موقعنا الجديد، مع التقدير

موقعنا الجديد، مع التقدير
نأسف لإزعاجكم، انتقلنا إلى هنا رجاءً، يرجى الضغط على الصورة للانتقال إلى موقعنا الجديد

السبت، 20 يوليو 2013

لعبة الأمم على أرضٍ يرفض أهلُها أن تكون أمّة!

وجهات نظر
صبحي غندور
هل ما يحدث في مصر الآن ينفصل عمّا يحدث في سوريا وعموم المشرق العربي، وعمّا حدث قبل ذلك في العراق من احتلالٍ وتفكيك لوحدة الشعب والكيان، وما جرى في السودان أيضاً من فصلٍ لجنوبه عن شماله؟! وهل محاولة توريط الجيش المصري في صراعات عنفية داخلية مسألة منعزلة عمّا حصل مع جيش العراق، ويحصل الآن مع جيش سوريا، وهي الجيوش العربية المستهدَفة إسرائيلياً منذ حرب عام 1973 ؟!


لقد بدأ القرن الحادي والعشرون بحربٍ أميركية على الإرهاب برّرتها أعمال الإرهاب التي حدثت في الولايات المتحدة عام 2001، لكن ساحات هذه الحرب الأميركية كانت البلاد العربية والإسلامية، والقوى المشاركة فيها شملت العديد من الدول الغربية، ممّا أعاد للذاكرة العربية ما حدث في مطلع القرن الماضي من استعمارٍ واحتلالٍ وهيمنة أوروبية على المنطقة العربية، ومن تقسيمٍ للأرض والشعوب العربية، حيث قامت كياناتٌ ودولٌ متصارعة على الحدود فيما بينها، بينما هي أحقُّ بأن تكون أمَّةً واحدة ذات كيانٍ سياسيٍّ واحد، كما هي أمم العالم الأخرى.
لكنّ الفارق بين "الأمّة الأميركية" مثلاً، و"الأمّة العربية"، هو أن توحيد الولايات الأميركية على أسس دستورية سليمة، جعل منها أمّةً واحدة رغم عدم وجود العمق التاريخي لها ولعناصر تكوين الأمم. فهل كانت أميركا قادرةً على جعل القرن العشرين "قرناً أميركياً"، وعلى التحوّل إلى القوة الأعظم في العالم لو لم تكن الأمّة الأميركية أمّةً موحدة، أو لو انتهت الحرب الأهلية الأميركية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بانفصال الولايات الجنوبية عن الولايات الشمالية؟!
طبعاً، لم تكن هناك "أيدي غريبة" ولا "تدخل خارجي" في الحرب الأهلية الأميركية، كما هو حال العديد من الأزمات العربية الراهنة، ولم يكن هناك "مجلس الأمن الدولي" الذي يقرّر الآن مصير حروب ودول وشعوب، ولم يكن هناك صراع إرادات أجنبية أو "لعبة أمم" على الأرض الأميركية، كالذي نراه يحدث الآن على الأرض العربية.
فعدّة بلادٍ عربية تعيش في الوقت الراهن صراعاتٍ على السلطة. هي صراعاتٌ سياسية حتماً، مهما حاول البعض تشويهها بألوان طائفية دينية أو إثنية مختلفة. وهي صراعاتٌ محلّية طبعاً لكن تدعمها وتوظّفها قوى خارجية. وهي صراعاتٌ ممزوجة مع القضية الفلسطينية ومع مسألة المقاومة ضدّ الاحتلال، وبالموقف الإسرائيلي من القوى المحلّية المتصارعة. وهو أيضاً صراعٌ دولي وإقليمي في "منطقة الشرق الأوسط"، لكن أدواته وساحاته هي بلاد العرب وشعوبها. لكن المؤسف في كلّ أماكن هذه الصراعات، أنّ هناك تهديداً حقيقياً للوحدة الوطنية ومخاطرَ نشوب حروبٍ أهلية تطيح حتّى بما جرى رسمه أوروبياً من خرائط وحدود في بدايات القرن الماضي.
في هذه الأزمات العربية المتفجرة الآن جذور عميقة لسلبياتٍ داخلية تتحمّل مسؤوليتها حكومات و"معارضات"، بل إنّ هذه الجذور السلبية الداخلية هي الحافز المشجّع دائماً على التدخّل الأجنبي، الدولي والإقليمي.
أيضاً، فإنّ موقع مصر وثقلها البشري ودورها الريادي التاريخي في أحداث المنطقة، كلّها عوامل تجعل من مصر مدخلاً لبلاد العرب جميعها. هكذا كان دخول القوى الأجنبية للمنطقة، وهكذا أيضاً كان خروجها منها، منذ الإسكندر المقدوني، إلى حملة بونابرت، إلى الاحتلال البريطاني، إلى الوجود السوفييتي بالمنطقة، إلى "كامب ديفيد" وفرض معاهدات "سلام" مع إسرائيل.
ربّما لا يتذكّر شعب مصر، ولا شعوب البلاد العربية، هذه الخلاصة المهمّة جداً عن الدور المصري في المنطقة، لكن القوى الأجنبية الطامعة بالهيمنة عليها تعلم أهمّية "المفتاح المصري" لأبواب آسيا وإفريقيا العربيتين.
وقد حدثت "ثورة 25 يناير" بفعل حركة شبابية مصرية تضامنت معها قطاعات الشعب المصري كلّه، لكن دون استنادٍ إلى قوة سياسية منظّمة لهذا الحراك الشعبي، ممّا جعل الثورة والثوار دون مرجعية تحصد نتائج الثورة فيما بعد، وممّا أفسح المجال أيضاً لحركة "الأخوان المسلمين" أن تقتطف ثمار "ثورة يناير" دون أن تكون هي العامل الأهم فيها.
إنّ مواجهة الاستبداد الداخلي من خلال طلب الاستعانة بالتدخّل الخارجي أو من خلال العنف المسلح المدعوم معظم الأحيان خارجياً، جلب ويجلب الويلات على البلدان التي حدث فيها ذلك، حيث تغلب حتماً أولويات مصالح القوى الخارجية على المصلحة الوطنية، ويكون هذا التدخّل أو العنف المسلح نذير شرٍّ بصراعاتٍ وحروبٍ أهلية، وباستيلاءٍ أجنبيٍّ على الثروات الوطنية، وبنزعٍ للهويّة الثقافية والحضارية الخاصّة في هذه البلدان. لكن أيضاً فإنّ "التسامح" مع الاستبداد من أجل مواجهة الخطر الخارجي، أو تغليب الحلول الأمنية على الحلول السياسية، يدعم كلَّ المبرّرات والحجج التي تسمح بهذا التدخّل الأجنبي المباشر أو غير المباشر. لذلك كان مهمّاً استيعابُ دروس تجارب شعوب العالم كلّه، بأنّ الفهم الصحيح لمعنى "الحرّية" هو في التلازم المطلوب دائماً بين "حرّية المواطن" و"حرّية الوطن"، وبأنّ إسقاط أيٍّ منهما يُسقط الآخر حتماً.
إنّ وجود تدخّل وتأثير خارجي في مسارات الحراك الشعبي العربي يزيد من مسؤولية القائمين على هذا الحراك. فنعم هناك حاجة قصوى لإحداث تغيير في واقع عربي قائم معظمه على الاستبداد والفساد والتبعية للخارج،  لكن الأسئلة المشروعة هي: من يقوم بالتغيير، وكيف، وبدعمٍ ممّن، ولصالح أيِّ برنامج أو رؤى بديلة للواقع المرفوض، وماهيّة آثاره على الوحدات الوطنية الشعبية وعلى هُويّة الوطن نفسه؟.
هناك مخاوف حتماً على مستقبل الحراك الشعبي العربي أينما وُجِد، وذلك من منطلق الحرص عليه، وعلى ضرورة استمراره في الطريق الصحيح، والذي يجب أن تكون خواتيمه هي أوطان واحدة وموحّدة في كياناتها وشعوبها، وحكومات منتخبة وعادلة ونظيفة، ومجتمعات قائمة على التعدّدية الطائفية والإثنية والفكرية والسياسية والإعلامية، يحكمها دستور يساوي بين المواطنين ويضمن الفصل بين السلطات ويؤكّد مفهوم "المواطنة". هذا كلّه في الإطار الداخلي، الذي لا يمكن الاكتفاء به كعنوانٍ للتغيير العربي المنشود. فالديمقراطية لا يمكن فصلها عربياً عن مسألتيْ التحرّر الوطني والهويّة العربية. ولعلّ في التجارب "الديمقراطية"، التي حصلت خلال العقد الماضي في لبنان والعراق وفلسطين، ما يؤكّد هذه الخلاصة عن أهمّية التلازم المطلوب بين الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية.  
فالمشكلة الأبرز لدى دعاة (الديمقراطية فقط) في البلدان العربية أنّهم يفصلون المسألة الديمقراطية عن قضيتيْ التحرّر الوطني والهويّة العربية، وبهذا تصبح الدعوة للديمقراطية (فقط) عذراً من أجل التدخّل الأجنبي واستباحة الدول والهيمنة على مقدّراتها، إن لم نقل أيضاً تفتيت وحدة كيانها ومجتمعها.
كذلك الأمر في مسألة الهويّة العربية لهذه الأوطان حيث كان طرح الديمقراطية (وما يزال الآن كذلك) منعزلاً عن الهويّة العربية، بل هو أحياناً في المواجهة معها سعياً لاستبدالها ب"هويّات" طائفية أو إثنية ممّا لا يُضعف الهوية العربية فحسب، بل ويُضعف أيضاً الهويّة الوطنية الواحدة، كما هو حال بلدانٍ عربية تمارس الآن "الحياة الديمقراطية فقط"!!.
فصحيحٌ أنّ الديمقراطية هي حاجةٌ ملحّة وضرورية لمعالجة الكثير من الأمراض الكامنة في الجسم العربي، لكنّها (أي الديقراطية) ليست مسألةً منعزلةً عمّا تعيشه أيضاً البلاد العربية من قضايا أخرى، ترتبط بالتحرّر الوطني وبالعدالة الاجتماعية وبالوحدة الوطنية وبالهويّة العربية.
إنّ التعامل مع المسألة الديمقراطية في المنطقة العربية لا ينفصل أيضاً عن تحدّيات الوجود الإسرائيلي، وعن مشاريع القوى الإقليمية والدولية الكبرى، وما لها كلّها من أطماع أمنية وسياسية واقتصادية، يستلزم تحقيقها إشعال الصراعات داخل وبين بلدان الأمّة العربية.
هناك إذن مزيجٌ مركّب من الأزمات ممّا يحتاج إلى مزيجٍ أيضاً من الحلول. فبناء آليات ديمقراطية واعتماد صناديق انتخابات لا يحقّقان وحدهما فقط "الشرعية الشعبية" والعدل السياسي والاجتماعي بين الناس، أو يصونان وحدة المجتمعات، أو يمنعان التدخّل الأجنبي، أو يحرّران الأراضي المحتلّة .. وهي كلّها مسائل معنيّةٌ بها "الأمة العربية" التي ما زالت تقوم على أوطانٌ عربية مختلفة ومتصارعة مع نفسها في كثير من الأحيان..
***
لقد خبِرَت الأمَّة العربية، وجرّب العرب، في العقود الأربعة الماضية كلَّ البدائل الممكنة عن نهج وتيار العروبة الذي ساد في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي. فقد كانت زيارة أنور السادات لإسرائيل في العام 1977 بداية الانقلاب الفعلي على نهج العروبة في مصر وعموم المنطقة العربية. وشهدت مصر بعد ذلك سياسة الانعزال عن العرب، والتطبيع مع إسرائيل بدعمٍ كبير من الدول الغربية. ولم يكن نهج التقوقع الإقليمي والانعزال هو وحده البديل الذي ساد في بلاد العرب، عقب عزلة مصر التي فرضتها اتفاقيات "كامب ديفيد" والمعاهدة مع إسرائيل، بل ظهرت أيضاً بدائل أخرى بألوان دينية وطائفية، بعضها كان متجذّراً في المنطقة لكن دون تأثيرٍ سياسيٍّ فعّال، وبعضها الآخر كان نتاجاً طبيعياً لمرحلة الحروب الإسرائيلية وتداعياتها السياسية في المشرق العربي.
وقد ترسّخت في العقود الأربعة الماضية جملة شعارات ومفاهيم ومعتقدات تقوم على مصطلحات "الإسلام هو الحل"، و"حقوق الطائفة أو المذهب"، و"الوطن أولاً"، لتشكّل فيما بينها صورة حال المنطقة العربية بعد ضمور "الهويّة العربية" واستبدالها بمصطلحاتٍ إقليمية ودينية وطائفية.
وهكذا تمتزج الآن على الأرض العربية مشاريع تدويل أزمات داخلية عربية مع مخاطر تقسيم مجتمعات عربية، وسط رياحٍ عاصفة تهبّ من الشرق الإقليمي ومن الغرب الدولي، ومن قلب هذه الأمّة حيث مقرّ المشروع الصهيوني التقسيمي.
وأصبحت الآن "الهوية العربية"، مادّةً للنقاش وللرفض وللإسقاط في بعض الأحيان، بل أصبح فرز "قوى المعارضة" يتمّ على أسسٍ طائفية ومذهبية وإثنية في ظلّ التركيز الإعلامي العالمي على التيّارات السياسية الدينية في المنطقة ككل، فعن أيِّ "عربٍ وربيعٍ عربي" يتحدّثون؟!.
إنّ تعبير "الربيع العربي" يوحي وكأنّ ما يحدث في المنطقة العربية هو ثورةٌ واحدة موحّدة في الأساليب والقيادات والأهداف والظروف، وعلى أرضٍ واحدة وفي كيانٍ واحد، وهذا كلّه غير صحيح. فالمنطقة العربية هي أمَّةٌ واحدة، لكنّها تقوم على 22 دولة وكيان وأنظمة حكم مختلفة. فوحدة "الشارع العربي"، من الناحيتين السياسية والعملية، هي غير متوفّرة بسبب هذا الواقع الانقسامي السائد لقرنٍ من الزمن تقريباً، وبالتالي فإنّ المشترك الآن هو حدوث انتفاضاتٍ شعبية عربية، لكن بقوى مختلفة وبظروف متباينة وبأساليب متناقضة أحياناً. وكان واضحاً، وما يزال، غياب المعيار العربي الواحد لتقييم هذه الانتفاضات الشعبية. فقد يكون معيار البعض هو العامل السياسي المحلي فقط، من خلال تغيير أشخاص في الحكم أو إسقاط نظام، بينما قد يكون المعيار، لدى البعض الآخر، هو مدى قدرة هذه الانتفاضات الشعبية على البقاء متحرّرة من التدخّل الأجنبي وشروطه المستقبلية على النظام البديل.
إنّ المنطقة العربية تتميّز عن غيرها من بقاع العالم بميزاتٍ ثلاث مجتمعةٍ معاً: فأولاً، تتميّز أرض العرب بأنّها أرض الرسالات السماوية؛ فيها ظهر الرسل والأنبياء، وإليها يتطلّع كلّ المؤمنين بالله على مرّ التاريخ، وإلى مدنها المقدّسة يحجّ سنوياً جميع أتباع الرسالات السماوية من يهود ومسيحيين ومسلمين.
وثانياً، تحتلّ أرض العرب موقعاً جغرافياً هامّاً، جعلها في العصور كلّها صلة الوصل ما بين الشرق والغرب، ما بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وبين حوض المتوسّط وأبواب المحيطات. ومن هذا الموقع الجغرافي الهام خرجت أو مرَّت كلّ حضارات العالم سواء القديم منه أو الحديث.
وثالثاً، تمتلك أرض العرب خيراتٍ طبيعية اختلفت باختلاف مراحل التاريخ، لكنّها كانت دائماً مصدراً للحياة والطاقة في العالم. فهكذا كان الحال منذ أيام الإمبراطورية الرومانية التي كانت خزائن قمحها تعتمد على الشرق العربي وصولاً اليوم إلى عصر "البترو - دولار" القائم على منابع النفط والغاز في أرضنا.
وهذه الميزات الإيجابية تجعل المنطقة العربية دائماً محطّ أنظار كلّ القوى الكبرى الطامعة بثروات الشعوب الأخرى والطامحة للسيطرة على العالم..
أيضاً، تتميّز المنطقة العربية، في تاريخها المعاصر، عن باقي دول العالم الثالث، أنّ الدول الكبرى، الإقليمية والدولية، تتعامل مع هذه المنطقة كوحدةٍ متكاملة مستهدَفة وفي إطار خطّة إستراتيجية واحدة لكلّ أجزاء المنطقة، بينما تعيش شعوب المنطقة في أكثر من عشرين دولة دون أي توافق على إستراتجية عربية مشتركة.
ولقد أدّى هذا الواقع الانقسامي، وما يزال، إلى بعثرة الطاقات العربية (المادّية والبشرية) وإلى صعوبة تأمين مشروع عربي فاعل يواجه المشاريع والتحدّيات الخارجية أو يمكّن من القيام بدورٍ إقليمي مؤثّر تجاه الأزمات المحلية، بل أدّى أيضاً لوجود عجزٍ أمني ذاتي في مواجهة ما يطرأ من أزماتٍ وصراعات داخل المنطقة، ممّا يبرّر بنظر البعض الاستعانة بقوًى أمنية خارجية قادرة على حلّ هذه الصراعات ..
هناك غيابٌ للقرار السياسي العربي بالتعاون والتكامل؛ ثمّ إذا ما توفّر هذا القرار، عابَهُ سوء الأسلوب في الإدارة والتعامل والخطط التنفيذية، كما حصل في تجارب وحدوية عربية عديدة أدّت نتائجها إلى مزيدٍ من الشرخ بدلاً من الاتحاد.
إنّ سلبيّات الواقع العربي الراهن لا تنحصر فقط بالمخاطر الناجمة عن عدم إدراك العرب دروس تاريخهم وأهمية موقع أوطانهم وثرواتها، بل أيضاً في سوء رؤية أصحاب الأرض العربية لأنفسهم ولهويّتهم ولكيفية إصلاح أوضاعهم السياسية والاجتماعية.
وتنذر تداعيات العنف الداخلي المسلّح، المرافق الآن لانتفاضاتٍ شعبية في بعض البلدان العربية، بالتحوّل إلى حروبٍ أهلية عربية يكون ختامها نجاح المشروع الإسرائيلي حصراً، حتّى على حساب المشاريع الدولية والإقليمية الأخرى الراهنة للمنطقة.
هي ثلاثة عناصر تصنع الآن الحاضر العربي: أوّلها وأهمّها، اهتراء الأوضاع السياسية الداخلية بوجهيها الحاكم والمعارض. وثانيها، التدخّل الأجنبي في شؤون الأوطان العربية. وثالثها، هو غياب المشروع الفكري النهضوي الجاذب لشعوب الأمَّة العربية ولجيلها الجديد التائه بين السلبية والتطرّف.
إنّ الحديث عن "أمّة عربية فاعلة" يعني القناعة بأنَّ العرب هم أمَّة واحدة تتألف الآن من أقطار متعدّدة لكنّها تشكّل فيما بينها امتداداً جغرافياً وحضارياً واحداً وتتكامل فيها الموارد والطاقات.
إنّ "الكلّ العربي" هو مكوَّن أصلاً من "أجزاء" مترابطة ومتكاملة. فالعروبة لا تلغي، ولا تتناقض، مع الانتماءات العائلية أو القبلية أو الوطنية أو الأصول الإثنية، بل هي تحدّدها في إطار علاقة الجزء مع الكل.
إنّ "العروبة" هي تعبير يرتبط فقط بمسألة الهويّة وهي تحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز أمّة العرب عن غيرها من الأمم الأخرى، لكنّها (أي العروبة) لا تعني نهجاً سياسياً أو نظاماً للحكم أو مضموناً عَقَديّاً/أيديولوجياً. لذلك من الخطأ مثلاً الحديث عن "فكر قومي" مقابل "فكر ديني"، بل يمكن القول "فكر علماني" مقارنة مع "فكر ديني"، تماماً كالمقابلة بين "فكر محافظ" و"فكر ليبرالي"، و"فكر اشتراكي" مقابل "فكر رأسمالي".. وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه في أيِّ بلدٍ أو أمّة أو مجموعة أمم.
إنّ الدعوة إلى العروبة هي دعوة فكرية وثقافية، والانتماء إلى العروبة يعني التسليم بالانتماء إلى أمَّة واحدة يمكن أن تُعبّر عن نفسها بشكل من أشكال التكامل والاتحاد بين أبنائها..
وهناك علاقة خاصة جداً بين الثقافة العربية كإطار، وبين الحضارة الإسلامية كمضمون، ففي الحفاظ على الثقافة العربية ولغتها، حفاظٌ على لغة القرآن الكريم وتسهيلٌ لفهمه الصحيح ولاستيعاب مضامينه.
هكذا هو تعبير "العروبة الحضارية" الذي يعني "الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري"، هذا المضمون الذي جاء به الإسلام ثم اشترك في صيانته ونشْرِه مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبالتالي خرجت الهويّة الثقافية العربية من دائرة العنصر القبلي أو الإثني، ومن محدوديّة البقعة الجغرافية (شبه الجزيرة العربية) إلى دائرة تتّسع في تعريفها ل"العربي"، لتشمل كلّ من يندمج في الثقافة العربية بغضِّ النظر عن أصوله العرقية. ودخل في هذا التعريف معظم من هم عرب الآن ولم يأتوا من جذور أو أصول عربية من حيث الدم أو العرق.
فعسى أن نشهد قريباً ولادة حراك شعبي وسياسي وفكري عربي جادّ يحرص على الهويّة الثقافيّة العربيّة ومضمونها الحضاري، وينطلق من أرضيّة عربيّة ووطنيّة مشتركة تعتمد مفهوم المواطنة لا الانتماء الطّائفي أو المذهبي أو الأصول الإثنية، وتستهدف الوصول - بأساليب ديمقراطيّة لا عنفيّة - إلى " اتّحاد عربي ديمقراطي" حرّ من التّدخّل الأجنبي، وتتساوى فيه حقوق الأوطان وواجباتها كما تتساوى في كلٍّ منها حقوق كل المواطنين.
 هناك حاجة ماسَّة الآن لهذا الخطاب العربي النهضوي المشترك، كما هي الحاجة للخطاب الوطني التوحيدي داخل الأوطان نفسها. خطاب عربي يعيد ثقة شعوب الأمة العربية بهويتهم العربية الجامعة لكل الخصوصيات الدينية والإثنية. فعند ذلك فقط يمكن أن تكون هناك "أمّة عربية" فاعلة تُوقف "لعبة الأمم" على أرضها، وتضع نفسها في مستوى الأمم الكبرى في العالم.


ليست هناك تعليقات:

تنويه من المحرر

تنويه من المحرر
وجهات نظر موقع شخصي تماماً لا يمثل أي جهة أو حزب أو منظمة، ولا ينتمي إلا للعراق وأمته العربية والإسلامية، وهو محمي بالقانون وبميثاق الشرف الصحفي ولايسمح بإعادة النشر إلا بشرط ذكر المصدر.. الكتاب يتحملون مسؤولية مقالاتهم، والناشر غير مسؤول عنها..