وجهات نظر
عمران الكبيسي
كثيرا ما تتردد مقولة الثائر الفرنسي جورج جاك دانتون حين وقف أمام مقصلة الإعدام مبتسما بسخرية وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة قائلا: "هكذا تأكل الثورات أبناءها" مكللا ومكملا مثلا فرنسيا تناقلته الألسن "من اليسير أن تبدأ الثورات ولكن من العسير أن تنتهي بأمان".
ولا أظن أن هناك مثلا ذاع وصدق في تاريخ الثورات قديمها وحديثها مثلما أثبتت التجارب صدق هاتين المقولتين، فكل الثورات التي حدثت عبر التاريخ وقرأنا عنها أو مرت بنا وعشنا أحداثها نهضت على عهود الوفاء والولاء بين رفاق المسيرة والكفاح، وكل يتمنى لو افتدى رفيقه بدمه، وما إن يستقر المآل إلا ويصبح الأصدقاء أعداء، والأشقاء ألداء يحتكمون إلى الدم في فوضى النجاح والخلاف فيما بينهم. فتسحق الشرعية الدستورية تحت أقدام الشرعية الثورية وحماستها، وهذا ما حصل ويحصل على وجه الحقيقة والواقع في مصر اليوم ويا للعجب.
لا أحد ينفي أن الإخوان بمصر كانوا القوة المنظمة والمقتدرة على الحشد الذي اسقط جبروت مبارك، وقد عانوا على عهده قسوة التهميش السياسي وملاحقة قوى الأمن، وعزلة السجون والمعتقلات، ولولا إسهامهم المنظم في ثورة الربيع لم تكن أية قوة أخرى تعوض دفعهم، وتتمكن من زحزحة النظام وسطوة العسكر عن التحكم بإدارة دفة البلاد بالسرقات والفساد، وقد دفعوا دماءً كثيرة في سبيل ذلك، فهم جزء أساسي في الثورة، وكل السياسيين الكبار الذين رشحوا لمنصب الرئاسة كانوا يطلبون ودهم أو التحالف معهم بعد سقوط النظام وقبل الانتخابات الرئاسية. وما لبثت أن تغيرت الوجوه نحوهم بعد إعلان فوز السيد محمد مرسي بمنصب رئاسة الجمهورية ومباشرته مهام عمله، تغيرت لهجة غالبية الجماعات التي كانت تجاملهم وتأمل بحصة مميزة من كعكة السلطة ولا تستطيع مجاراتهم في صناديق الاقتراع، فشرعت بالهجوم المضاد عليهم لإعاقة عملهم وإظهارهم بمظهر العاجز الذي لا يمتلك القدرة ولا الخبرة على إدارة شؤون البلاد، وبدأت الثورة تأكل روادها بالتناحر بين فصائلها، والمتضرر الوحيد هم شعب مصر.
ومن أسبوع إلى أسبوع ومن شهر إلى آخر بدأت المعارضة تشتد وتتدخل في الصغيرة والكبيرة، بحق وبغير حق، حتى أصبح الإخوان وهم في السلطة بالنسبة إلى المعارضة خارج الثورة وانفرط حبل التواصل والتعاون بين رفاق الأمس، وصارت لغة الهجوم والاتهام والتخوين هي السائدة في الإعلام المصري، وبات الهدف المقصود المتعمد كسر عظم رفاق الأمس والتشهير بهم، وبدأ الثوار يأكل بعضهم لحم بعض مكرا وكيدا، من دون اعتبار لمستقبل البلاد ومصالح الوطن، وقد نزغ الشيطان بينهم.
لا أريد تجاهل ردة الفعل لدى الشارع المصري ضد حكم الإخوان، وليس من الحكمة ولا من الموضوعية تجاهل المعارضة ولا الاستهانة بالحشود التي خرجت للتظاهر ضدهم، وهي بلا شك تعكس حجم المعارضة القوية التي يواجهونها، وتعكس إخفاق الإخوان باستقطاب الشارع المصري والقوى السياسية واستمالتهم للتعاون معهم، وإن كانت الأحزاب هي التي نأت بنفسها عن التعاون، حين أدركت حجم التأييد الشعبي للجماعة وقوتهم قياسا بحجم الأحزاب الأخرى، وأدركت القوى المعارضة أنها وفق الكوتة الديمقراطية لن تحصل على نصيب، ونجاح الإخوان في قيادة مصر نحو بر الأمان سيزيد من قوتهم ويعزز مكانتهم على حساب غيرهم، لذلك تكتلت كل الأحزاب والجماعات وهجمت عليهم بكل الوسائل، مستعدية الإعلام والقضاء، وبقايا النظام السابق عليهم، ووجدوا دولا تحرضهم وتمولهم، وأصبحت الغاية لدى المعارضة تبرر الوسيلة، واشتدت سباحتهم ضد التيار حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من الخصومة الظالمة، فلم ينل رئيس في العالم من السباب والشتائم والمهانة ما نال الرئيس مرسي منذ الأيام الأولى لانتخابه، ولم يحاول أن يقتص أو يؤذي أحدا، وحاول الارتقاء إلى مستوى أعلى مما تسمح به الديمقراطيات الغربية. حتى انطبق عليه قول الشاعر:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يَظلم الناس يُظلم
حاول الإخوان كتم الغيظ والظهور بمظهر من يفسح المجال للحريات ويقبلون المنافسة، فقُتل منهم في الاشتباكات في الشوارع أكثر مما قتل من معارضيهم، وحرقت لهم مقرات أكثر مما حرق من مقرات مناوئيهم؟ وليس لمعارضيهم دليل أنهم سرقوا أو أسهموا بنشر الفساد؟ وكانت هفواتهم تضخم وتهول، وهل إقالة نائب عام وتعيين آخر مستقل بديلا عنه أخونة للقضاء؟ أو تعيين سبعة محافظين وسبعة وزراء في حكومة عريضة كثيرا قياسا بنتائج الانتخابات ليقال إنهم حاولوا أخونة الدولة؟
اشتد نباح الأصوات العالية عليهم وتكالبت عليهم القوى واخذوا بالصوت، وباتت المقادير تتأرجح بهم، وقد يصدق عليهم ما قيل في غيرهم من أن "الثورة يشعلها الثوار ويقودها المناضلون ويجـني ثمارها الجبناء" فمن يا ترى الجبان الذي سيجني ثمار الثورة، قبل الأسى لرحيل الإخوان؟
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق