كتب الصحفي العربي الكبير الأستاذ حمدي قنديل، مقالاً ممتازاً عن (البقرة) الغير مقدسة ولا هم يحزنون.
عمر سليمان ليس بقرة مقدسة
حمدي قنديل
Mon, 11/07/2011
صباح 26 مايو الماضى، خرجت علينا جريدة «الأخبار» باعتراف خطير لعمر سليمان، مدير المخابرات العامة السابق، الذى عينه «مبارك» فى أيامه الأخيرة نائباً للرئيس ومنحه صلاحياته شهد فيه - أمام جهات قضائية - بأن الرئيس السابق كان على علم بتفاصيل قتل الثوار، وقال إن «مبارك» كلف القوات المسلحة والمخابرات العامة بمتابعة المظاهرات وبوقف المتظاهرين، وأنه - أى سليمان - كان يتلقى التقارير كل ساعة من حبيب العادلى، وزير الداخلية الأسبق، وينقلها فوراً إلى «مبارك»، وأوضح أن التقارير كانت تتضمن كل عمليات إطلاق الرصاص الحى والمطاطى على المتظاهرين، وأن مبارك كان على علم كامل بكل رصاصة أطلقت على المتظاهرين وبأعداد من سقط، سواء شهيداً أو جريحاً وحتى الشهداء الأطفال، وبكل التحركات العنيفة للداخلية فى التصدى للمتظاهرين ودهسهم بالسيارات وتفريقهم بالقوة، وأنه لم يعترض على أى من هذه الإجراءات، الأمر الذى يؤكد موافقته الكاملة عليها ومشاركته فيها.
إلى هنا ينتهى الخبر.. المثير للدهشة أن تصريح عمر سليمان البالغ الأهمية هذا لم يلق اهتماماً يتناسب مع جسامته أو مع مكانة صاحبه أيام حكم «مبارك»، الأمر الذى يشكك فى أن هناك توافقاً عاماً فى الإعلام المصرى قومياً وخاصاً على التعتيم على التصريح أو أن هناك تعليمات صارمة بالتوقف عن تحليله ومتابعته.. الأكثر إثارة أنه بعد أن أدلى «سليمان» بهذا الاعتراف توارى تماماً عن الأنظار حتى كان يوم الخميس الماضى عندما نشرت عدة صحف نقلاً عن «مصدر مسؤول قريب منه»، أنه يتفرغ حالياً لحياته العائلية ولا يمارس أى عمل سياسى أو عسكرى، وأنه ينفى تماماً ترشحه للرئاسة.
بهذا التصريح الأخير للمصدر المسؤول، الذى لم يكشف عن هويته، يبدو أن عمر سليمان أراد وحده أو مع جهة ما فى السلطة أن يستأذن فى الانصراف، وأن المطلوب منا الآن أن نطوى صفحته ونسقطه من ذاكرتنا تماماً، بعد أن انتهت مهمته فى الحياة العامة.. إلا أن الأمر لا يمكن أن ينتهى بهذه البساطة التى يظنها الرجل الغامض، فنحن نريد أولاً أن نعلم ما إذا كانت اعترفاته فى مايو أمام ما يسمى الجهات القضائية تشتمل على تفصيلات تزيد على ما نشر وقتها فى «الأخبار»، وما هى هذه التفصيلات إن وجدت..
هل اقتصرت شهادته على قمع ثوار يناير أم أنها تناولت مسائل أخرى تتعلق بأحداث جرت أثناء الثورة أو قبلها أو بعدها؟.. هل تعرض عمر سليمان إلى وقائع حدثت فى السنوات التى تولى فيها منصب مدير المخابرات العامة بين يناير 1993 ويناير 2011، فى ظل حكم «مبارك» الذى كان حافلاً بالأسرار والمآسى؟.. هل سئل عن هذه الأحداث أم لم يسأل؟..
هل هى شهادة أم اعتراف؟.. وماذا كانت صفته: شاهداً أم متهماً؟.. ومن الذى سأله بالضبط؟.. ما هى تلك «الجهات القضائية» التى أدلى بأقواله أمامها، هل هى النيابة العامة أم أنها جهات أخرى؟.. وأين تم الإدلاء بالأقوال، فى مكان خاص أم فى مقر رسمى؟.. هل هذه الأقوال موثقة فى محضر، وما هو رقم وتاريخ هذا المحضر؟.. وهل تمت فى حضور محاميه، وهل استكملت بشهادة شهود؟.. وماذا كان تصرف الجهة التى استمعت للأقوال؟.. وماذا تم بشأنها بعد ذلك؟.. إلى من أحيلت، وبأى غرض؟
عمر سليمان هو أطول رؤساء المخابرات عمراً فى هذا المنصب، وهو على نحو ما وصفه الأستاذ محمود الضبع فى «صوت الأمة» «الصندوق الأسود» لـ18 سنة من عصر «مبارك».. وإذا كانت محاكمة مبارك العلنية العاجلة العادلة تتصدر مطالب الثوار على نحو ما تأكد فى مليونية الجمعة الماضية، فهو ولا شك الذى يجب أن يكون الشاهد/ الشريك الأول فى هذه المحاكمة، إذ لابد أنه كان هناك دائماً كلما وقعت أى واقعة، ولابد أنه يحتفظ حتى الآن فى مكان ما بكل المعلومات والوثائق والمستندات والصور والتسجيلات المتعلقة بكل ما سوف يثار فى قاعة المحكمة، فهو بحكم موقعه كان شاهداً/ شريكاً على أهم الأحداث الخاصة بسياسة مصر فى الخارج وبما يحدث فى الداخل أيضاً..
وفى هذا، يقول الصحفى البريطانى الشهير ستيفن جراى فى كتابه «الطائرة الشبح» إن عمر سليمان لم يكن حلقة الوصل بين المخابرات المصرية والمخابرات الأمريكية فقط، بل كان «قناة الاتصال الأساسية بين الإدارة الأمريكية ومبارك فى كل الشؤون، أمنية وغير أمنية».
وكان «سليمان»، أيضاً المكلف بملف العلاقات مع إسرائيل مع غيره من الملفات التى تسلمتها المخابرات العامة من وزارة الخارجية بدعوى أنها شؤون أمنية قبل أن تكون سياسية، مثل ملفات السودان والعراق واليمن وغيرها.. إلا أن ملف إسرائيل كان ولاشك أخطر هذه الملفات..
وهنا، فإن لدى عمر سليمان ما يشهد به على الصلات الحميمة بين مبارك والإسرائيليين الذين كانوا يعتبرونه كنزاً استراتيجياً لهم.. ولكنه ليس شاهداً فقط، وإنما شريك أيضاً.. وقد كشف موقع ويكيليكس، نقلاً عن مصادر إسرائيلية، أن «سليمان» كان يتواصل مع إسرائيل عبر هاتف أحمر، وأن هذا الخط الساخن كان يستخدم يومياً، كما كشف أنه كان شخصية محورية فى ترتيب صفقة الغاز الشائنة مع إسرائيل، وكشف كذلك أنه تعهد لإسرائيل بتطهير سيناء من مهربى الأسلحة.. وكان من أخطر ما أورده موقع ويكيليكس أن عمر سليمان كان دائماً مرشح إسرائيل المفضل لرئاسة مصر ومرشح أمريكا أيضاً..
وعندما كلف بتولى مهام الرئاسة أثناء الثورة قال وزير شؤون الاستخبارات فى إسرائيل دان مريدور - وفقاً لما نقلته الإذاعة العبرية - إنه «رغم التوقعات السوداوية التى تسود لدينا فإن الأمل الوحيد الذى نتعلق به هو أن تؤول الأمور فى النهاية إلى السيد عمر سليمان، فتجربة العلاقة بيننا وبين هذا الرجل تجعلنا نؤمن بأن العلاقات (المصرية - الإسرائيلية) فى عهده ستكون أكثر رسوخاً مما كانت عليه فى عهد الرئيس مبارك».
أما فيما يتعلق بالشأن الداخلى، فإن أحداً لا يساوره شك فى أن عمر سليمان كان شاهداً على القرارات المصيرية التى اتخذها «مبارك» لإدارة شؤون البلاد وشريكاً فيها.. وكثيراً ما كنا نراه - عادة إلى جانب رئيسى مجلس الشعب والشورى ورئيس الوزراء ورئيس الديوان والوزراء المعنيين - فى معظم الاجتماعات التى كان يعقدها «مبارك» لبحث القضايا المهمة..
وهكذا، فقد كان شاهداً/ شريكاً فى إفساد الحياة السياسية، بما فى ذلك مشروع التوريث والتعديلات الدستورية وتزوير الانتخابات، وكان شاهداً/ شريكاً فى جميع إجراءات القمع التى سلبت الحريات، وفى جميع المصائب التى انصبت على رؤوس المصريين من جرّاء السياسات التى أفقرتهم، وبددت مواردهم، ونالت من صحتهم ومن تعليمهم ومن زراعتهم وصناعتهم، ومن المؤكد أنه - بحكم انفراده بصلاحية مراقبة تليفونات رئاسة الجمهورية ومراقبة العاملين فيها - يعرف كل أسرار سرقة أسرار مصر، وأين هرّب مبارك وعائلته هذه الثروات».
عمر سليمان إذن شخصية محورية بالغة الخطورة والتأثير فى عصر «مبارك».. وتزيد من خطورته هالة الغموض التى أحاطته طوال توليه منصبه مديراً للمخابرات وحتى أيامه الأخيرة.. وأقصى ما عرفه الناس عنه هو اكتشافهم شخصية الرجل الذى كان يقف وراءه عندما كان يتلو، بأسى بالغ، بيان تخلى «مبارك»..
أما هو ذاته فقد ظل صندوقاً مغلقاً كملامح وجهه الجامدة.. وزاد من غموضه هذا ما اكتنف حادث محاولة اغتياله بإطلاق الرصاص على سيارته يوم 24 فبراير، الذى كشف عنه وزير الخارجية الأسبق أحمد أبوالغيط، وهو الحادث الذى تم التعتيم عليه ولم يبادر أى مسؤول بتوضيح ملابساته وأسبابه للمصريين منذ ذلك اليوم وحتى الآن.
عمر سليمان ليس «بقرة مقدسة».. وهو لا يملك بقرار شخصى منه أن يلملم أوراقه وينجو بنفسه.. الذين خرجوا فى جمعة 8 يوليو يطالبون بتطهير الحكم ينتظرون من النائب العام أن يقدم عمر سليمان للعدالة.
نشر في صحيفة (المصري اليوم) المصرية، وللاطلاع على المقال الأصلي، اضغط هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق