وجهات نظر
القس لوسيان جميل
قرائي الأعزاء
في بدء مقالي هذا اود ان اشير الى ان هذا المقال يلتقي نوعا ما مع مقالي السابق: السياسيون ووصايا الله العشر. ففي ذلك المقال ابين للقارئ ان السياسيين بعيدون عن متطلبات طبيعتهم البشرية الأساسية، وبالتالي هم بعيدون عن الله، طالما نعرف ان صوت الضمير فيما يعود الى الشرائع الانسانية العظمى، مثل العدل والمحبة وما يشتق منها، هو من صوت الله، في حين نقرُّ اليوم بأن بعض المتطلبات الأخلاقية الاجتماعية، ليست اكثر من صوت المجتمع، ينقله ضمير الانسان، هذا الضمير الذي يكونه المجتمع نفسه، كما يقول بذلك علم النفس الاجتماعي.
مقال من وحي عنوان كتاب بحثت فوجدت
غير ان عنوان هذا المقال بالحقيقة، كان موجودا عندي قبل كتابة مقالي المذكور عن السياسيين ووصايا الله العشر، مما يؤكد بأن عنوان هذا المقال كان هو الملهم لعنوان :السياسيون ووصايا الله العشر، وليس العكس. اما حقيقة عنوان هذا المقال فتعود الى ذكريات عنوان كتاب كنت قد قرأته منذ مدة طويلة لمؤلف روحاني، اسمه كارلو كارتي، حيث كان هذا المؤلف قد وضع: بحثت فوجدت، عنوانا لمؤلفه الذي كان يتكلم فيه مع الملحدين المعاصرين ومع المتشككين بحقيقة الله. اما مقالي الحالي بالصيغة التي تقول: بحث عن الله في عالمنا السياسي فلم أجده. فواضح انه لا يتناقض مع عنوان كتاب كارلو كارتي الا بصيغته الأدبية، لأن مقالي هذا لا يقول بحثت عن الله فلم اجده، ولكنه يقول فقط: بحثت عن الله في عالمنا السياسي فلم اجده. علما بأن المقصود بالعالم السياسي هنا هو عالمنا السياسي الراهن، وليس كل العوالم السياسية التي وجدت في الماضي او التي ستوجد في المستقبل، هذه العوالم التي لن اتكلم عنها الآن لا سلبا ولا ايجابا.
عوالم متوازية
وهنا قد يقول لي قائل: ترى هل ان عالم الانسان هو عام واحد ام هو عوالم كثيرة؟ ويأتي الجواب مباشرة ليقول: ان عالمنا الانساني عالم واحد لا يقبل التقسيم، وذلك بحسب النظرة البنيوية الأنثروبولوجية التي بتنا ننظر منها الى العالم. غير ان هذه النظرة نفسها الى العالم، تقول لنا ان لهذا العالم ابعادا ومستويات عديدة، يحمل كل مستوى او بعد منها طبيعته وقوانينه المميزة الخاصة به، دون ان يكون لأي بعد امكانية الانفصال عن الكل. وهكذا نفهم ان تكون للعالم السياسي طبيعته الفريدة، كما تكون لسائر ابعاد العالم، بما في ذلك العالم الاجتماعي والعالم الديني، طبيعتها الخاصة بها، سواء كان هذا العالم مجتمعا او فردا بشريا، لأن الفرد البشري عالم صغير بحد ذاته Micro cosmos، كما هو معروف اليوم.
ويقينا يكون الله حاضرا في اي عالم من عوالمنا المذكورة، اذا لبى هذا العالم شروط حضور الله فيه، وظهرت عليه العلامات المميزة التي تدل على هذا الحضور. اما شروط حضور الله في اي عالم من عوالمنا، والتي هي في الوقت عينه علامات دالة على حضور الله فيه، فنختصرها بشروط العدل والمحبة والإخاء بين البشر والتسامح والتضامن وبغير ذلك من الشروط والعلامات الدالة على حضور الله، مما يعود الى ثوابت الحقيقة والخير والجمال الأنثروبولوجية. اما اذا لم يلبي احد هذه العوالم شروط حضور الله فيه، ولم تظهر عليه العلامات الدالة على هذا الحضور، فضلا عن سيادة وسيطرة العلامات المضادة للعلامات الايجابية المذكورة عليه، مثل الأنانية والعدوان والظلم وغيرها، فيكون ذلك دليلا أكيدا على ان الله لا يسكن في وسط هذا العالم.
السياسيون وصوت الله
وهكذا، وبحسب المبادئ المذكورة اعلاه، سوف نحاول ان نعرف اذا ما كان الله يسكن في عالمنا السياسي الراهن ام اذا كان الله بعيدا عن ها العالم تماما. اما حكمنا العملي على تواجد الله في العالم السياسي الراهن او عدم تواجده فسيستند الى اعمال سياسيي زماننا، ولاسيما بعد ظهور ما يسمى بالنظام العالمي الجديد. فإذا كانت خيارات هؤلاء السياسيين مبنية على ضمير صالح ومشاعر انسانية سليمة، بعيدا عن البراغماتية والأنانية والميكيافلية، وقريبا من العدل والمحبة والشفقة والرفق بالضعيف، سواء كان فردا ام مجتمعا، فضلا عن روح التسامح والسلام والتضامن الانساني والحرص على حقن الدماء وعلى مراعاة حقوق الانسان، كما توصي الأديان، فإن هذا الواقع يجعلنا نحكم على ان الله يسكن في قلوب وضمائر هؤلاء السياسيين. اما اذا كانت الحالة بالعكس تماما، حينئذ لا يسعنا ان نقول عن هؤلاء السياسيين غير انهم بعيدون عن الله، ولا يمكن ان يظهر الله (آثاره) في حياتهم.
الله موجود في كل مكان ولكن
وهنا ايضا اجيب على سؤال يقول: ان الله موجود في كل مكان، فلماذا لا نستطيع ان نراه في حياة سياسيي اليوم؟ اما جوابي فيقول: نعم ان الله موجود في كل مكان، وموجود في القوى التي تنظم احاسيس وضمير الانسان، لكنه لا يظهر لنا في كل مكان وفي كل الأحوال. ففي الحقيقة نحن بشر، ومن طبيعة البشر ( انثروبولوجي ) انهم لا يشعرون بالأمور المقدسة الا وسط بيئة مادية – روحية خاصة تساعد على الايمان بالله وبالأمور المقدسة.
توضيحات
ومن هنا تكون فائدة بيوت الله وفائدة الصيام وفائدة المزارات وفائدة الالحان والموسيقى والتماثيل واللوحات الفنية التي تثير في الانسان المشاعر الروحانية وتقربه من الله، كوسيلة بشرية ليس الا. ففي الواقع، نحن البشر مجبولين من مادة وروح، بحسب تعبير مجازي، غير ان الروح فينا لا يعمل عمله الا بشروطه الروحية وبحسب طبيعته الخاصة، ولا يظهر للبشر الا في بيئة معينة تساعد على ظهوره. وبما ان البشر، ومنذ اقدم العصور قد عرفوا هذه الحقيقة الأنثروبولوجية، لذلك تميزت اوانيهم الدينية عن الأواني الاعتيادية Profaneوتميزت الحلل الكهنوتية عن الملابس الاعتيادية، كما تميزت دور عباداتهم بهندسة وريازة تختلف عن اية بنايات أخرى.
الله لا يظهر في بيئة الخطيئة
من ناحية ثانية علينا ان نعرف ان الله، كما يمكن ان نعرفه نحن البشر، لا يمكن ان يتخذ له مقرا حيث الخطيئة بكافة اشكالها، ولاسيما اذا كانت هذه الخطيئة ضد الأخ الانسان. بمعنى ان الله لا يظهر حيث هناك سفك دماء وحيث يسود الكذب والنفاق والافتراء والغش والتزوير والخداع والسرقة. كما ان الله لا يظهر عادة حيث الضوضاء، اذ ليس من المعقول مثلا ان نصلي ونتأمل، او نسمع معزوفة موسيقية كلاسيكية وسط ضوضاء سوق الصفارين مثلا، حيث يطرق العمال على النحاس من أول السوق الى آخره. وبما ان اي شكل من الفوضى يعد نوعا من الضوضاء، فان اي شكل من الفوضى تمنع ظهور الروح وأداء فعالياته الحميدة، كما تؤدي الفوضى الى بلبلة التناسق والتوازن القائمين بين مادة الانسان وروحه، سواء كان هذا الانسان فردا ام مجتمعا، مما يعني غياب العدل والمحبة والتسامح والتضامن والإخاء البشري بين الناس، كما يؤدي الى سيادة الكراهية وروح الانتقام والظلم والعدوان بين البشر.
جولة في العالم السياسي
في بدء هذه الفقرة يهمنا ان نؤكد على ان هذه الجولة لن تكون جولة سياحية في ربوع العالم السياسي المليء بالمخاطر والأهوال، وبشتى انواع الأحداث التي تتقزز منها نفس الانسان وتبتعد عنها. كما ان هذه الجولة لن تكون جولة صحفي شغله الشاغل التقاط الأخبار وتقديمها للناس، اذ هناك من هم افضل مني بكثير لمثل هذا العمل الصحفي. ويقينا ان الجولة هذه لن تكون جولة رجل الأمن الذي يسعى الى معرفة الجناة ومعرفة افعالهم الجرمية لكي يقدمهم للمحاكمة، اذ هنا ايضا ليس كاتب هذه الأسطر مختصا بمثل هذه الأعمال، لكن هذه الجولة جولة شاملة بانورامية تحاول ان تقدم لوحة سريالية احيانا وواقعية احيانا أخرى، لواقع العالم السياسي بغاية خلق انطباع عن هذه اللوحة يجعل المشاهد يصاب بالغثيان، مما يساعد المشاهد على الكفر بالحالة ال لا انسانية والشريرة التي وصل اليها عالمنا السياسي، وهو الأمر المطلوب من هذه الفقرة ومن كل المقال بوجه عام.
عالم لا يصلح لسكنى الانسان وسكنى الله
غير ان اللوحة البانورامية التي قدمناها للقراء الأعزاء لا تجعلنا نشاهد عالما لا يصلح لسكنى الانسان حسب، لكنها تجعلنا نشاهد عالما غير طاهر، لا يصلح ان يكون بيتا ومقرا لسكنى الله كذلك. فالله جميل ويكره القبح والفوضى، وهو حقيقة ويكره الزيف والتزوير، وهو خير ويكره الظلم والعدوان وسفك الدماء، ولذلك هجر الله العالم السياسي الذي كونته خطيئة الانسـان، هذا العالم المليء بالقبح والفوضى والتزوير ومشحون بالظلم وبسفك دماء الأبرياء، وبذلك يكون الله قد هجر عالم العراق السياسي ايضا. غير ان الله لم يغادر عراقنا ووطننا العربي بصورة تامة والى الأبد، بل هاجر الى عوالم أخرى من عوالم الانسان، ومنها عوالم الأشخاص الطاهرين، وعوالم بعض المؤسسات التي لا يذكر فيها اسم الله فقط، ولكن يعبد فيها هذا الاله " بالروح والحق ". ويقينا ان الله قد هاجر الى العوالم المقاوِمة/ بكسر الواو / لخطيئة السياسيين بكل اشكالها المسلحة وغير المسلحة. فهناك في نفوس وقلوب المقاومين طاب لله ان يصنع له مسكنا، داعيا هؤلاء المقاومين الى ان يجعلوا بيتهم ( انفسهم وقلوبهم ) بيتا يليق بحضور الله، بيتا تظهر فيه محبة الله ومحبة الانسان ومحبة الوطن.
مصباح ديوجين
في هذه الرحلة الرمزية في اوساط السياسيين افضل ان استعين بمصباح يشبه مصباح ديوجين، الفيلسوف اليوناني المعروف، وان كنت اختلف عنه قليلا. فـ ديوجين كان يفتش عن انسان واحد يحمل الصفـات الانسانية الحقيقية النبيلة في عز النهار ووسط اشهر الأمكنة حضارة وإنسانية، لكنه لم يجد هذا الانسان هناك، في حين افتش انا الآخر، بين سياسيي زماننا عن انسان، قادر بصفائه الانساني على ان يكون حاملا لله Théophore. ولكن كما خاب امل ديوجين في العثور على انسان واحد يمثل البشرية الحقيقية، هكذا يبدو مقدما ان املي انا الآخر سيخيب، اينما وليت وجهي لأبحث بمصباحي على ضوء المبادئ المذكورة اعلاه، عن انسان ومجتمع يظهر فيهما الله، لكي يهدي البشرية الى دروب الحق والخير والجمال، والى طريق السلام والسعادة.
بانوراما جولتي الرمزية
اما خلاصة جولتي في العراق، كما صار اليوم بعد الاحتلال، بعاصمته ومدنه الأخرى فتقول بأننا بتنا لا نجد في العراق غير ثكنات عسكرية ومعازل Ghettos وغرف عمليات عسكرية، كما بتنا لا نسمع غير اصوات الكراهية والتهديد والانتقام العنصري والطائفي، وأصوات الانفجارات ومشاهد القتل والدماء التي تسيل وتصبغ الطرقات. فهل يمكن ان يسكن الله في مثل هذه البيئة السياسية النجسة والموبوءة؟
دول الربيع العربي
اما اذا تحولنا الى بلدان ما يسمى بالربيع العربي، والى البلدان العربية التي اشتركت بكل الفعاليات المميتة التي حدثت في البلدان المذكورة، هذه الفعاليات التي غيرت لون الربيع من اللون الأخضر الى اللون الأحمر الدموي، من كثرة الدماء التي سالت فيه، فإننا ربما سنرى اسم الله مكتوبا في كل مكان على الورق او على القماش او على الجدران او على اللافتات الالكترونية، لكننا في الواقع لن نرى الله الحقيقي هناك، اي اننا لن نرى اية سمة من سمات الله هناك وأي أثر من آثاره المقدسة. وإذا كان الله في العراق قد هاجر الى حيث تقيم المقاومة العراقية الباسلة، فان الله في بلدان الربيع العربي لن يجد له مكانا يستطيع ان يهاجر اليه، طالما نعرف ان الشيطان الأكبر (الأمريكي) قد استطاع ان يسبقه ويتواجد بقوة في كل بقعة من بقاع دول الربيع العربي فحول هذه المناطق كلها الى مناطق شريرة وغير طاهرة لا تليق بحضور الله وسكناه.
دول اقوياء العالم
عند كلامنا عن دول اقوياء العالم فنحن لا نقصد امريكا ودول حلف شمالي الأطلسي فقط، ولكننا نقصد جميع الدول التي تنتمي الى عالم الأقوياء. والمعروف ان هذه الدول، ومنذ الثورة الفرنسية، لم تطرد رجال الدين من السياسة فقط، بعد سقوط الثيوقراطية الفرنسية، لكنها، وفي كثير من المجالات، ومنها المجال السياسي، قد طردت الله ايضا من كل خياراتها السياسية وغير السياسية ايضا، فاضطر الله، بحسب لغة رمزية، ان يرى لنفسه مقرات اجتماعية ودينية وفردية ليسكن فيها ويتجلى للعالم من خلالها. وبما ان هذه الدول فقدت الله بشكل رسمي ومعلن، لذلك نرى انها مسئولة مسؤولية تامة عن كل الشرور التي تحدث في عالم الضعفاء.
وبما ان عالمنا قد بات فارغا من حضور الله ومن جميع الفضائل التي يمكن ان ترافق هذا الحضور، فإننا لا نستغرب عندما نسمع بأن عالمنا السياسي قد دخل مأزقه العالمي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي يجعل هذا العالم بحاجة ماسة الى اصلاح، هذا الاصلاح الذي لا يتم الا اذا عادت الى ربوع عالمنا جميع الفضائل المشتركة بين البشر، كالعدل والمحبة والتضامن البشري والتمسك بأسس السلام الحقيقي، كما انه لا يتم الا اذا تجنب هذا العالم السياسي جميع الرذائل المعادية لحقوق الانسان الأساسية.
أمم متحدة جديدة
ويقينا ان عودة الله الى العالم من جديد مشروط بإصلاح البشرية للعالم السيئ والقاتل الذي صنعته، الأمر الذي لن يتم الا بإصلاح قيادات هذا العالم الذي فشل في ان يكون عالما صالحا لسكنى البشر وسكنى الله ايضا. اما اصلاح قيادات العالم، وسط هذا العالم الثقيل الذي نعيش فيه، فلا يتم بترميم العالم، بل بتجديده من اساسه، وذلك بوضع نظام جديد للعالم، يكون بمثابة نظام داخلي ودستور ملزم لعالمنا الكبير، شرط ان يستلهم هذا الدستور الفضائل الانسانية المطبوعة في قلب الانسان، ولا يخضع لمصلحة اقوياء العالم الأنانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق