موقعنا الجديد، مع التقدير

موقعنا الجديد، مع التقدير
نأسف لإزعاجكم، انتقلنا إلى هنا رجاءً، يرجى الضغط على الصورة للانتقال إلى موقعنا الجديد

الأربعاء، 17 يوليو 2013

ثورتا المشروع الحضاري في مصر والعراق

المرحوم محسن خليل رفقة الشهيد صدام حسين
ونحن نستذكر ثورة تموز المجيدة في العراق في ذكراها الخامسة والاربعين التي تصادف اليوم، ننشر مقالاً للصديق العزيز الراحل الدكتور محسن خليل، يرحمه الله تعالى، يتحدث فيه عن تجربة الثورة في العراق ويقارنها بتجربة ثورة 23 يوليو في مصر، باعتبارهما نموذجين للنهضة ومشروعين حضاريين في الأمة العربية.


ثورتا المشروع الحضاري في مصر والعراق

وجهات نظر
محسن خليل
بين ثورة يوليو 1952 في مصر بقيادة الرئيس الخالد جمال عبدالناصر وثورة تموز 1968 في العراق بقيادة الرئيس الشهيد صدام حسين فاصلة زمنية مدتها 16 عاماً، لم يتعاصر الزعيمان خلالها الا سنتان وأشهر، ومع ذلك ثمة قواسم مشتركة كثيرة بين الثورتين والقائدين، في الفكر والمنهج والسياسات، وكانت الثانية تضع خبرات الاولى في اعتبارها وتحاول الاستفادة من تجاربها ومن دروس القيادة الناصرية في ادارة الدولة وقيادة الثورة وتطوير الاقتصاد وبناء القدرة العسكرية.
وليس غريبا أن تتعرض كلتا القيادتان لغزو وعدوان من ذات التحالف الامبريالي الصهيوني، ومن تحالف أطراف في النظام العربي الرسمي متواطئة مع القوى الخارجية.. والملفت أن الحملة التشهيرية التي تبنتها أجهزة الاعلام الغربية ضد الانجاز التاريخي لعبدالناصر بتأميم قناة السويس سنة 1956 وضد ثورة يوليو، والتي تلقفتها وسائل أعلام عربية متواطئة، أعيد انتاجها ضد صدام حسين وثورة تموز عام 1990، بنصها وآلياتها ومصطلحاتها ومفرداته، حتى أن ريجيس دوبريه اليساري الذي عمل مع جيفارا في الستينات ثم شغل منصب مستشار سياسي للرئيس ميتران، نشر مقالا عام 90 تناول فيه اوجه التشابه الى حد التفاصيل الدقيقة بين الحملة على عبدالناصر في 56 والحملة على صدام حسين في 90. وقال لم يتغير سوى الاسم وكأن القائمين على الحملة استدعوا شريطا مسجلا من فوق الرف ليعاد تشغيله رغم الفاصلة التاريخية الطويلة بين الحدثين..
الواقعة هذه تلخص فعالية الثورتان وحجم نجاحاتهما والتفاف الشعب داخل القطر وعلى مستوى الوطن العربي حولهم، والقلق الامبريالي الصهيوني من أستمرار مسارهما الى نهايته المرسومة، خاصة وأن القائدان كانا يؤمنان بذات الاهداف القومية وكلاهما أعتبر الامن القطري والنهضة القطرية مستحيلة بدون الانفتاح على بعدهما القومي والتفاعل مع حال الامة.. ولذك جرى تشويه منهجي لسياساتهما ومواقفهما وألتزامهما بقضايا الامة العربية، ودعمهما لحركة الثورة العربية ضد الهيمنة والنفوذ الاستعماري، وتبنيهما المقاومة الفلسطينية والعربية، والاعداد الجدي لقضية التحرير..
ما تعرضت له برامج ثورة يوليو في التسليح وبناء الصواريخ، من تآمر وتخريب وضغوط، واجهته ثورة تموز في مجال تطوير الصناعة العسكرية وتنمية الخبرة التكنولوجية في الثمانينات والتسعينات.. والموقف المبدئي القومي لثورة يوليو الملتزم بتحرير فلسطين والاراضي العربية المحتلة، أصطدم بعداء شديد من التحالف الامبريالي الصهيوني، وبتآمر اطراف معروفة في النظام العربي الرسمي، وهوموقف تكرر مع ثورة تموز حين انبرت اطراف عربية الى اعتبار موقف صدام حسين المبدئي من الكيان الصهيوني مغامرة وتهور (يعيدنا) الى أيام عبدالناصر؟؟
عبدالناصر وصدام لم يفعلا أكثر من ترجمة طموحات وتطلعات شعب مصر والعراق والامة العربية في الاستقلال الحقيقي والنهضة الحضارية والوحدة العربية والعدالة الاجتماعية والانتصار لحركات التحرر في العالم الثالث، الى سياسات ومواقف مبدئية وخطط تنموية وتعبئة شعبية، الى قرارات جريئة.. الى أرادة حرة.. الى قرار سياسي مستقل لا يستاذن أحد من الدول الكبرى الاستعمارية، ولا يضع أمن نظاميهما فوق أمن الوطن والامة.. كلاهما أدرك أن أمة العرب أمة واحدة وليست امم، وانظمتها وبلدانها جزءاً من وطن عربي كبير، وليست دول جوار، وان أي دولة عربية لا تستطيع أن تتصرف على قاعدة مصر أول، والعراق اول.. فمثل هذا الشعار لا يعمل في الواقع العربي، لا لأن عبدالناصر وصدام حسين يتطلعان الى (زعامة) العرب، أو يبددان قدرات بلديهما على القضايا العربية ويهملان شعبيهم، أو يفتعلان المشاكل جراء (تهورهما ومغامراتهما)، وأنما لأن النهضة الحقيقية في أي بلد عربي لا تنجح ما لم تكن جزءاً من مشروع قومي.. هذا ما ادركه عبدالناصر وصدام حسين وكل القوميين العرب، و جاءت التجربة وما تزال مصدقة لهذه الحقيقة، وفي الوقت يدرك التحالف الامبريالي الصهيوني، أن نهضة مصر أو العراق أو أي قطر عربي، تؤثر أيجابيا على نهضة العرب في الاقطار الاخرى، وتنتقل بطريقة الانتشار أو بقوة النموذج الى الاجزاء الاخرى من الوطن العربي، وقوة أي دولة عربية تتحول الى قوة للدول الاخرى، ولذلك تتحشد دول التحالف فورا لضرب أي نظام لديه مشروع قومي وينجح في التنمية وتطوير القدرات العلمية والعسكرية وتعبئة الشعب حوله، وتسارع الى محاصرته وأستنزافه وأثارة المشاكل في داخله وعلى حدوده، وتشن العدوان العسكري ضده، لأسقاطه او أفقاده قدرة التأثير الايجابي في الوطن العربي..
أدرك عبدالناصر وصدام حسين وكذلك التحالف هذه الحقائق الخاصة بالامة العربية وتصرفوا على أساسه.
عبدالناصر وصدام تمسكا بالمعايير القومية، والتحالف حشد قواه ضد عبدالناصر ولاحقا ضد صدام وكأنه يدخل في مواجهة مع الامة كله.. في مرحلة صعود التجربة الناصرية والبعثية تصرف التحالف بحذر وتحسب شديد، ولكنه كان يحشد عوامل الاستنزاف ضدهم،، يساعده في ذلك، الدور الشائن والمعيب لأطراف في النظام العربي وضعت كل قدراتها المالية واراضيها ومياهها في خدمة خطط التحالف وسياساته الى أن وصل حال الامة اليوم الى أسوأ صور الضعف والهوان، ولم تبق حرمة لمبدأ أو لدولة عربية.. وبلغ الانحدار حدا مرعبا غير معهود في أي أقليم من اقاليم العالم.. أصبح التفريط بالثوابت الوطنية والقومية سياسة أو حكمة كما يسميها البعض، وتحول استسلام النظام العربي الرسمي بكامله للكيان الصهيوني جنوحا للسلام، وأحتلال أمريكا للعراق لم يستفز حاكما عربيا واحدا ولو بشقة تمر.. بإدانة الاحتلال، بتحريم التعامل مع حكومة العملاء التي أنشأها المحتل.. اختفت مثل هذه المفردات من الحياة السياسية العربية وحلت محلها مصطلحات غريبة يستهجنها العالم بأسره، وتكشف هول ما آل أليه الحال الرسمي من انحدار وسلوك مخالف للفطرة وللقانون الدولي.. أيران دولة من دول العالم الثالث، ليست كبرى ولا قوة خارقة، اخذت المبادرة وشاركت في أحتلال العراق، ونازعت امريكا على الحصة الاكبر من (غنيمة أحتلال العراق) لنفسه، بينما حكامنا ما يزالون يدفنون رؤوسهم في الرمال، ويتعامون عن رؤية الامور والاشياء كما هي على الارض، ليعفوا انفسهم من تحمل المسؤولية.. لماذا تبادر أيران ويصمت العرب؟ أيران شكلت ميليشيات ومولت وسلحت وانشأت بنية احتلال تحتية وفوقية ايرانية بأمتياز في العراق، وتفاوض أمريكا حول العراق، والنظام العربي الرسمي يتفرج، وبعض أطرافه ضليعة ومتورطة في تزويد المحتل بالمعلومات عن المقاومة وتسهيل ضربها وتصفيته..
في مناسبة عشاء سنة 1955 حضرها جمال عبدالناصر وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، و”إريك جونستون” المبعوث الخاص للرئيس أيزنهاور وكيرميت روزفلت و”هنري بايرود” السفير الأمريكي في القاهرة. وكان (فينش) الملحق العمالي في سفارة أمريكا بالقاهرة قام بزيارة لمصنع تكرير البترول في مدينة السويس، وقد ضربه العمال هناك إلى حد كاد يفضي به إلى الموت. وانتهز بايرود فرصة العشاء ليقول لعبدالناصر أنه لا يعرف سببا لضرب الملحق العمالي فينش؟ فقال له عبدالناصر أن فينش ممثل المخابرات الامريكية وطلبنا إليكم أكثر من مرة أن يمتنع عن الذهاب إلى المناطق العمالية، لكنه لم يلتزم بما نصحنا به وعليه أن يتحمل نتائج أية مشاكل تقع له من عمالن. عندها قال بايرود: (أخشى أن أقول يا سيدي الرئيس إن عمالكم تصرفوا بطريقة غير متحضرة).. فنظر إليه جمال عبدالناصر وقام بإطفاء سيجارته على مائدة أمامه ثم قال: (سوف أتركك الليلة تقرأ كتاباً عن الحضارة المصرية وتاريخها البعيد، وعندما تتعلم منه شيئاً نتكلم مرة أخرى.. ).
في عام 1990 وعشية انعقاد القمة العربية الطارئة ارسلت الولايات المتحدة مذكرة الى القمة العربية تحدد فيها ما يجب على القمة العربية أن تفعله، وما يجب ان يقوله زعماؤها وما لا يقولوه، وجاء في مقدمتها (نأمل أن يتفادى الزعماء خلال القمة، الحماسة اللفظية المفرطة ونحثهم بدل ذلك على الاهتمام بمنهج بناء يعزز آفاق تحرك حقيقي نحو السلام.. على سبيل المثال نأمل أن يقوم الزعماء العرب بما يلي  ثم تسرد المذكرة المسموحات والممنوعات الامريكية على القمة. وقد حاولت أنظمة معروفة تمرير المطالب الامريكية على أنها تمثل وجهة نظرته، لكن العراق والرئيس صدام حسين ودول أخرى أحبطت هذه المساعي... كان من بين الممنوعات الامريكية منع القمة في قراراتها وبيانها الختامي من اطلاق نعت الامبريالية على الولايات المتحدة، والطريف ان الرئيس صدام حسين نوه الى الطلب الامريكي وهو يلقي كلمته في القمة على النحو التالي.. قال (لا يمكن لأي عدوان اسرائيلي على الامة العربية أن ينفصل عن رغبة الامبريالية الامريكية في ذلك.. والامبريالية هنا أضفتها عندما اطلعت على المذكرة التي قدمها (الغروب) العامل في الخارجية الامريكية وفيها اشارة ان لا تستخدم كلمة الامبريالية..).
مشروع عبدالناصر كان مشروعا قوميا لنهضة مصر بوصفها جزءاً من الامة العربية،، ورغم محدودية موارد مصر، لم يتردد عبدالناصر في تحمل المسؤولية القومية في مساندة ثورات الجزائر وشمال اليمن وجنوبه والعراق 1958 ولبنان ومنظمة التحرير والمقاومة الفلسطينية.. وكان دائم التأكيد على الانتماء المصرى إلى الأمة العربية؛ تاريخياً ونضالياً ومصيري، أنتماءً عضوياً فوق أى فرد وبعد أى مرحلة كما قال في بيان الثلاثين من يونيو..
- اهتم ببناء القوات المسلحة لقناعته (أن الحق بغير القوة ضائع، وأن أمل السلام بغير إمكانية الدفاع عنه استسلام، وأن المبادئ بغير مقدرة على حمايتها أحلام مثالية مكانها السماء، وليس لها على الأرض مكان).
- أعطى اولوية للتنمية الاقتصادية لأدراكه أنها مفتاح التقدم والرفاهية والعدالة الاجتماعية للشعب المصري والقاعدة المادية الصلبة لبناء القوات المسلحة والقدرة العسكرية والاعداد لتحرير الارض العربية المحتلة.
- حرص على تأكيد الصلة الوثيقة بين الحرية الاجتماعية والحرية السياسية، وتوفير كل الضمانات للحرية الشخصية والأمن، ولحرية التفكير والتعبير والنشر والرأى والبحث العلمى والصحافة.
- أنشئ في عهده أكثر من 1000 مصنع في أقل من عشر سنوات (1955 - 1966) ومصانع الحديد والصلب في حلوان ومصنع السفن (الترسانة البحرية) في الإسكندرية، ومصنع سيارات النصر، والمصانع الحربية التي طورت السلاح المصري. وأقام السد العالي العملاق والذي حمى مصر من الفيضانات وادى الي زيادة الأرض الزراعية بمقدار 2 بمقدار مليون فدان، وساهم في توليد كهرباء من السد تعادل نصف مجموع قدرة محطات السدود الستة التالية للسد العالي مجتمعة. ونشر التعليم بمراحله المختلفة على نطاق واسع وبفضل هذه السياسة كانت مصر الى أواخر السبعينات مصدرا أساسيا للكفاءآت العلمية في معظم الدول العربية..
-اهتم عبدالناصر بالجماهير الشعبية وشغلت أهتمامه الاول، وحرص على التحقق من حماية حقوقها ومصالحها في السياسات والتشريعات والتطبيقات، وضمَّن الدستور مادة تنص على حماية المكتسبات الاشتراكية وتدعيمها؛ ومنع التلاعب بها او الالتفاف عليها بما في ذلك حقوق التعليم المجانى والتأمينات الصحية والاجتماعية، وتحرير المرأة، وحماية حقوق الأمومة والطفولة والأسرة.
- بنى دولة حديثة وقوية تعنى بأمتلاك العلوم والتكنولوجي، وأستطاع بعد حرب 1967 ان يتدارك عناصر الخلل السابقة في هذا البناء، لم يتستر عليها او يبررها أو يخفيه. صارح الشعب به، وكان يؤمن إن العمل السياسى لا تقوم به الملائكة وإنما يقوم به البشر، وتصدى بشجاعة لمعالجتها طبقا للخطة التي تضمنها بيان الثلاثين من يونيو 1967، كانت تلك لحظة انطلاق تاريخية لتجديد الثورة وتلافي الاخطاء، ومقدمات لحرب الاستنزاف التي أنهكت العدو الصهيوني وأفقدته فرصة التمتع بنتائج حرب 1967.
- حشد كل الامكانات للتحرير والمقاومة المسلحة للعدو وكافة أشكال المقاومة الأخرى... كان يقول أن الأرض أرضنا والحق حقن، والمصير مصيرن، ولا نستطيع أمام أنفسن، وأمام أمتنا العربية، وأمام الأجيال القادمة من أبنائنا وأحفادنا إلى الأبد أن نتردد أو نتخاذل أو نوزع التبعات على الآخرين، مهما اقتضانا ذلك من التكاليف على مواردنا وعلى أعصابنا وعلى أرواحنا.
- وفي السياسة الخارجية ظل متمسكا بشعاره المعروف (نصادق من يصادقنا ونعادي من يعادينا)، ودعم حركات التحرر في القارة الافريقية وقدم المساعدات الفنية والتكنولوجية لدوله... دعم نلسون مانديلأ في جنوب أفريقيا ولومومبا في الكونغو ونكروما في غانا ومودوبيكيتا في مالي وسيكوتوري في غيني.. أنتصر عبدالناصر لأفريقي، وأنتصرت أفريقيا له بعد تحرره، واحبته واخذت مواقف مشرفة من مصر والقضايا العربية تقديرا له ولسياسته الافريقية.
في عام 1993، كان الحصار يضغط بقوة على الشعب العراقي وبلغ درجة شديدة من الصرامة والشمول ولو طالت يد القائمين عليه، لمنعوا الهواء عن العراق، وتسبب الحصار في تقلص أمكانات الدولة الى أدني حد بعد أن منعت من تصدير النفط وغير النفط. كانت اكبر مشكلة واجهت صدام حسين حينها هي كيف تستطيع الحكومة مواصلة تأمين مواد البطاقة التموينية التي توزعها على المواطنين بأسعار رمزية، فقد شحت الموارد واستهلكت المخازن والحصار قاسٍ.. في هذه الظروف الصعبة (1993) زار العراق مبعوث البابا ونقل للرئيس صدام حسين تضامن البابا مع شعب العراق ضد الحصار، لكن المبعوث أستأذن الرئيس ليعرض عليه كما قال مقترحا شخصيا لا علاقة له بالبابا قال المبعوث (أنك حتى لو نفذت جميع قرارات الامم المتحدة فلن يرفع الحصار عن العراق الا اذا قمتم بمبادرة تجاه اسرائيل وشاركتم بفعالية في عملية السلام في الشرق الاوسط). فرد عليه الرئيس بكلام موسع ثم ختمه بعبارة بليغة، قال للمبعوث (نحن لن نبيع مبادئنا برغيف خبز يأتينا معجون بالمذلة من الاجنبي.. بلغ تحياتي للبابا.. ان الله قوي عزيز.. )
بعدها بسنة.. وفي 15\5\1994 عرض على الرئيس صدام، أن شخصية قريبة من بطرس غالي أمين عام الامم المتحدة آنذاك، وعدت بإمكانية تغيير موقف غالي من الحصار في حالة تغيير الموقف من اسرائيل، فعلق الرئيس صدام حسين بخط يده أن محاولة هذه الشخصية هي (بالنتيجة محاولة لتغيير موقفنا من الصهيونية تحت التلويح بامكانية ان يأتي الفرج عن طريقهم، الا خسئوا وخابوا وخاب العرب الذين طمَّعوهم في أمكانية أن يحصل هذ، ولهذا يعتبر هذا الباب مغلقاً).
في ابريل عام 1990 التقى وفد من اعضاء الكونكرس الامريكي برئاسة روبرت دول، الرئيس صدام حسين في مدينة الموصل شمال العراق، ونقلوا له رسالة باسم الكونغرس قرأوها أمامه تطلب منه التوقف عن بناء أسلحة استراتيجية وتقول (ان مساعيكم لتطوير قدرات نووية وكيميائية وبايولوجية تعرض امن بلادكم لخطر جدي بدلا من ان تعزز هذا الامن، كما انها تهدد دولا اخرى في المنطقة {المقصود أسرائيل}). وفي ختامها حثت الرسالة على (اعادة النظر في الاستمرار بهذه البرامج الخطيرة والتصريحات الاستفزازية ضد أسرائيل)... وفي رده على الرسالة قال الرئيس صدام حسين (هذا الموقف لا نعده ضد امن العراق فقط وانما ضد امن العرب، كما انه موقف غير عادل.. ان الشيء العادل الذي يحقق السلام هو أنه عندما يكون لدى (اسرائيل) صاروخ يجب أن يكون لدى العرب صاروخ.. من الذي جعل العرب يفتشون عن الاسلحة الكيمياوية ويصنعونها؟ أنها (اسرائيل)، فالعرب يعرفون أن (اسرائيل) لديها أسلحة كيمياوية وبايولوجية وذرية، فكيف تريدون ان يتصرف العرب؟.. يشجب الغرب أمتلاك العراق للأسلحة الصاروخية ويطارده ويلاحقه على نقل التقنية والابداع فيه، ويقلق من اطلاق صاروخ العابد الحامل للاقمار الصناعية، ولكنه يهنيء (اسرائيل)عندما تطلق صاروخا أو تضع قمرا صناعيا في المدار! اذا كان الامر كذلك فنحن نجد بلا غرور بأنه اصبح على العرب واجب اضافي ليس فقط أن يتحرروا من داخلهم، وانما أن يحرروا بعض الزوايا المظلمة في العالم من ابتزاز اللوبي الصهيوني، ولا يتحقق هذا الا بالسلام والا عندما يكون العرب مع (اسرائيل) نداً لند).
لسنوات طويلة عانى العراق من التخلف وانتشار الفقر والجهل والامية وتفشي البطالة ونقص وأحيانا غياب الخدمات الاساسية مثل الماء النقي والكهرباء وخدمات التعليم والصحة والبنى التحتية ناهيك عن ضعف التنمية وضآلة القطاع الصناعي وتدني الانتاج الزراعي. حدث هذا والعراق يملك ثاني أكبر أحتياطي للنفط في العالم، ومن اقدم منتجيه في المنطقة (1927). كانت شركات امريكية بريطانية فرنسية تملك النفط العراقي، وليس للحكومة إشراف أو سلطة على إدارة القطاع النفطي، اما سياسة الانتاج والتسويق والتسعير فقد منعت الحكومة من التدخل فيه، مقابل ان تدفع لها الشركات مبالغ مقطوعة عبارة عن ملاليم على كل برميل منتج. واستمر العمل بهذه الطريقة من سنة 1927 الى عام 1953. ومنذ 1953 الى يونيو 1972 اتفقت الشركات مع الحكومة على تقاسم أرباح النفط المصدر مناصفة بينهم. أما في الحقيقة فلم تزد عوائد الحكومة من النفط الا بنسبة ضئيلة جداً، بسبب عدم اطلاعها على كمية النفط المصدر فعلاً واسعار بيعه وتكاليف انتاجه الحقيقية.. كانت الشركات كما تفعل سلطة الاحتلال الان، تتلاعب بالبيانات وتضخم التكاليف لكي تقلص حصة الحكومة وتسرق هي العوائد الحقيقية.. عمليا كان النفط يذهب للشركات ودولها الاستعمارية الى أن جاءت ثورة تموز 1968 فأعدت العدة لتأميم النفط.. وكانت ظروف العراق الاقتصادية صعبة والميزانية خاوية، وليس لدى العراق أحتياطيات من العملة الاجنبية، ولا موارد غير عوائد النفط على شحته.. كما ان تجارب تأميم النفط السابقة في كل من المكسيك وايران أظهرت أن شركات النفط تتمتع بقدر كبير من القوة والنفوذ ودعم حكوماتها بحيث أسقطت تأميم النفط في البلدين المذكورين.. مع ذلك أدرك الرئيس صدام حسين أن العراق لن يتمتع باستقلال حقيقي والنفط بيد الشركات الاجنبية، وان المسألة أوسع من مجرد استرداد عوائده المالية المنهوبة من قبل الشركات الاجنبية، لذلك قررت القيادة وضع خطة دقيقة لتأميم النفط استغرق الاعداد العملي لها وقتا زاد على سنة، واتخذ قرار التأميم في الاول من يونيو 1972.. بعد التأميم حصلت قفزة هائلة في الوضع التنموي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي في العراق، وخلال سبع سنوات فقط من (1973– 1980) أنجز العراق مشاريع تنموية ب (133) مليار دولار في حين أن كل انفاقه التنموي خلال ال(33) سنة السابقة بلغ (9) مليار دولار فقط.. وانطلقت الصناعة والزراعة الى آفاق رحبة، وبلغت خدمات الصحة أرقى مستوىً في المنطقة، وانتشر التعليم وتم القضاء على الامية كلية، وأقيمت بنية تحتية هائلة، وغطت طرق المواصلات والكهرباء والماء النقي كل الريف العراقي وتطورت الصناعة العسكرية.. لقد شهد العراق تنمية انفجارية تتسم بكثافة الاستثمارات وانتشارها على كل القطاعات في وقت واحد.. كان التأميم والنهضة وعدالة توزيع الثورة التي رافقته احد الاسباب الرئيسية للتآمر على الثورة واثارة المشاكل في طريقها وفرض الحصار على نقل التكنولوجيا الى العراق منذ سنة 1985..
اليوم تنتقم الولايات المتحدة وبريطانيا من إنجاز التأميم العراقي، وتحاول اعادة العراق الى ماكان عليه قبل أكثر من نصف قرن، بتشريع قانون نفط جديد ألزمت حكومة المالكي بأقراره حسب النص المقدم من الجانب الامريكي، وتضمنت مواده إلغاء التأميم والسماح لشركات النفط الامريكية والاجنبية بالاستثمار في القطاع النفطي الذي يمنعه القانون الوطني السائد قبل الاحتلال، كما ان القانون سحب سلطة القرار النفطي من الحكومة المركزية الى حكومات الاقاليم، ومنحها صلاحيات اعلى من صلاحية المركز، وأدخلت بدعة تقاسم العوائد النفطية ليسهل سرقتها من وكلاء الاحتلال الممسكين بالسلطة...
تبنى صدام حسين منهجا قومي، يقوم على الايمان الراسخ بأن العرب أمة واحدة، والسعي ككل الامم لأقامة كيان سياسي واحد يعبر عنهم، بدلا من 22 كيان سياسي.. حاول تجسير الفجوة بين القطري والقومي أو بين الوطني والقومي في العلاقة بين الاقطار العربية، وازالة التناقض الذي يبدو للبعض أنه قائم بينهم، فأن لم تكن الظروف مواتية لتحقيق هدف الوحدة أو الاتحاد، فعلى الاقل يتم تنسيق السياسات والمواقف، وتضمنت كلمته في مؤتمر القمة العربية الطارئة الذي عقد في(28- 30 \5\1990) ببغداد تركيزا على هذا الجانب.. نبه فيه الى مخاطر تفاوت القدرة لدى الاقطار العربية في رفض أي عرض أجنبي وطريقة التعامل مع الاطماع والسياسات غير المشروعة للأجانب وكونها تشكل ثغرات في جدار الامن القومي العربي أذا لم نحسن التعامل معه، ويصبح بعضها قاتلا للوطني والقومي من العلاقات والقدرات ومانعا من أن تأخذ مداها كما ينبغي، ذلك لأن قوة (الوطني) وضعفه متداخلة مع (القومي) من الامور قوة وضعف، ولأن أحضار (القومي) تذكيرا وسلوك، الى جانب (الوطني) يعد مهمازاً اساسيا وغطاءً عقائدياً صحيحا (للوطني)، وهو مصدر التشجيع والالهام لكل ما هو قوي ومقتدر في (الوطني) ضمن أقطارنا.
تلك لمحات خاطفة من مسار ثورتي يوليو وتموز وقيادتي عبدالناصر وصدام حسين، كلاهما (الثورتان والقائدان) كانا قطب رحى وجدار صد ومصدر الهام.. حملا راية المشروع القومي النهضوي الذي بدأته مصر في النصف الاول من القرن التاسع عشر واصطدما كما حصل مع المشروع الاول، بتحالف الغرب الامبريالي متعدد الاطراف الذي حاصر المشروعان واستنزفهما وحال دون استمرارهما..
نعم حصلت أخطاء وإخفاقات ذاتية أضعفت المشروعين، لكن السبب الاساس لإخفاقهما يظل التحالف الامبريالي الصهيوني متعدد الاطراف وتواطؤ بعض أعضاء النظام العربي..
قد يبدو الامر محبطا للأمة، وهذا هو الهدف الجوهري من مواصلة الغرب تحطيم كل محاولة للنهضة، ولكن القوى الحية في الامة لا تدع مجالا لليأس او الاحباط، فهاهي قوى المقاومة في أكثر من موقع تخوض نضالا بطوليا اسطوريا في العراق وفلسطين ولبنان، وصمودا وثباتاً في سوريا وليبيا واليمن والسودان، ورغم التفوق الكاسح لقوات الاحتلال الامريكي في العراق، فإن المقاومة جرَّعتها مرارة الفشل والهزيمة..

ان درس المقاومة يجب أن يدفع المعنيين بشأن الامة الى دراسة الاسباب التي مكَّنت الهجمة الامبريالية الصهيونية من ضرب مشاريع النهضة الثلاث السابقة، والفشل في النيل من المقاومة.

ليست هناك تعليقات:

تنويه من المحرر

تنويه من المحرر
وجهات نظر موقع شخصي تماماً لا يمثل أي جهة أو حزب أو منظمة، ولا ينتمي إلا للعراق وأمته العربية والإسلامية، وهو محمي بالقانون وبميثاق الشرف الصحفي ولايسمح بإعادة النشر إلا بشرط ذكر المصدر.. الكتاب يتحملون مسؤولية مقالاتهم، والناشر غير مسؤول عنها..