القس لوسيان جميل
أعزائي القراء! ان مقالي الثالث يحمل عنوان: من وحي رسالة إلكترونية/ البوذية وتناحر الأديان.
فقد أظهرت الرسالة، التي نناقشها، اتباع الأديان يتناحرون فيما بينهم باستثناء اتباع الديانة البوذية، حسب زعم الرسالة، هذا الزعم الذي يحمل شيئا من الصحة، ويحمل ايضا كثيرا من المبالغة والتعميم الذي يأتي لأسباب سياسية واضحة، لا تخلو من نية شيطنة الأديان، كما سبق ان قلنا في مقالنا الأول بالموضوع عينه.
وفي الحقيقة لا يوجد دين يخلو من اتباع يفضلون حالة السلم على حالة الصراع والحرب، حالهم حال البوذيين الذين لا يمكن تبرئتهم من بعض العنف في حالات قد تكون استثنائية وقد لا تكون. ومع ذلك، وبما ان صبغة الوداعة والسلام تطغى على سلوكية البوذيين العامة، وخاصة في ماضيهم القديم، فإننا سوف نبحث عن سبب هذه الظاهرة السلمية عندهم، لنرى فيما اذا كان سلوكهم السلمي ناتجا عن اسباب، ما ان تتوفر عند غيرهم، حتى يسلكوا سلوك البوذيين السلمي في حياتهم، في حين يمكن ان تنقلب اية حالة سلمية الى نقيضها مع تغيير بيئة المجتمع.
اسباب الروح السلمية عند البوذيين: على الرغم من ان معرفتي بالديانة البوذية ليست معرفة عميقة، لكنني اعتقد أن ما اعرفه عن هذه الديانة كاف للإجابة على السؤال الذي يقول: ترى ما هي اسباب الطبيعة غير العنيفة عند البوذيين؟ غير أننا، قبل الاجابة على السؤال المطروح، نتساءل اولا عما اذا كانت تعاليم بوذا السلمية هي التي ولدت هذه الصفة عند تلاميذه وأتباعه، او على الأقل عند شرائح كبيرة منهم، أم ان روح المسالمة والابتعاد عن العنف هو ميزة ناتجة عن البيئة الطبيعية او الاجتماعية عند اهل المنطقة التي شاعت فيها البوذية؟ وبما ان علم الاجتماع يعطي اولوية التأثير على الانسان للبيئة الاجتماعية، فإننا سنقول أن المؤثر الحقيقي في الطبع السلمي للبوذيين هو البيئة أولا، حيث ان هذه البيئة هي التي انتجت بوذا الناسك المسالم، وليس العكس، ومن ثم أثر بوذا بدوره سلميا في سائر ابناء المنطقة البوذية، بعد ان صار بوذا، الذي يأتي في المرتبة الثانية من حيث التأثير معلما ونموذجا ومثالا للسلم والوداعة لأهل المنطقة جميعهم، ولاسيما لتلاميذه المتحمسين لتعاليمه.
وبما اننا كنا بصدد النماذج، وقلنا ان البيئة جعلت من بوذا نموذجا ومثالا ومعلما، فهذا يعني أولا بأن بوذا كان يملك استعدادا طبيعيا ومكتسبا لكي تجعل منه الطبيعة نموذجا: بلغة أخرى دينية يمكن ان نقول ان بوذا كان يملك استعدادا طبيعيا ومكتسبا لكي يجل الله منه نموذجا ومثالا ومعلما، كما حصل مع جميع الأنبياء. وهكذا نستطيع ان نؤكد ايضا ان بوذا بصفته نموذجا، صار " وسيطا " بين الطبيعة ( البيئة ) وبين الناس، او صار وسيطا بين الله وبين الناس، بلغة دينية. فالبشر الذين يتحولون الى نماذج انثروبولوجية، يتحولون الى خدمة او " وظيفة " انثروبولوجية ، من شأنها ان تضع هؤلاء البشر في خدمة اخوتهم البشر، من المحتاجين الى خدمتهم هذه. علما بأن الخدمة تختلف من حقبة حضارية الى أخرى، ومن جيل اجتماعي الى آخر، ومن هوية انسانية الى أخرى.
البيئة الطبيعة وتأثيراتها على مزاج الانسان وسلوكه: هذه الفقرة لن تكون مفصلة كثيرا، لأسباب منها ان السعي وراء التفاصيل في مثل هذه المواضيع المعقدة يحتاج التخصص الواسع والخبرة المعمقة التي لا نمتلكها قطعا. اما السبب الآخر لعدم سعينا الى البحث عن التفاصيل فيعود الى اننا لا نحتاج هذه التفاصيل الدقيقة أصلا، من اجل كتابة مقال لا يتطلب اكثر من بعض التلميحات التي تفيد موضوعنا. أما مفردة الطبيعة هنا فتعني على الأخص طبيعة الأرض والمناخ الذي يسودها، كما تعني ما على الأرض من تضاريس كالسهول والجبال وما يملأ الارض من نبات وحيوان وبشر. اما البيئة الاجتماعية فتأتي اهميتها من كونها حلقة وصل اساسية تنقل الحضارة من البيئة الطبيعية لتوصلها جيلا بعد جيل الى الأجيال القائمة في زماننا، جنبا الى جنب مع تأثير البيئة الطبيعية المباشر.
أمثلة عن البيئات الطبيعية: بما أننا نتبع منهجا علميا في هذا المقال، كما في سائر مقالاتنا السابقة، فإننا نحن ايضا نقر مع البيولوجيين ( علماء الحياة )، ومع الأنثروبولوجيين، ومع علماء الاجتماع، ان البيئة الطبيعية بكل أبعادها ومكوناتها تنحت الانسان نحتا بارعا من جميع الأوجه. وهنا لابد من الاقرار بأن جميع البيئات التي سكنها الانسان قادرة على انتاج انسان بكل المواصفات الانسانية، غير اننا نفهم ايضا ان بيئات معينة تستطيع ان تؤثر في انسانها تأثيرا خاصا وقويا، لا تستطيع بيئات أخرى ان تعطيه بعين القوة والعمق. مع علمنا الأكيد بأن هناك ظاهرة تضافر البيئات المختلفة لإنتاج حالة انسانية واحدة.
وهكذا نجد ان البيئة الصحراوية مثلا، تفتح افق الانسان نحو البعيد وتدعو انسانها اما الى التقشف واما الى الصراع من اجل الحياة التي تشح في الصحراء. كما ان الصحراء بامتداداتها المترامية الأطراف وبغموضها ورهبتها، وكذلك بأفق سمائها الواسع، تشجع على التأمل وعلى النزعة الميثولوجية ايضا. اما السهول الخصبة فإنها تدعو مباشرة الى الاستقرار والإنتاج، غير انها، في الوقت عينه، تدعو الى التوسع والحروب، في حين تشجع البحار بعمقها الغامض وبمكنوناتها الكثيرة على الأمور الغيبية والحلول الاسطورية. وأخيرا، وليس آخرا، فان الجبال تخلق في سكانها وفي من يجاورها من البشر الرهبة والخوف، كما تخلق لديهم القوة البدنية والقوة الروحية للتغلب على الصعوبات المختلفة التي تقدمها هذه الجبال، دون ان تزيل من سكان الجبل روح الخوف والعجز المسيطر عليهم.
وعليه، وبناء على ما جاء أعلاه عن خواص الجبال، فاننا نرى بعض الشعوب تقدس اعالي الجبال وتؤلهها، او تعتبر الجبل اقرب الى الرب من سائر الأمكنة الأخرى. من جهة ثانية فان الجبل، ولاسيما في الأزمنة القديمة كان اما حنونا تقدم القوت لأبنائها كفاف يومهم، الأمر الذي كان يخلق عند هؤلاء الأبناء فضيلة القناعة ويجنبهم مشاكل الصراعات من اجل الغذاء، ويجنب صراع الأديان الناتج عن الصراع من اجل القوت احيانا، كركيزة للسياسة.
أما الان، وبعد ان عرفنا تأثيرات البيئة على طبع الانسان وسلوكه، وحتى على تأمله وسبر اعماق نفسه، وعلى صلاته، وعلى علاقته بربه، فاننا لا نستغرب ان يفضل الرهبان القدماء خاصة السكن في اعالي الجبال او في قلب الصحراء، حيث يصير الانسان بعيدا عن صخب البشر وضوضائهم، وقريبا من الاله( قرب روحي وأنثروبولوجي طبعا )، الأمر الذي لا يساعد على الروح السلمية فقط، ولكنه يساعد على روح الرهبنة والنسك والقناعة في الماديات، حيث يصير الراهب مبدئيا معلما " لروح " القناعة هذه، مما يمنع الناس من التكالب والاقتتال فيما بينهم على الشؤون المادية، دون ان يمنعهم عن الجد والكسب الحلال.
ومع ذلك نقول للقارئ الكريم ان كل ما اتينا الى ذكره مقاربات نسبية لا تمثل الحقيقة كاملة، لأن تأثير البيئة معقد بدرجة لا يمكننا الجزم معها بأن بيئة محددة تعطي نتيجة معينة حتمية وفريدة exclusive. كما نقول له صراحة بأن جميع البيئات ممكن ان تكون صالحة لكل شكل من اشكال الحياة، نظرا لقدرة الانسان على تدجين بيئته وتطويعها لما يخدم حياته.
بعد هذا الكلام المختصر، يمكننا ان نؤكد الآن بأن بوذا وكل من سلك درب الزهد والتقشف بكل اوجهه، وطريق التأمل الروحي، على خطى بوذا، انما قد ساعدته بيئته الخاصة على هذه الحالة، ونعني بها البيئة الجبلية خاصة، دون ان نقلل من اهمية البيئات الأخرى في هذا المجال.
سر تعدد المذاهب المتآخية في البوذية: من كل ما تقدم نفهم اذن، ان المذاهب والطرق التأملية قد تعددت نتيجة لتعددية " حاجات البشر " الانسانية وتنوعها. ومن هنا نفهم ان لا تكون هناك منافسة بين انسان وآخر على حاجات انسانية مشتركة، حيث لا مشترك بين البشر غير انسانيتهم، وحيث يجد كل فرد حاجته الخاصة في ذاته وليس خارجها. ومع ذلك نحن لا نرى في هذه المنهجية وهذه الحكمة التي شاركت البيئة في صياغتها اي انغلاق وأية فردية Individualismeلأن ما يكسبه الفرد البوذي او الروحاني الذي يعرف ان يسبر خفايا نفسه يفيد المجموع دائما، ولأن الحياة الداخلية العميقة الخاصة تنعكس ايجابا على حياة المجموع، بشكل تكاملي، حيث يعطي كل فرد حصيلة تأمله الخاص للجماعة الاجتماعية، على الرغم من اننا نعلم ان الشعب العادي البسيط La masse لا يتأمل كثيرا، لكنه يتعرف على حقيقة نفسه بشكل شعبي بسيط جدا ايضا، من خلال المجتمع الذي ينقل الى وجدان الآخرين، قبل عقولهم، ما كان هو نفسه قد اخذه عن المجتمع الذي سبقه والمتأثر كله بالبوذية المسالمة. وهكذا يصير السلام تقليدا يتناقله المجتمع المسالم من جيل الى آخر.
الفيلسوف سقراط: وهنا، لعله يفيدنا ان نعرف، ان الفيلسوف والحكيم الكبير سقراط، كان يدعو الانسان الى ان يعرف نفسه بنفسه، لكي يجد الفضيلة كامنة داخل هذه النفس التي كان يقول انها كينونة سماوية تسكن البدن وتسير جميع فعالياته الانسانية، وأن الانسان يستطيع ان يعرف الفضيلة ويعمل بها، اذا عرف حقيقة نفسه بنفسه، اي من خلال خبرة داخلية، وليس عن طريق الاملاء من الخارج. غير اننا نعرف ان البوذية، ( القرن الخامس ق. م ) وقبلها الهندوسية، تسبقان الفيلسوف سقراط كثيرا، ولذلك نستطيع ان نقول بأن سقراط كان قد تأثر بالتعاليم الهندية بشكل مباشر او غير مباشر، هذه التعاليم التي كانت تحترم ذات الانسان، ولا تقبل ان يفرض اي تعليم خارجي عليها، لكي يصل بنفسه الى سر السعادة.
الفلسفة الرومانسية: اغناء لموضوعنا نرى ان نعطي نبذة عن فلسفة حديثة مشابهة في افكارها لفلسفة سقراط وبوذا، من حيث منهجيتها الاستقرائية التي تعتمد هي الأخرى على سبر اغوار النفس البشرية من خلال أحداث التاريخ وكل التراث الفكري الانساني، ومنه الروايات Romansالتي تتكلم عن الانسان في الماضي والحاضر، والتي يمكن بمجموعها ان تعطي للإنسان تعريفا كافيا ومقبولا، شرط ان يكون هذا التعريف مفتوحا باتجاه الـ لا نهاية، مما يعني امكانية ظهور تعريف جديد للإنسان، مع كل عمق جديد يكتشف في حياة الانسان المتجددة دوما، هي الأخرى.
حقيقة المنهجية البوذية: بعد كل ما اتينا الى ذكره اعلاه، نفهم معنى وجود قاعدة ذهبية في البوذية، تساعد الانسان البوذي، وربما كل انسان، على السير في طريق الكمال الانساني. اما هذه القاعدة الذهبية فهي تعتمد منهجا انثروبولوجيا استقرائيا واضحا قادرا على تحرير الانسان من اي تحكم يأتيه من خارجه، ويمنعه من ان يكون سيد نفسه. فالذات في البوذية، كما في الأنثروبولوجيا، بؤرة مركزية للسيادة، لا نقول تجاه الله، لأن الله الذي خلق طبيعة العالم بحكمة كبيرة، قد خلق معها الحرية والسيادة الذاتية ايضا، ولأن الله لن يتراجع ابدا عما وهبه للإنسان، ومن ذلك ان يكون حرا وسيدا لنفسه، وأن يربح هذه السيادة من عمله التأملي الجدي المقرون بالمثابرة، حتى نهاية الحياة.
المشكلة ليست مع الله بل مع الانسان: ويقينا ان مشكلة حرية الانسان الحقيقية ليست مع الله، لأن الله لا يجبر احدا على الايمان، او حتى على ان يكون صالحا، ولكنها مع اللاهوتيين الذين يفرضون بشكل عنيف افكارهم على اتباعهم، بدون احترام لحق هؤلاء الأتباع في ان يصلوا الى الحقيقة عن طريق خبرة شخصية مع الارادة الالهية. فماذا يحدث للبشر مع عنف رجال الدين الذي يصب غالبا في مصلحة اقوياء العالم، يا ترى؟ أن ما يحدث حقا هو ان العنف يولد عنفا، سواء كان ذلك بين رجال الدين أنفسهم، او كان بين الأتباع الراكضين وراء مصالحهم.
وبما ان المكتوين بنار العنف الديني والطائفي عرفوا سبب تناحر الأديان، فقد اوصلهم تحليلهم، الى ان ما يجب ان يطلبه الانسان من الايمان، ليس هو" الحق القويم " Orthodoxie وانما هو " العمل القويم " Auto praxie، كما قيل في الستينيات من القرن الماضي، وذلك لأن العمل القويم يتعلق كثيرا بقوى الانسان الوجدانية، التي تضع الانسان السليم على طريق الخير والفضيلة، من خلال تأمل روحـي بأعماق النفس، في حين ان من يطلب الحقيقة القويمـة ( الحقيقة العقلانية اللاهوتية ) يعرض نفسه والآخرين الى الضلال.
وهكذا يرى القارئ العزيز كيف يتقلص مجال النظريات الدينية الغيبية عند البوذيين، وكيف تقل فرص التناحر الديني بين اوساطهم، في حين تصعب السيطرة على هذا العنف في الأوساط التي تعتمد على العقائد النظرية الضبابية والغيبية. فقد رأينا كيف يتصارع رجال دين على النقطة وعلى الفارزة، وكأن الله سلم بيدهم كل حقائقه، في حين لا وجود في البوذية لرجل دين يعتقد انه يملك الحقيقة الكاملة وأنه وصي على الآخرين باسم الله، لأن الدين في نظر البوذيين لا يحقق اي نوع من المصلحة خارج الانسان، ولأن رجال الدين البوذيين يعرفون ان الفضيلة لا تسلم نفسها الا لمن يسعى اليها بتواضع وإيمان ورجاء ومحبة.
ومع ذلك، يبقى ان نقول باختصار شديد، ان جميع الأديان كانت في بداياتها ايمانا يعتمد على " خبرة ذاتية " قبل ان يتحول هذا الايمان البسيط الى دين ولاهوت نظري يُنظّر للدين وللإيمان معا. ولذلك كانت جميع الأديان تتبع الحق الذي يتجلى امامها انثروبولوجيا لكي تمتلك هذا الحق مهما كان الثمن باهظا.
للمقال صلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق