إلى روح ذلك العراقي البارع والهيتي الرائع، الذي علَّمنا الكثير في مدرجات قاعات كلية الاداب بجامعة بغداد، ومن على صفحات االجمهورية والقادسية واليرموك، إليه وهو في ضيافة الرحمن...
مقالان عن الرائع الذي لايرحل، في ذكرى غيابه المؤقت التي مرَّت قبل أيام.
مصطفى
المدينة الفاضلة في فكر مدني صالح
تحية إلى روح فيلسوف العراق ومفكر التنوير مدني صالح....
والى مدينته هيت والى اصدقائه ومحبيه....
عبدالستار الراوي
22/7/2007
يقدم مدني صالح (المقامة الفراتية)، يتحدث فيه عن مدينته (هيت) تلك المدينة التي اختطفت قلبه إلى الأبد (ولو كانت ولادة ثانية ونشأة أخرى بإرادة وحرية واختيار لما اخترت سوى الولادة في البيت الذي ولدت فيه ولما درست الابتدائية إلا في مدرسة هيت) هكذا تكلم مدني صالح.
هيت تمتد في الزمان والمكان.. تصير في ذاكرة مدني صالح حركة خالقة، لفردوسي إنساني.. واقعي، لحماً ودماً. حقيقة تفوق (المدينة الفاضلة).. في كل الأفكار والفلسفات، والعالمين..
انها (الرحيق) الذي يغذي قلبه. نفسه، عقله.. ووجدانه.. فذاكرته المتقدة دوماً، لم تبارح ساحة السراي.. تجذبه اجراف الدرستانية ويحن حنين العاشقين الى منازله الاولى، في المجنون، والحنينة والخوضة وبستان الحجي.
وفي البدء كان الحب،
وكان الفرات..
ومن المياه الأولى إنبثقت هيت..
ومن شواطئها السخية،
صدرت الموجودات..
وجرى على أرضها نهر الجنة..
ومن هيت لا من مدينة سواها،
حملوا (هُبل) وسارت به وبالهوى الإبلُ..
ومن هذه المدينة لا غيرها،
خرج البناة الذين أشادوا الاهرام في مصر والسور في الصين..
والبرج البابلي في العراق..
وقالوا: أنها سومرية..
وقيل: انها قامت وازدهرت قبل ان يكون احد من السومريين في الوجود
نقلوا منها:
الطابوق والحجارة والقار والجص وجذوع النخيل..
وان المعماريين قد سافروا منها الى (أريدو) فتفضلوا على أهلها وعلموهم بناء الزقورات..
انها مدينة الحب، لا قاتل ولا مقتول، إلا قتيل الهوى في أسفار العشاق الفقراء..
ومنهم (صابر بن ايوب) الذي كان لا يرى الحسناء الا ووقع بين يديها مغشياً عليه، ولا يفيق من الصرعة الا على التسبيح بإسمها اربعين يوماً، وقالوا: انها اول باب يفتح لاكرام الضيف، واضرام النار..
وذلك ان آدم عليه السلام، بذر اول ما هبط من السماء حفنة قمح في (الخوضة) وحفنة شعير في (حمادي) وحفنة عدس في (وادي العيدي)..
وزرع في اليوم التالي نخلة في (الدرستانية)، وزيتونة في (المجنون) وكرمة في (القبانية) وزرع الليمون في (المعيديات)...
ويحلفون ان رغيف الحسناء في بلدتهم يكفي الرجل عمرين،
- عمراً سعيداً في الدنيا..
- وآخر سعيداً في الجنة..
لا يجوع بعده ولا يشتهي من الزاد طعاماً الى يوم الدين..
ويحلفون انهم اول من دللّ المرأة لم يسبقهم أحد الى اختراع تدليل المرأة في التأريخ، لم ترفع قط عاشقة في بلدتهم الى السماء، الا سبقها العاشق الى النجم ليملأ لها من النجم زنبيلاً..
حتى صار كل النجم قلائد للعاشقات ويحلفون ان حمورابي منهم، وانه هو الذي حمل من هيت، المسلة والأسد، وباب عشتار، وقناديل الجنائن المعلقة الى بابل..
وان نفوط الدنيا كلها، تجري من عين تحت بلدتهم الى حقول النفط في كل اقطار الدنيا..
واذا وجد الإنسان نخلة في المريخ فمن الفرات تسقى لا من النيل ولا من دجلة، ولا من السين او الفولكا، او التميس، ولا من الدانوب..
وفي جامع البلدة مئذنة يعتقدون انها أعلى مئذنه في الدنيا.. وفي حرم الجامع محراب ومنبر يعتقدون انه لا أقدم منهما إلا محراب ومنبر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم..
ويعتقدون ان جامعهم هذا من تأسيس الخليفة عمر بن الخطاب وان خالد بن الوليد صلى فيه ركعتين تحية للمسجد في طريقة الى الشام مارا ببلدتهم هذه التي فيها أقدم شجرة زيتون... وأقدم شجرة توت.. لا اقدم منها الا الزيتون المذكور في القرآن، والتوت الذي خصف منه آدم وخصفت منه حواء.. "إذ طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة".. ويعتقدون ان الفرات نهر من انهار الجنة التي وعد الله بها المتقين، وانه ينبع من الجنة فيبدل طعمه لحظة دخوله حدود الدنيا، لا يعود الى طعم سلسبيل الجنة الا لحظة دخوله هيت ليبدل طعمة مرة اخرى لحظة خروجه منها الى سائر الأراضي..
لكن اهل المدينة الفاضلة،
لا يفاخرون الناس الا بالدعة والطمأنينة، والمسالمة، والمحبة، والدماثة، وحسن المعاملة، والمجاملة، والأناة، والدقة، وقلة الكلام.
و لا يتوكلون الا على الله فهو وحده حسبهم ونعم الوكيل، لا القرش الأبيض في الأيام السود..
ولا يتباهون الا بأن الشرطة في بلدتهم يقضون كل الوقت يدخنون السجائر، ويشربون الشاي، ويلعبون النرد، ويأكلون الكبة والكباب، تحت اشجار الدفلى والكالبتوس في الحديقة امام باب السراي..
تلك مدينته التي احبها حباً جما..
فيعيد قراءة نبضاتها الاجتماعية، نبضاً نبضا، ويذوب شوقاً عشقاً، للرمل والبساتين ويبكيه شجن النواعير.. ينزل الفرات، او يلج (المجنون) و(الخوضة)، يلتقط افراحه الكبرى، بطلع النخل حتى تصير تمرا، اول ما تنقر منها الطير.. يمتلء قلبه غبطة بأزهار المشمش والخوخ والرمان وقداح البرتقال...
وتجئ ايام الطفولة اليه تجري صحبة فيضانات تصير بها البساتين انهارا، فيجري والصبية بزورق القصدير من نخلة الى اخرى، ومن الرمان الى التين.. ويشرب الماء صبياً، كرعاً من اجواف الشط ومن الترع والسواقي في البساتين.. ينبطح ويمد رأسه في الماء يكرعه كرعاً.. مثلما تفعل الماشية والخيول..
وبرفقة الصحبة الخالدة يخيفون الذئب في البرية. فتنهزم الذئاب متراكضة اول ما يرفع الصبية الدشاديش وما كانت هذه الذئاب الا جدياً يبتعد او خروفاً يقترب او علامة على تل في نهاية الطريق.. او قد لا تكون الذئاب الا صنفاً من اشجار الطرفاء او الصفصاف..
تلك مدينته التي أحبها، التي لا يرى في الدنيا اجمل منها، انها عاصمته، (إذ لا عاصم له من امر الله يوم المنتهى)، يعتقد بان جميع مواطني هيت حكماء وفي مرتبة واحدة في نفسه ووجدانه.. واطيب رائحة يشمها في بغداد هي (القير)، هات الحديث عن الزوراء او هيتا..
ومدينته خالدة، إزدان بأسمها ديوان أبي نؤاس، وأزدهر بها هيرودوتس، وهي مدينة عند الطبري، ومدينته عريقة، قبل لندن وباريس وبغداد.. ومنها خرج باب عشتار.. ومنها حملوا هُبل.. وحمل مدني صالح نفسه الى كل مكان..
والان تعالوا ندخل مدينة مدني صالح الفاضلة...
هذه بلدة آمنه مطمئنه، تنام مع النخيل اذا جاء المساء،
لا يعلو منها صوت على صوت الريح في سعف النخيل واغصان الشجر، تستيقظ مع الدبكة.. وتصلي الفجر، وتمجد العمل..
وقانون المدينة الأول هو (العدل)، الذي يعني: "الناس فيها سواسية" لاغنيّ فيهم ولا فقير..
يأكلون مما يزرعون، ويجئ قانون التكافل الاجتماعي الذي يسد حاجة الإنسان، فيطعمون بعضهم مما يأكلون، ويلزم النظام الإقتصادي الذي اعتمدته تلقائيه (القناعة)، ان لا بيع يجري في المدينة ولا شراء، لا اجار ولا اجرة ولا اجور، لا استئجار ولا رهن، ولا مراباة ولا غش، ولا احتكار ولا احتيال، لا عقود ولا شهود..
وبسبب قانون (الفزعة) الجمعي، فليس ثمة من يتقاضى اجر على عمل، إلا المودة في حب البلدة، والشكر على حسن المواطنة، وراحة البال..
والمدينة معنية بزراعة القطن، تحيكه غزلاً.. لكل السكان، يكسون معاً ويعرون معاً. مثلما يشبعون معاً ولا يسأل احد في البلدة اجراً في التعاون على بناء بيوت هي مأوى للجميع..
يأكلون مما تنبت الأرض، ويطعمون الغرباء والمنقطعين والضيوف، وينامون مع النخل اذا جاء المساء، لا لغوّ في البلدة ولا تأثيم..
لا يرفع احد صوته على أحد في خصومه او في جدال، لا خصام ولا خلافات..
هذا وفي البلدة (سراي)، وفي السراي اربعة من الشرطة وعريف، لا يراجعهم احد من سكان البلدة في امر.. فلا خصومة او جدال..
تلك هيت المدينة الفاضلة، التي لا يتعاطى اهلها حديث الفلوس، ولا تعامل لهم بها، لا في دخل ولا في خرج..
ولا يختلفون حول شئ بسبب الفلوس، يحرثون ويبذرون، يزرعون ويغرسون، فيأكلون من الحاصل والحصيد، ويطعمون: النجار، الحداد، الحلاق، البناء، والحائك، والغريب الطارئ، والمتقطع اليتيم..
وفي البلدة غريبان، إسكافي من حلبّ، وحّذاء خيول من بيروت.. يسمون الأول (الحلبي) ويطلقون على الثاني (البيروتي) ويجلون مقام الإثنين ويكرمون اقامتهما، إجلالاً مدهشاً واكراماً منقطع النظير..
ابطاله:
جلجامش
افلاطون
وثلاثة عظماء يؤلفون وجدان هذا العصر في الثقافة وضمير جميع العصور. جان بول سارتر، وبرناردشو، وبرتراندرسل. ورابع لا أسميه كفاية عن كل عظيم برفض الجوائز.. هذا في المعرفة وفي الأخلاق وفي الجمال وفي الوجود اما في التربية وفي السياسة فلا يصدرون الا من افلاطون..
اعظم الفلاسفة (ارسطو وافلاطون)
صابر بن ايوب
وفرايداي،
والتاج هو الوطن والوطن والوطن...
مدني صالح... ظاهرة معرفية شامخة لا يطولها لقب ولا يمسها نصب |
نشر المقال في شبكة البصرة منبر العراق الحر الثائر |
د. عمر الكبيسي |
حين هاتفني الزميل الدكتور ريكان ابراهيم يطلب مني ان اكتب عن الفقيد الراحل الاستاذ مدني صالح , ادركت جيدا انه يضعني في محنة! هو يدرك مدى اعتزازي بهذه الظاهرة المعرفية الشامخة بقدر ما يدرك حالة الغموض التي تنتابني ونقص الأدوات التحليلية عندي التي لا ترقى لتقييم هذه الظاهرة الفريدة في عالم المعرفة العصرية العراقية التي تلبست بها سلوكية وكتابات ومؤلفات وسيرة هذا الطود الشامخ واللون المتفرد والمعرفة المتميزة والموسوعية المتشتتة من حيث الزمان والمكان والعمق والبعد واللبس واللغز والجد والسخر والاسهاب والاطناب والغموض والتعتيم وطبيعة الخطاب والتخصص والشمولية والهوية والهوى والمدينة والوطنية والانسانية واليسار واليمين والتفقه والإعتزال والتصوف والإختزال والعرفان والوجود والإبهام والإدغام والتعقيد والتبسيط والابتسامة والاكتئاب والفقر والثراء والنقد والاعجاب والموت والحياة. تفصلني عن مدني صالح فواصل لم تسمح بتوثيق المعرفة الشخصية به خلال نشئتي المبكرة في كبيسة عندما كان هو في هيت على بعد 15 كيلومترا عندما كانت زيارة هيت حلم في عالم مواصلات ضيق وتفصلني عنه 15عاما من العمر الذي حال دون ان يكون لي به وصل في مرحلة الدراسة او عند تواجده في كمبرج. لكني اعرفه عن كثب من خلال خاله الشيخ الوقور عزالدين صديق والدي ومن خلال ابن خاله الدرويش الصوفي حسين عز الدين ومن خلال طلبته الذين درسوني كطراد الكبيسي واخي الدكتور عامر الكبيسي وغيرهم. واعرفه بعد ذلك من خلال ما يكتب ويؤلف ويقول ويتحدث مع اصدقاء ومعرفيين منهم الشاعر والزميل الدكتور ريكان ابراهيم الذي يريدني ان ادلو بدولي عن ما أروخ به هذا الطود المعرفي الذي لا يطال واسختصر بانطباعاتي الشخصية عن مدني صالح من خلال إرثه وسيرته فأقول : ليس غريبا ان تسهم هيت اسهاما واضحا في تكوينة مدني صالح , فهيت حين تعود بي ذاكرتي اليها كما يصفها الانباريون مدينة فريدة ضمن المحافظة الواسعة برمزية حكمائها واعيانها وحضارية مجتمعها واعتدالية وتطلعات شبابها ومثقفيها وهيت فريدة حتى في جغرافيته والتصاقها بفراتها والتصاق الفرات بها ,فريدة في نكهة وطعم ولون وشكل خضرها وفاكتها وتفردها بشموخ وحنو مئذنتها وشهرة نخلها ونواعيرها وكبريتها واوليائها وخطبائها ورقي وثقافة نخبها السياسية والوطنية. الكباب والدبس والراشي والطرشي والقثة والطمامة في هيت وصلاة الجمعة في جامعها الكبير والتجول في سوقها والوقوف على ضفاف الفرات فيها ,كلها لها طعمها الخاص وذكرايتها الخالدة في ذهن محبيها ومرتاديها , وبالتالي لا يستغرب ان يكون لإبنها البار الملتصق بذاكرته بها والمتجذر انحداره من اشراف انسالها , طعما فريدا غريبا في معرفته وشموخه وكتاباته وتألقه. مدني صالح باعتقادي يمثل نتاج هجين اجتماعي وثقافي متنوع ترك بصماته بشكل واضح على هويته الثقافية هو نتاج لهيت الشاقوفة والمعمورية وحسين عز الدين وعلي الهيتي وهيت نمر ذياب والغريري وفي الرمادي السياب والبياتي وفي بغداد الوردي والألوسي وفي كمبرج المعرفة والاستشراق والاستحواذ وهو نتاج لصراعات سياسية وموجات عنف سياسي وفكري وصراع بين الاصالة والتحديث وبين الظلم والانعتاق بل بين ان يكون أو لا يكون. وبالتالي فهو الحائر بكيفية احداث التغيير والتجديد دون ان يقطع الوصل بالتاريخ والارث وبين ان لا يوغل بنتاج مغريات التجديد والتحديث بالإنقلاب على كل ماهو متأصل ومتجذر. مدني صالح في كتاباته يتحرى الايضاح بالغموض لم تزده سعة المعرفة والبحث الا هموما وعذابا , الغوص في اعماق الفلسفة لم يرسخ في ذهنيته توصيف المفاهيم الفلسفية السائدة مما دفعه للغوص في اعماق الشعر والأدب للكشف عن زيف وحقيقة المفاهيم الفلسفية التي اعتاد الفلاسفة على اعتبارها ثوابت منهجية في علم الفلسفة وهكذا كان مدني صالح مشتتا بين التقليد والتجديد متعدد الادوات في تحطيم ما يعتقد انه جدران واهية فاصلة بين الفلسفة والأدب فجاءت كل كتاباته وتنظيراته الساخرة والملغزة والمبطنة انعكاس لما اختطه من منهجية في التعريف والتوصيف في صراعه بين منطقية العقل وامكانية تغليبها على منهجية وسطوة النقل. هل شكل مدني صالح في نهجه هذا مدرسة خاصة به تركت بصماته على جيل من طلابه ومقلديه ليصبح مجددا معرفيا متفردا عن غيره من عمالقة الفلاسفة الذين سبقوه , ام ان محاولاته هذه لم تفلح الا ان تصنع منه خزينا معرفيا لم تمكنه من معرفة ذاته قبل ان ترسخ لهوية معرفية لها من سيكمل مسيرة مدني صالح مستقبلا بترسيخ معالمها. يختلف اقرانه ومقيميه من الباحثين والمختصين في تقييم أدبياته ومؤلفاته ونهجه البحثي بين معارض يوصمه بالمشاكسة والعناد وبين منصف ينحني لمحاولاته ويعتبرها منافذ في التطوير والتجديد. من لطيف ما ذكره لي اخي الدكتور عامر عن استاذه مدني صالح انه عندما كان يلقى محاضرته في الصف كان الاستاذ مدني صالح يتنقل خلالها من موضوع الى آخر وفق انسيابية الحديث وكانت تلم المحاضرات تبدو كانها نمط من لوحات الفن السيرالزمي الذين لا ندرك ابعاده ولا معانيه في حينها وكل الذي يشد الطلبة اليه هو الطريقة التي يسهب فيها بالحديث متنقلا من موضوع الى آخر حيث يجد في ذاته حلاوة لا تثمن وهو يحدث طلبة صاغين حتى وان كانوا لا يجدون فيها مادة منهجية او امتحانية. ثم يذكر الدكتور عامر عنه انه بعد اكثر من ثلاثة عقود من الزمن حين اصبح هو رئيسا لقسم الادارة في كلية الادارة والاقتصاد في جامعة بغداد وكان الاستاذ مدني صالح استاذا للفلسفة في كلية الاداب وجد ان افضل من يعهد اليه بتدريس مادة فلسفة الإدارة هو الاستاذ مدني صالح واستجاب لطلبه لكنه اصيب بدهشة كبيرة عندما حضر الاستاذ مدني صالح الى القسم حين رآه متعبا مهموما بملابسه وهندامه واعتلال مظهره وصحته وبعد الترحيب به واستعادة ذكريات الدراسة وثانوية هيت فاتحه في امكانية ان يحصل له على فترة اعارة خدمات الى احد الجامعات الخليجية التي يعرف مسؤوليها وساهم في انشائها لفترة تحسن من وضعه الاقتصادي وتخفف عن همومه , لكن الاستاذ مدني صالح اجاب يا دكتور عامر الجبال لا ترحل!! فاستدركت نفسي وقلت له لكن يا استاذي الارض كلها تدور في هذا الكون المتحرك مع جبالها. فكانت اجابة مدني صالح , إذا انا بهذا المفهوم لست ثابتا وانما دائر بدورانها وانا في العراق , يالها من مواطنة ممتلئة بالصمود والعناد. هذا هو مدني صالح يختار ايام البرد القاسي او المطر الشديد ليقطع اميالا في شوارع بغداد يستنشق هوائها العذب ويتطلع فيها التاريخ والأدب والمرح والمعاناة وهو يقرأ ويستذكر مسميات ازقتها وشوارعها ومأذنها ومدارسها واضرحة مشاهيرها تماما كما يفعل كل مرة يزور فيها هيت مدينته الراسخة بدراويشها وصعليكها واعيانها , لا يعتاد المجالس ولا الدوواين او الفواتح او الأفراح ويكاد ان ينعزل في مقهى شعبية او مجمع او مكتبة يختارها يجد فيها سلوة نفسه ولذة عيشه , بقى متمسكا تمسك الصوفية والدراويش بكل ما فيهم من قيم ممتنعا زاهداً بملذات الحياة وشغف العيش لا يداهن ولا يمدح ولا ينافق لكنه قوي الشكيمة في نصرة المظلوم والدفاع عن الحقيقة بصلابة متميزة لا يسعى لمال ولا يتوق لمنصب أو لقب او جاه غير مهتم بشؤونه الخاصة والمعيشية باحثا عن حقيقة نفسه في عالم يعرف قدره ويشخص علاته وميزاته تواق للتغيير بادوات الحكمة والمعرفة لا القوة او العنف وبهذا المعنى فهو يكاد يأخذ من اليسار عمقه ومن اليمين حنكته وهو بينهما شامخ متسلط بالنقد اللاذع واللغز اللامع والابداع الساطع للقارئ والسامع , تولد عباراته طاقة كامنة وتحرك مفاهيمه افاق واسعة في اعماق النفس والأدب والمعرفة مما تحير به الأذهان والأذان. يمتاز الفقيد الراحل بمواهب مبدعة ومواصفات سلوكيه عراقية الجذور متفرده , كان يحلم بعراق لا تفت بعضده الطائفية ولا العنصرية او التقسيمات الجغرافية , لم يتحزب ولم يتنصل عن نصرته للمظلوم ونزعته لإشاعة الحرية الانسانية التي تشع بها كل معاني المدينة الفاضلة التي يؤمن بقوامة نهجها , لم يكم مهتما بشؤونه الخاصة او بكسبه او عيشه بقدر اهتمامه بما اراد لنفسه كيف يكون ولذلك حين وجد نفسه غريبا في أطواره عن غيره بعيدا عن تحقيق طموحاته في زمن تغيب فيه الفضيلة وتطمس فيه مقومات البنية السليمة والذهنية المدركة ويتغلب فيه الظلم والاحتلال وتختل فيه القيم والاخلاق ويسود فيه العنف والاستغلال , اختار الموت على الحياة بلا تشبث او استجاد وهو العارف بحجم معاناته وخطورة مرضه ورحل في الزمن الذي لاعيش فيه لكريم ولا عز فيه لعالم ولا مفكر بعد ان ادرك ان حتى مدينته هيت التي يفخر ويعتز بكل ما الهمت به من مواهب وقدرات وقيم وأخلاق لم تعد ملجئه التي اليها يأوي ويأنس بعد ان اصبحت ترسخ في عذابات الاحتلال ومكائد العنف والتفجيرات وكان ذلك آخر ما كان يتوقع ان يشهده او يراه في حياته , وهكذا تعايش مدني صالح مع مرضه و واقعه بكل صبر وشجاعة غير مبال بحياة لا تسر , العيش فيها من الموت اقسى وأمر. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق