على الأخلاق والقيم، وأبحث عن الفضائل والشمائل، وأسأل عن أهل النبل والشهامة، وأهل الفضل والكرامة، فقد والله انكشفت سوءتنا، وبانت عورتنا، وتعرَّت حقيقتنا، فنحن لسنا أكثر من قشورٍ، تخفي حقائق تخجل، وتكشف عن مستورٍ يخزي، فلا حكمةً أبقينا، ولا عقلاً حفظنا، ولا خلقاً ساد بيننا، ولا ماضٍ نستطيع أن نعيده، ولا ذكرياتٍ نقوى على التمسك بها، ولا مستقبل ننتظره، ولا غداً أفضل نتوقع، ولا شئ مما كنا به نحلم في أزمتنا سينفع،
فقدنا كل شئ شئٍ كنا نملكه، وخسرنا ما كنا نباهي به ونفتخر.
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اخلفنا في مصيبتنا خيراً، وعوضنا عنها خيراً منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق