هذه مقالة تحليلية مهمة، للدكتور ضرغام الدباغ، أستاذ القانون الدولي المعروف، عن واقع النظام السياسي العربي، والمشكلات التي تكتنفه، مع محاولة لتقديم بعض الحلول المناسبة.
وهي بالاصل مداخلة ألقيت في المؤتمر الشعبي العربي الثامن الذي انعقد بالعاصمة الالمانية، برلين، بتاريخ 11 يونيو / حزيران / 2011.
ننشرها اعتزازاً بالدكتور الدباغ، وبمضامين المقالة.
النظام السياسي العربي
الإشكاليات والحلول
د. ضرغام الدباغ
على الرغم من مرور مدة غير قصيرة(نسبياً)، إلا أننا نلاحظ أن الانفعال ما يزال يسيطر على الأفعال وردود الأفعال، وبالرغم من الدروس المريرة، فلا يزال للأسف هناك من يكون اعتقاده بطريقة لا ترتقي للآليات المرحلة الراهنة، ومرتسماتها، فيوقعه انفعاله وتشنجه في العجز عن استخلاص الدروس والعبر من التجارب.
بيد أننا هنا معنيون بتحليل ظاهرة اتسعت وضربت عاصفتها أكثر من ساحة عربية، ولابد من اللجوء إلى مناهج التحليل العلمي، وبغير ذلك فإن الأمر سيصبح ضرب من كتابات إنشائية. لا طائل منها، فالحركة هي غير الانتفاضة، والانتفاضة هي غير الثورة، وأعتقد أن الحذر واجب في إعطاء حق كل صفة، ويحق لنا أن نعبر أيضاً عن قلقنا حين نرى حشود كبيرة تعمل بعفوية، لا مخطط عمل لديها، يسهل إثارتها والتسلل إلي ذروة أمواجها.
لست هنا (في مداخلتي هذه) بصدد تقييم الأوضاع في كل قطر عربي، أو النظر في شخصية قائد عربي معين، بل البحث في إشكالية هي بتقديرنا جذر المسألة ولحمتها وسداها، وتتمثل بإيجاد أسس وقواعد سياسية وقانونية / دستورية لنظام عربي تجنبنا التحولات الدموية وإبادة متكررة لمنجزات سياسية واقتصادية وثقافية، تصيب عملية التراكم بأضرار جسيمة. الهدف من هذه الدراسة هي حث الجمهور على التطلع لنظام سياسي عربي يجري فيه تداول السلطة سلمياً، دون استخدام الدبابات والأسلحة، نظام لا يعتبر فيه الحاكم المنصب ملكاً شخصياً له، بل ويفكر بتوريثه لأبنائه وربما لأحفاده إن أستطاع لذلك سبيلا ..
من جميع هذه الملاحظات، وربما غيرها، نصل لنتيجة جوهرية، تمثل القاسم المشترك الأعظم، ودونه فإن احتمالات العودة إلى المربع الأول متوفرة دائماً: ونتساءل لماذا تحولت الفردية واحتكار الرأي لتقليد وهو ليس جذري في تقاليد العمل السياسي العربي، ولماذا يميل العقل والنظام السياسي العربي للفردية والاستفراد، وهو ما يقود للدكتاتورية والطغيان ..؟
الديمقراطية التي يروج لها الغرب في بلداننا، ليست سياسية فقط، متمثلة بآليات الانتقال السلمي للسلطة السياسية، بل هي مجموعة من نظم وقواعد هي اقتصادية في جانبها الأعظم، ونريد نحن أن نتوصل وبأقتناع، لنظام عربي هو من صلب حياتنا وموروثاتنا السياسية / الثقافية، والاجتماعية، نظام حديث يعيش العصر الراهن، وقابل للتطور، نريد نظاماً لا يشعر فيه مواطن أنه رقم مهمل، قابل للتزوير في الاحصاءات، نظام نستطيع الدخول به القرن الواحد والعشرين بجدارة، نظام يستطيع أن يجند قدرات الناس وعواطفهم في بناء دولة عصرية.
ونجد أن الفكر العربي الإسلامي قادر بجدارة أن يصيغ مبادئ وقوانين وقواعد فكرية / سياسية / اقتصادية، نجدها الأكثر ملائمة لمجتمعاتنا العربية الإسلامية لأنها نابعة من صميم معتقداته، وبيئته وبالتالي حاجاته، وهنا تكمن مهام علماء السياسة والاقتصاد العرب في تطوير وعصرنة وصياغة نظريات تتفاعل فيما بينها وتتكامل لتؤدي في نهاية المطاف إلى نظرية حكم عربية إسلامية وتؤسس لنظام عربي حديث تحل فيها هذه الإشكالية التي ما برحت تمثل الثغرة الأخطر على الأمن القومي العربي.
سنحاول هنا وضع أهم مرتسمات ومعالم التلاحم الفكري / بين مكونات الحضارة العربية الإسلامية لدولة عربية حديثة، وهي برسم التوسيع:
1. نجد من الضروري الإقرار أن الفكر السياسي العربي / الإسلامي متلازم بشقيه وأن الواقع الموضوعي يتطلب فهماً ذات طبيعة متكاملة وليست متناقضة بين العروبة والإسلام، كما يؤكد على جوهر السلم الاجتماعي، دون إغفال للشأن الاجتماعي وذلك بأقتلاع أسباب النزاعات بسبب التفاوت الطبقي.
2. إن أي نظرية سياسية سوف لن يكتب لها النجاح الواقعي، ما لم تأخذ بمعطيات الواقع الموضوعي في الأقطار، وفي مقدمة تلك، أعتبار زج كافة طاقات وقدرات المجتمعات في معركة البناء والتحديث، رجال ونساء، وكافة الأفراد بغض النظر عن انتمائهم الديني والعرقي، متكافئين أمام القوانين.
3.عصرنة مفردات مهمة في علم السياسية العربي / الإسلامي التي لها أهمية كبيرة على تشكيل الدولة العربية الإسلامية في العصر الحديث، مثل: الشورى، تطبيقها واستحقاقاتها، أهل الحل والعقد ومنحه طابع مؤسساتي، البيعة وأبعادها القانونية / الدستورية.
4. تحديد أبعاد وصلاحيات كل من المركزين: الملك، الرئيس الراعي للدستور، والسلطة السياسية التنفيذية(رئيس الوزراء، الوزير الأول ).
5. منح مفاهيم عصرية قابلة للتحقيق للسلطات الرئيسية في الدولة، والفصل التام بينها: التنفيذية، التشريعية، والقضائية.
6. تحديد الأفق العام للنشاط الاقتصادي في الدولة، هل هي حرية مطلقة دون أدني رقيب أو حسيب، أم وضع سقف لتحكم البشر في الاقتصاد الوطني، وعدم القبول بالاحتكار كمبدأ.
7. ينبغي أن يكون دستور الدولة بدرجة من القدسية، بالألتحام القانون الشرعي والوضعي، بحيث لا تجازف، شخصية كانت أو قيادة بمخالفتها، نصوصها أو روحها. وأن لا يكون تعديله أو تجميده، أو إدخال فقرات جديدة فيه أو إلغاء بعضه أو لإيقاف العمل فيه، من صغائر الأمور.
الفكر العربي الإسلامي لم يكن يوماً منغلقاً على ذاته، بل هو متفاعل مع تجارب من يحيط به، وتجارب وأفكار غيره من الشعوب، ولكن العبقرية العربية عرفت كيف أن تصيغ ذلك في إطار ومحتوى عربي إسلامي ليكون ملائماً لبيئتنا وحاجاتنا، ومهمة علماء السياسة العرب المعاصرين هي في بلورة فكرية سياسية / قانونية معاصرة، لذلك أجد من الضروري القول أن هذه الأفكار، وأعمال أخرى لي هي من اجتهادي الشخصي كباحث.
ونجد أن لابد من القول بادئ ذي بدء، أن الخطأ لا يكمن في الشعارات التي ناضلت الجماهير من أجلها، بحد ذاتها كمصطلحات سياسية، ولا في الأهداف السياسية التي آمن بها الشعب، وقدم التضحيات من أجلها، من أجل حرية لم يعانقونها يوماً، بل هي اليوم قد غدت طموح ما بعده طموح، وشعار عدالة اجتماعية هو اليوم بعيد المنال، الشعب العربي حقق وحدته على طريقته الخاصة، عندما وحد الثورة من المغرب العربي حتى مشرقه المشتعل، بشعارات موحدة: واحد .. واحد .. واحد الشعب:التونسي، الليبي، المصري، اليمني، السوري، واحد) وشعار(الشعب يريد .. إسقاط النظام)، الشعب وحد ثورته من أقضى المغرب لأقصى المشرق، من الجنوب اليمني حتى أقصى بلدة في الشمال السوري، هذا شعار حقيقي يحققه قولاً وفعلاً الشعب بالدم وبالشهداء .
مهما أطلقنا على الأعاصير التي تدور في الساحات العربية، فهي منتوج طبيعي لقهر واستبداد طال عقود طويلة، فسدت فيه الحياة السياسية بل تعرضت حتى الحركات السياسية والأحزاب، والشعب بأسره وأدواته للاختطاف والأسر، وكذلك الجيش الذي صارت مهمته حفظ النظام، وغدا مصير البلد والشعب في يد القائد، فيما تدور عملية عبادة للذات بطريقة آلية وبمشهد يثير الاشمئزاز، عملية مؤلمة مؤداها، سحق البلاد وضمير الشعب وإلغاء للمحرمات الأخلاقية، وزجه في غياهب من الظلم والظلام، وفساد بلغ درجات خيالية، فكيف يمكن توقع حدوث نقلة نوعية، بل وحتى تنمية بسيطة في ظل غياب إرادة ومساهمة لأوسع القطاعات في المجتمع، لا سيما المبدعة منها، وكبت للحريات حتى غدت حرية الكلام ... مجرد حرية الكلام والتعبير وأبسط حقوق الإنسان حلماً من الأحلام، وهو في الواقع من الأسباب الرئيسية في أوضاع مزرية، أبسط ملامحها، هجر الشباب لأوطانهم، ونشدان الحياة والكرامة في المهاجر.
ما نشهده من ظواهر ليست فتنة، ولا مؤامرات خارجية، ولا يضعنها أحد بظهر السلفيين، ولا يطلقن عليها أحد بالإرهاب، على أمل تملق وكسب عطف الولايات المتحدة لتسامح همجية القمع، فليس بعد إرهاب القمع الذي تمارسه أجهزتها إرهاب، فهذه الحركات تشترك فيها أطياف شتى، بل وأجيال عاشت تحت قوانين استبداد، وعاصرت وعايشت انتقال السلطة بآليات في غاية التخلف قياساً لما يجري في العالم، الشعب بكل قواه وشخصياته في الحركة، عدا قلة تنتظر أن ينجلي الموقف أكثر، ولم تقصر الأنظمة بإطلاق أزلام ومجندون أمنيون بل وحتى الأشباح... في شبكة عنكبوتية ضمن النظام الأمني.
مع الانتفاضة لا الفوضى المنظمة المصدرة من أمريكا...!
مع الثورة التي نسير فيها لتقدم أمتنا ...!
معاً لنرمم بيتنا ونسد ثغراته، ولكن دون أن ننسى تحصين مداخله ...!
لتكن قراراتنا نابعة عن تفكير عميق، ودراسة وفحص لمستودعاتنا، قبل الغضب والانفعال ...!
لنقيم أخيراً الدولة العربية المدنية، وبها نفتتح الألفية الثالثة ..!
على قوى التحرر العربية أن تعيد ترتيب صفوفها، وتعيد فحص خططها الاستراتيجية...!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق