وجهات نظر
بشير عبد الفتاح *
من بين تساؤلات شتى طرحتها أزمة ميدان «تقسيم» بإسطنبول، يطل برأسه سؤال عن الجيش وموقعه في معادلة السياسة التركية المعقدة، باعتباره، وفقا لعدد من النصوص القانونية والدستورية، التي أشرف العسكر على صوغها، حامي الجمهورية والعلمانية، وهي المهمة التي تعددت صيغ التعبير عنها في كافة الدساتير التي شهدتها الجمهورية التركية الحديثة منذ إعلانها على يد أتاتورك عام 1923، واتخذت قيادات الجيش منها مسوغا للقيام بانقلاباتها العسكرية الأربعة أعوام 1960، و1971، و1980، و1997.
وبينما شكلت أحداث ميدان «تقسيم» تحديا حقيقيا واختبارا صعبا لمدى قدرة مختلف الأطراف التركية الفاعلة على كبح جماح نزوع الجيش للتدخل في المعترك السياسي بموجب القرارات والإجراءات والتعديلات الدستورية التي تبنتها حكومة «العدالة والتنمية» بقيادة أردوغان منذ عام 2003 توخيا لهذا المقصد، فقد لا نبالغ إذا ما زعمنا أن مظاهرات ميدان «تقسيم» قد أظهرت، بما لا يدع مجالا للشك، أن محاولات أردوغان ومساعيه لإبعاد الجيش عن السياسة قد بدأت تؤتي أكلها.. فعلى خلاف ما كان متبعا في كافة الأزمات والاضطرابات السياسية والمجتمعية فيما مضى، لم يصدر عن قيادات الجيش أي تصريح أو تعليق رسمي حول ما جرى، ولم تفكر قياداته في استغلال الأزمة للنيل من أردوغان وحكومته عبر إصدار بيان هو إلى الانقلاب الإلكتروني أو الحداثي أقرب.
من جانبهم، لم يلجأ المتظاهرون الأتراك إلى مطالبة الجيش بالتدخل في الأزمة على غرار ما فعل الثوار والمتظاهرون في بعض الدول العربية، أو مثلما كان متبعا في تركيا من قبل، حيث كان الجيش هو الملاذ والمخلص للشعب التركي عند نشوب أي أزمات سياسية أو توترات أمنية، الأمر الذي يشي بصلابة التوافق العام داخل تركيا على أن يبقى الجيش بعيدا عن السياسة، كما ينم عن تطور نوعي لافت في فكر الأتراك وسبل إدارتهم للأزمات السياسية، بدا جليا في الحرص على الاحتكام إلى الآليات السياسية بدلا من استدعاء الجيش لحسم تلك الأزمات بطريقته. غير أن تلويح حكومة أردوغان بالاستعانة بالجيش لفض المظاهرات وفرض الاستقرار قد طوى بين ثناياه رسائل عديدة مهمة ومثيرة في آن، أولاها تعمد حكومة «العدالة والتنمية» تبرئة ساحة الجيش وقياداته من أي اتهامات بالتورط في إشعال المظاهرات أو استغلالها ضمن مخطط انقلابي. وتجلت الثانية في التأكيد على تبعية قيادات الجيش لرئيس الوزراء المنتخب، حتى أنها لا يمكن أن تتدخل في أزمة أحداث ميدان «تقسيم»، على الرغم من تداعياتها السيئة على الاقتصاد التركي واستقرار البلاد، من دون إذن رئيس الوزراء المدني. وتمثلت ثالثة الرسائل في تسليط الضوء على حيادية الجيش وعدم نيته التدخل من تلقاء نفسه أو إحداث انقلاب بأي صورة من الصور مثلما فعل في مرات أربع سابقة وخلال أزمات ربما كانت أقل حدة.
أما الرسالة الرابعة، فتنحو نحوا مغايرا تماما، حيث يحمل تلويح الحكومة التركية بالاستعانة بالجيش لإنهاء المظاهرات بين ثناياه نذر إمكانية تبديد المنجز السياسي الأبرز لحكومة أردوغان والمتمثل في إعادة الجيش لثكناته، وخصوصا أن الفاصل الزمني بين آخر صور تدخل الجيش التركي في السياسة وممارسته الضغوط على الحكومة المدنية المنتخبة عبر إنذار إلكتروني لحكومة أردوغان بجريرة إمعانها في محاكمة قيادات عسكرية سابقة وتسريح أخرى حالية، لم يناهز العامين، هذا فضلا عن أن منحى إبعاد الجيش عن السياسة كلية لم تتسع قاعدته الشعبية والعسكرية أو تترسخ دعائمه القانونية والدستورية بعد في حينه، حيث لم تكن المادة «35» من قانون الخدمة الداخلية للجيش قد عدلت وقتذاك، ولا سيما أن بعض قيادات الجيش ورجالاته المدعومين بشرائح وقوى شعبية وسياسية ليست بالقليلة لا تزال غير مستسيغة لهذا الأمر، كما أن الدستور الجديد الذي من المفترض أن يخلو من النصوص والمواد التي توفر المسوغات والمبررات لتدخل الجيش في السياسة، ما زال طور النقاش ولم يعتمد حتى الآن.
ويبدو أن إقدام قيادات الجيش المصري على إطاحة الرئيس محمد مرسي، الذي كان أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيا في تاريخ مصر، يوم الثالث من يوليو (تموز) الجاري، قد دفع بحكومة أردوغان في تركيا إلى التحوط والاحتراز من الجيش التركي، صاحب التاريخ الانقلابي المعروف، حيث وافقت الجمعية العامة للبرلمان التركي على تعديل المادة «35» من قانون الخدمة الداخلية للجيش التركي، والتي طالما استند إليها العسكر في تبرير انقلاباتهم العسكرية وأضفوا عليها من خلالها سمتا دستوريا ومسحة من الشرعية.. فلقد كانت تلك المادة تنص حرفيا على أن «وظيفة القوات المسلحة التركية هي حماية الوطن التركي ومبادئ الجمهورية التركية كما هي محددة في الدستور»، لكن النص عدل كالتالي «مهمة القوات المسلحة تتمثل في الدفاع عن الوطن والجمهورية التركية تجاه التهديدات والأخطار الخارجية، والسعي إلى الحفاظ على القوة العسكرية وتعزيزها بحيث تشكل قوة رادعة للأعداء، والقيام بالمهمات الخارجية التي تسند إليها من قبل البرلمان التركي، والمساعدة على تأمين السلام العالمي».
وإذا جاز لنا الزعم أن عزوف الجيش التركي عن التدخل إثر أحداث «تقسيم»، علاوة على تعديل المادة «35»، التي كان تفسير قيادات الجيش لنصها يقنن ويشرعن تدخلهم في السياسة، قد أعطيا زخما مهما لمنظومة القيود السياسية والدستورية التي من شأنها أن تضع نهاية لتاريخ طويل ودام من تدخل الجيش في السياسة التركية، يبقى من حقنا التحذير من الإفراط في التفاؤل، ولا سيما أن تجارب غالبية دول العالم الثالث مع تدخل الجيوش في السياسة تؤكد أن القيود القانونية والدستورية ليست كفيلة وحدها بتلجيم جنوح الجيوش للتدخل في السياسة بأي صورة من الصور، إذا ما أرادت أو توفرت لها المعطيات المواتية والأجواء الملائمة.
* رئيس تحرير مجلة «الديمقراطية» الصادرة عن مؤسسة الأهرام
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق