القس لوسيان جميل
المقدمة: بعد ان بينا خطأ الدعوات السلمية في عصرنا وميزنا، في المقال الأول، بينها وبين الدعوات السلمية الحقيقية، سنحاول ان نبين الآن حقيقة الصراعات الدينية في العالم، لكي نرى بوضوح اذا كانت مسؤولية الصراعات الدينية والمذهبية تقع على الأديان نفسها، ام اذا كانت تقع على المنتسبين الى هذه الأديان، ام ان صراع الأديان في حقيقته الأساسية، ليس غير ناتج عارض يتبع طبيعة مسيرة الأديان، وانتقالها من وجه حضاري وديني الى آخر، اذا ما تكلمنا عن هذه الأديان كلاما علميا؟
رأي المتدينين ورأي العلمانيين والملحدين: وفي الحقيقة نجد أناسا كثيرين لا يقبلون ان يكون الدين مسئولا بأي شكل عن الصراع الديني او المذهبي، ولذلك يتهمون اتباعَ الدين بالإساءة الى دينهم، او يتهمون الأعداء من الخارج بهذه الاساءة. غير ان آخرين، ومن كان منهم من أصول علمانية سطحية، ومن كان منهم ملحدا اصلا، ومن كان من الناشطين في شيطنة الأديان، يعتبرون الدين بحد ذاته افيون الشعوب، ولا يمكن ان ينتج غير الصراعات والدمار والتخلف عن المواكبة الحضارية.
موقفنا العلمي من الصراعات الدينية: أما نحن الذين نقف الموقف العلمي من الصراعات الدينية، فلا يمكننا ان نكون بالحقيقة، لا مع الفئة الأولى ولا مع الفئة الثانية، كما اننا لا نقبل بالحلول الغيبية في شرح واقع صراع الأديان وتفسيره، لكننا سوف نقول بأن ما نشاهده من صراعات يقع ضمن " ظاهرة " اجتماعية دينية مماثلة لظاهرة قيام وسقوط الحضارات، وما ينتج عن هذه الظاهرة من خصومات بين المستفيدين من سقوط الحضارة وبين المتضررين منها، وأن ما يحدث بالتالي للأديان ناتج أساسي لظاهرة نشوء الأديان وشيخوختها وموتها، مثلما يكون صراع الحضارات والصراع الطبقي ظاهرة أساسية لظاهرة قيام وسقوط الحضارات، ومثلما تكون الشيخوخة والموت ظاهرة أساسية من ظواهر الحياة. غير أننا هنا لا نقصد موت الله ذاته, لأن الله حي لا يموت، وإنما نقصد موت وجه انثروبولوجي ( لقب- صفة بشرية ) من اوجه الله الذي يتجلى للإنسان ويصبح موضوع ايمانه، كحاجة حضارية ترتدي بأعين المحتاجين اليها صورة مقدسة مطلقة لا يمكن الاستغناء عنها.
فهل في هذه الظواهر كلها الم وعذاب؟ نقول نعم، لكنه الم وعذاب الموت والولادة الجديدة، لذلك يكون هذا الألم الماً مفهوما ولا يثير غضب الانسان وانتقاداته، سوى في بعض الأوساط الفلسفية. وعليه فإننا قد نتكلم هنا عن الشر الناتج عن الانقسامات الدينية الطبيعية، لكننا نقول أيضا بأن شر هذه الانقسامات ليس شرا ادبيا اخلاقيا، وإنما هو شر طبيعي، كالشر الصادر عن موت آلاف الناس بزلزال او بكارثة طبيعية، في حين يتحول شر الانقسام الى شر ادبي ومسؤولية أخلاقية عندما يستخدم الناس انقساماتهم الدينية والمذهبية لغايات أخرى لا تعود الى الاختلافات الدينية بل تعود الى خلافات عشائرية او سياسية او طبقية اقتصادية مثلا، الأمر الذي يُدخل المسألة برمتها في باب آخر.
لماذا نتكلم في المسألة الدينية عن الظاهرة: في هذه الفقرة نبدأ بسؤال يقول: ترى لماذا نتكلم هنا عن الظاهرة، في حين ان غيرنا لا يقبلون ان يقحموا مفهوم الظاهرة في الدين؟ ونجيب أننا نتكلم هنا عن الظاهرة لعدة اسباب، منها تصميمنا على ان نكون علميين في كلامنا، هذا الكلام العلمي الذي لم يعد لنا خيار في قبوله او رفضه، ومنها ما نراه، من خلال تحليلنا من تماثل واضح وشديد بين ظاهرة صراع الأديان او المذاهب وظاهرة صراع الحضارات، وأيضا ما نراه من شيوع هاتين الظاهرتين في كل مكان وزمان. فنحن في الحقيقة، اذا ما قارنا بين ما يحدث للأديان من صراع، مع ما يحدث للحضارة من هذا الصراع ايضا، سنجد التماثل بينهما شديد الوضوح. فالحضارات تخضع للتغيير وللجدل التاريخي، وكذلك الأديان، وان كانت مسيرة الأديان ابطأ من مسيرة الحضارات وصراعها اشد وأقوى. والحضارات تنشأ ثم تزدهر ثم تموت، وكذلك الأديان ايضا، حيث يضعف وجه من أوجه الله ليحل محله وجه جديد يحتاجه الانسان اكثر من الوجه القديم، الأمر الذي نفهم منه ان الله نفسه بالحقيقة لا يموت، لكن الذي يموت هو وجهه الانثروبوجي الانساني حسب، هذا الوجه الجديد الذي عندما يتغير يغير اللاهوت ( الكلام العقلاني عن الله ) بشكل حتمي. وهنا نرى ان التغيير الذي يحصل في أوجه الحضارة وفي اوجه الله يماثل ما يحدث للمادة من تغيير في صورها المختلفة المتعاقبة، أي في اوجهها، في حين تبقى المادة ثابتة وواحدة، حسب القاعدة الفيزيائية التي تقول: المادة لا تفنى ولا تستحدث.
تفاصيل ظاهرة صراع الأديان: بعد ان تكلمنا عن الشبه الكبير بين صراع الحضارات وصراع الأديان، فإننا سنستلهم صراع الحضارات هذا لنتكلم عن صراع الأديان خطوة فخطوة، بسبب التماثل القائم بين الظاهرتين. غير اننا من الآن، وبعد هذا الكلام الوجيز، يمكننا ان نؤكد على بعض التماثل بين صراع الحضارات وبين صراع الأديان، ومن ذلك في مسألة نشوء او قيام الأديان الذي يماثل نشوء وقيام الحضارة.
ويقينا قارئي العزيز أن الحضارة، كأي انتاج آخر، تنشأ بسبب " حاجة " الانسان اليها، وهو في طريقه التصاعدي نحو اهدافه المستقبلية. وهكذا لا تكون " الحاجة " ام الاختراع فقط، لكنها تكون ايضا صانعة الحضارات، بكل تفاصيلها المادية والروحية. وهنا نسأل ونقول: ترى اليس نشوء دين حاجة تخدم بنى الانسان العليا السامية، من اجل تنسيق الحياة الانسانية الروحية في اعلى مستوياتها خاصة؟ نقول: نعم، وإلا ما معنى ان يكون لكل البشر دين؟
وعموما يمكننا ان نقول ان الحضارات تمر بمراحل معروفة هي: مرحلة نشوء الحضارة ومرحلة ازدهارها وسيادتها ومرحلة ضعف الحضارة بسبب اطلالة حضارة احسن منها، ثم أخيرا مرحلة تدهور الحضارة وموتها، الأمر الذي يحدث للأديان ايضا بشكل مماثل. فالأديان تنشأ وتزدهر وتسود، ثم تضعف في اداء خدمتها، ثم تحتضر وتموت، كما حدث للحضارات القديمة وللديانات الوثنية مثلا، حيث مات الوجه الوثني لله، في حين لم يمت الله نفسه، لأن الله لا يموت، كما قلنا من قبل.
وتعقيبا على ما كنا فيه من تحليل ادرج للقراء الكرام حادثة يقال انها حدثت في كنيسة بألمانيا، موطن الفيلسوف الملحد نيتشه. فعن هذه الحادثة يقال ان الفيلسوف نيتشه كان في يوم من الأيام في الكنيسة، لحضور القداس بمناسبة ما. فلما وصل القسيس المترئس لطقس القداس الى فقرة مهمة من الطقس نهض نيتشه من علـى كرسيه وصاح بأعلى صوته قائلا: يا ايها الحاضرون، ان الله قد مات. بعد ان لفظ نيتشه كلماته هذه على عجل، لكي لا يقاطعه أحد، بدأ عازف الارغن الكنسي يعزف لحنا بكل قوته لكي يغطي على صوت نيتشه الملحد، فلا يسمع الجمع كلامه. وهنا نقول: صحيح، لقد استطاع صوت الارغن العالي ان يسكت نيتشه الملحد، غير ان تلك الحادثة صارت بداية لبزوغ لاهوت معاصر جديد، سمي لاهوت موت الله، هذا اللاهوت الذي اعترف به كثير من اللاهوتيين المتأثرين بالمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الذي ميز بين الايمان وبين اللاهوت ككلام عقلاني عن الايمان، والذي لا يتمتع بالتالي بأية عصمة. وهكذا شرع اللاهوتيون يقولون مع نيتشه: نعم مات اله حضارة القرون الوسطى واله حضارة القرون الرأسمالية الحديثة، لكن الاله الحي لم يمت ولن يموت ابدا.
مرحلة نشوء الحضارات: مما لا شك فيه ان حضارة معينة تكون جذابة ومطلوبة في فترة نشوئها، حتى ان الناس يقبلون عليها بحماس ولهفة، وأحيانا كثيرة بالضد مما يرضي المجتمع، ولهذا تحصل في هذه الفترة صدامات بين المجددين والمحافظين على مستوى البنى التحتية وعلى مستوى البنى العليا. غير ان مثل هذه الصدامات لا تكون خطيرة، وتقتصر غالبا على ما يسمى بصراع الأجيال. علما بأن ما يحدث للحضارة يحدث للدين ايضا مع فارق غير جوهري يعود الى حدة الصراع الديني وقوة الحماس عند المتحمسين، والى رغبة تجديد الأطر الدينية عند الأجيال الجديدة خاصة. علما ان هذه الظاهرة نفسها تظهر في المرحلة التالية، مع قلب الأدوار، حيث من كان فيما مضى مجددا ومتحمسا للتغيير، يصبح من الداعين الى الحفاظ على التقاليد بقوة، الأمر الذي يخفف من حدة الصراع، ويؤمن مسيرة الانتقال الحضاري والديني من دون خسائر كبيرة. ( هنا أكدنا على منافع الوسطية، لكننا لم نتكلم عن مضارها الكثيرة لقلة المجال ) .
فترة ازدهار الحضارة وسيادتها: أما فترة ازدهار الحضارة وسيادتها فهي فترة البناء المادي المتصاعد وفترة بناء الأيديولوجيات والقيم والقوانين التي ترتبط بالحضارة السائدة، الأمر الذي يحدث للأديان بشكل يكاد ان يكون حرفيا. علما بأن فترة الازدهار تكون ايضا فترة يسود فيها الاستقرار وتهيمن النمطية على حياة الناس، مع وجود رضا عام عند المؤمنين بهذه الفترة. وفي هذه الفترة ايضا تنتهي الاسئلة الكبيرة تقريبا ولا يهتم الناس إلا بأن تكون حياتهم مواكبة لحياة الجماعة، كما تكون اخلاق الجماعة الاجتماعية هي التي تسير المجتمع بأسره، حتى يبدو خرق اي عرف اجتماعي وكأنه خرق لإرادة الله تعالى نفسه، وذلك بسبب تأثير ما يسمى في علم الاجتماع بالضغط الاجتماعي Pression sociale. علما بأن كثيرا مما يحدث في المجال الحضاري مما قلنا يحدث ايضا في المجال الديني، حيث تأتي فترات دينية يتحول المؤمنون بدين معين الى قطيع يتبعون رعاة دينهم وسنن مجتمعهم الدينية من دون تساؤلات كثيرة.
فترة ضعف الحضارة وموتهما: في هذه الفقرة نرى ان نؤكد على ان فترة ضعف الحضارة وموتها لا تعد خللا في الحضارة، لكنها مرحلة من مراحل موت القديم وتكوين الجديد. ولذلك ايضا لا تعد هذه الفترة عيبا او نقصا تعاب تلك الحضارة عليه، وإنما تعد تجديدا وقوة لها، مع وجوب تأكيدنا على ظاهرة أخرى مفهومة ومنطقية وهي ظاهرة ارتباط المدة الزمنية التي تفصل بين نشوء الحضارة وموتها، ارتباطا عكسيا بالزمن، حيث تقصر هذه المدة كلما تقدم الزمن والحضارة الى الأمام، مما يسمى بظاهرة " التسرع " الحضاري.
وبما ان الايمان الديني هو ارقى وأسمى الأبعاد والبنى العليا عند الانسان، فان ظاهرة نشوء وموت الحضارات تنطبق على الأديان بصورة لا ريب فيها، فضلا عن الظاهرة التي تحدد الفترة الزمنية بين نشوء حضارة معينة وموتها، وكذلك بين نشوء وجه من أوجه اله الايمان وموت هذا الوجه. علما بأن القانون الأنثروبولوجي الذي يحدد المسافة الزمنية بين نشوء وجه جديد وموت هذا الوجه يختلف قليلا عن القانون الذي يحدد الزمن المطلوب لنشوء حضارة معينة وموت هذه الحضارة، بسبب أهمية الايمان الديني بعين الانسان، وما يكون الانسان قد بذله في سبيل هذا الايمان من مجهود وتضحيات. ومهما يقال فانه من الملاحظ أن ديمومة وزمن تأثير المنظومات الروحية، ومنها المنظومات الدينية اطول من زمن المنظومات الحضارية المادية، ولهذا غالبا ما يحصل تخلف المواكبة بين الايمان ـ الدين ـ اللاهوت وبين الحضارة وأبعادها الحضارية الأنثروبولوجية الأخرى.
حقيقة ضراوة صراع الأديان والمذاهب: قلنا ان صراع الأديان والمذاهب، ظاهرة مفهومة ومنطقية، لأن هذا الصراع يعني رفض التخلي عما بنته كل مؤسسة دينية في فترة النشوء، كما في فترة البناء المادي والروحي واللاهوتي للأديان، ولكن لكي نفهم تماما حقيقة ضراوة الأديان والمذاهب علينا اولا ان نفهم مكانة الدين، او بالأحرى، مكانة الايمان الجديد للإنسان، ونفهم ما عانى منه المؤمنون الأولون من آلام ومشقات في سبيل هذا الايمان الجديد. كما علينا ان نفهم مقدار تشبث الناس بدينهم في مرحلة الاستقرار والبناء، وما كان يحمله المؤمنون من اعتزاز بهذا الدين او الايمان الذي ينتسبون اليه، حتى صار اللاهوتيون في كل الأديان يحسبون ان هذا الدين سيبقى الى ابد الآبدين، لاسيما وأن الأديان غالبا ما تكون مرتبطة بحضارة معينة وبحكم سياسي وبأمة دينية ينتسب المؤمنون بذلك الدين اليها. وبما ان السيد المسيح كان يفهم حقيقة صراع الأديان والمذاهب، ولأنه كان يعرف ايضا ان رسالته شكلت خطرا على ايمان المؤسسة الدينية اليهودية، لذلك حذر تلاميذه قائلا لهم: سوف تأتي ايام يحسب من يقتلكم انه يقرب قربانا لله. غير ان الطامة الكبرى المؤلمة والمخجلة تكمن في الخصومات التي كانت تعني شيئا حقيقيا في يوم من الأيام ثم صارت فيما بعد امرا تاريخيا عفا عليه الزمن واندثرت معانيه مع التحولات الحضارية والدينية واللاهوتية التي تكلمنا عنها. فمثلا صارت الخلافات التي تسمى بالخلافات الكريستولوجية ( خلافات حول طبيعة المسيح ) شيئا تاريخيا لا معنى له بعد موت الفلسفات التي بنيت عليها تلك الخلافات، منذ زمن طويل، وموت الامبراطوريات التي كانت تحمي تلك الخلافات. كما ان الخلاف البروتستانتي الكاثوليكي شارف على الانتهاء هو ايضا مع بروز افكار علمية حلت محل الفلسفات القديمة ومحت من اساسها كثيرا من مبادئ الخلافات القديمة، أو اضعفتها. اما الخلافات المذهبية والأيديولوجية التي اصبحنا نصطلي بنارها اليوم في البلدان العربية والإسلامية، فهي الأخرى لم يعد لها ما يبررها، باستثناء السياسة والمصالح المادية التي صارت السبب الوحيد للخلاف ولسفك الدماء، الأمر الذي يتألم منه كل انسان شريف يحمل في نفسه قدرا كافيا من الانسانية.
التتمة في المقال الثالث؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق