مثنى عبدالله
يقال أن قاضيا سأل المدعى عليه لمـاذا صفعت الرجـل، فأجابـه لم أصفعـه لكن هـو الـذي وضع وجهه في طريق يـدي فضربها وأطالبـه بالتعويض.
على غـرار هـذا النسق تفتقت عبقرية الحكام المنتخبين في العـراق الديمقراطي بقـرار الغاء البطاقة التموينية ، بعـد أن توصلوا الى أن هـذه العقـود يسيل لها لعاب المسؤول فيجنح الى الفساد والرشوة. وكأن لسان حالهم يقول ان الشعب وليس المسؤول سبب الفساد المالي الـذي تعانيه الحكومـة، فلو أن هـذا الشعب امتنع عـن الاكـل لما احتاجت الدولـة توقيــع عقـود الغـذاء مـع الدول الاخـرى.
وقد صدر القرار بتصويت وزراء ونواب رئيس الوزراء بالاجماع. أي أن جميع الكتل والاحـزاب الدينيـة مـع هـذا الموقف، ولايغرنكم اعتـذار البعض مثل مقتـدى الصدر الذي أبدى أسفه لأن وزراءه صوتوا مـع القرار، ولا فلسفة الحكيـم الاخيرة حـول الموضوع في لقائـه الاسبوعي، ولا بيانات وتصريحات تكتل العراقية الذي يتكتل يوما بعـد يوم ضد تطلعات وآمال منتخبيه وبشكل ملحوظ، حتى أن صالح المطلك مالئ الدنيا وشاغل الناس بتصريحاته الرنانة لصالح الفقـراء، لحسها جميعا وصوت مـع قـرار الالغـاء وهـو نائب رئيس الـوزراء.
بل أن أغـرب التصريحات كانت لنائب معمـم مـن كتلة دولـة القانون التي تقـود الحكومة بشخص زعيمها نوري المالكي، قال فيها ان الحكومـة لم تلغ البطاقـة التموينية لكنها بـدل أن تعطي الغـذاء ستعطي (بـدلا نقـديا) للمواطن. ويبدو أن هـذا النائب يجهل الفـرق الكبير بين تأمين الدولـة غـذاء مواطنيها بسعر مدعـوم، وبين أن تتركهم تحت رحمـة القطاع الخاص مقابل بـدل نقدي متواضع، ولاغرابـة فـي ذلك فقـد يكون الرجـل لايفقه شيئا في الاقتصاد، لكن الغرابة أن ينسى من لبس عمامة الدين حض القيم الدينية على حمايـة وتأمين حياة الفقـراء والمعوزين وهـم كثر في العـراق الجديد.
ففي الوقت الذي تعلن الحكومـة عـن ميزانية سنوية تفوق المئة مليار دولار، وطاقـة نفطيـة تصديريـة فاقت العقود الثلاثة الاخيرة حسب تقرير وزارة النفط، لازال يوجـد في العـراق مـن يبحث في القمامة عـن قوت يومـه، ويترقب، بفـارغ الصبر كـل شهر، الحصة الغذائيـة المدعومـة كـي يصنع منها طعامـه، على الرغـم مـن سرقـة أغلب موادها الاساسية، ورداءة النوعيات التي تحويها. لكـن غالبيـة العـوائل العـراقية لازالت تتشبث بهـا لأنها حمتهم مـن العـوز في أيـام الحصار الجائر، وأغنتهم عن الوقوع في الفقر المدقع وشراك حمى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بعد العام 2003 في ظل غياب الرقابـة والسيطـرة على الاسواق، وأن كـل المبررات التي أعلنتها السلطـة والتي دافعت بها عـن قـرار الالغـاء كانت غير منطقية اطلاقا، لأن السلطة العاجـزة عـن ايقاف مسلسل الفساد ونهب المال العـام الـذي يمارسـه وزراؤها ومسؤولوها، لايمكـن أن تكـون قـادرة على ضبط حركـة السوق المحلية والسيطـرة على شريحـة التجـار المتعاملين بأستيراد المـواد الغذائيـة. إضافـة الى أن القطـاع الخاص يفتقر الى الامكانات الماديـة والخبـرة التي تملكها وزارة التجـارة، مـا سيؤدي الى ارتفـاع جنوني في الاسعار بدأت ظواهـره منذ الآن، ورداءة تامـة للمواد التي سيتم استيرادها كحـال كـل المـواد التي تدخـل البلد هـذه الايـام. كمـا أن الكثير مـن الاسئلة يمكن أن تطرح اليـوم في ظل جهل تام مـن الحكومة لآلية تنفيذ القرار، ومـا هي الوسائل التي ستعتمدها في إيصال البدل النقدي الى المواطـن عـن المـواد الغذائيـة، ممـا سيؤدي الى حصول فراغ الى فترة زمنية غير معلومة.
إن هـذا القـرار التعسفي الجائر يلقي مـرة أخـرى حزمـة ضوء على طبيعة النظام السياسي في العـراق، الذي يتأكد يوما بعـد اخر أنه بعيد تماما عن نبض الشارع، وأن مصالح أفراده هي أكبر مـن مصالح المجموع.
ففي الوقت الـذي يتسع صدر البرلمان والحكومـة معـا لمناقشة مايدخل في صالحهم ويزيـد مـن امتيازاتهم، نجد أن هـذا البرلمان عاجـز تمامـا عـن الضغط على الحكومـة لتنفيذ المطالب الشعبيـة والارتقـاء بالمستوى المعيشي للكثير مـن المواطنين، والسبب الرئيسي فـي ذلك هـو التداخل التام مابين عمل البرلمان وعمل الحكومة، حيث أن هاتين المؤسستين تخضعان الى مركـز قرار واحد هـو زعمـاء الكتل السياسيـة، وهـم حريصون تماما على أن لا يحصل أي تعارض بين الطرفين، لذلك انتهت كل الاستجوابات التي شهدها البرلمان الى الفشل التـام، وغـادر الكثير مـن المفسدين الحكوميين الى ملاذات آمنـة بكـل الملايين التي نهبوها مـن المـال العـام، لأن مـن هـو موجود فـي البرلمـان هـو نفسه موجود في الحكومة، حيث أن العملية السياسية توافقية وقائمة على أساس الصفقة وخالية من معارضـة حقيقيـة تتصيد الاخطاء وتعـري الاداء الحكومي، وتبني على ذلك للوصول الى السلطة فـي المرحلة اللاحقة. فمن هو موجود اليوم في الحكومة والبرلمان سيبقى موجود فيها ككتلة وكحزب في الانتخابات القادمـة ومابعدهـا الى ماشـاء الله، وكـل الـذي يحصل هـو تبادل للادوار والمناصب، حيث لاوجود لتبادل حقيقي للسلطات في العراق.
أن طبيعة الواقـع الاقتصادي في العـراق اليوم يضغط بعجالة كـي يزداد الفقـراء فقـرا والاغنياء غنى، لأن ما تسمى ديمقراطية حررت الاقتصاد وخلقت سلطة ماليـة بسبب واردات النفط, هي في الحقيقة لـم تخلق تنمية قادرة على استيعاب البطالـة والعـوز والفقـر في البـلاد. أي أننا أمـام رأسمالية نقديـة وليست رأسمالية زراعية أو صناعية قادرة على الخلق والابداع وتمتص الكفاءات والخبرات والايـدي العاملة العاطلة عن العمل. معنى ذلك أننا نصدر المال مقابل استيراد السلع، مما يؤدي الى اندثار تام لكل البنى والمشاريع الزراعيـة والصناعيـة، ويدفع بمزيد مـن الناس الى الفقر، في ظل ابتعاد الدولة عن لعب دور فاعل في حماية المواطن من الاستغلال والافقار، بل أنها باتت معولا يحطم حتى الركائز المعيشية التي كانت لديه.
وإذا كان الاقتصاد العراق قد ارتبط بالاقتصاد العالمي وأصبح يتبع قوانين اقتصاد السوق بعـد الاحتلال في العـام 2003، فإن المعضلة الكبرى في ذلك أن القوانين والاجراءات في العـراق مازالت غير متلائمة مع هـذا التحول، بل حتى نظام الحكم واليات الرقابـة بعيدة كـل البعد عن عملية الاندماج تلك.
إن تجويع الطبقات المسحوقة في المجتمع ورميها على قارعة طريق العوز والفاقة تواجه مصيرها، مقابل إثراء فاحش للطبقة السياسية والاقرباء والاعوان بصورة قانونية من خلال الرواتب المليونية، أو لا قانونية من خلال الفساد المالي بالعقود ووكالات الشركات في الداخل والخارج، تتطلب وقفة جادة مـن المجتمع بشكل جمعي كـي يتمكن من صناعة نمط تغيير تاريخي جديـد فـي العـراق. فليس عيبا أن نقول بأن ذهاب البعض للمشاركة في الانتخابات السابقة كانت بسبب اختلاط الحقائق بالغرائز، وها هو ذلك الخطأ قـد ولـَّد طبقة سياسية تنظر الى مصالحها اللاشرعية قبل كل شيء حتى لـو كـان فيها قطع لأرزاق ملايين العراقيين.
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق