موقعنا الجديد، مع التقدير

موقعنا الجديد، مع التقدير
نأسف لإزعاجكم، انتقلنا إلى هنا رجاءً، يرجى الضغط على الصورة للانتقال إلى موقعنا الجديد

الخميس، 6 سبتمبر 2012

الديمقراطية بين العالمية والعولمة 2

الحلقة الأولى هنا
القس لوسيان جميل

عزيزي القارئ! في المقال السابق تكلمنا عن العالمية بصفتها حالة انثروبولوجية ناتجة عن ظهور الروح التدريجي في مادة الكائن البشري، هذا الروح الذي يحول الكائن البشري الى انسان، ثم ينقله من مرحلة انسانية الى اخرى اكمل منها، بحسب قواعد ذكرناها في المقال الأول. ومما لا شك فيه ان الجدلية هذه، كيفما نظرنا اليها، تبدو هي المسؤولة عن جميع الصور المكونة للمراحل الحضارية الانسانية التي عرفنا بداياتها، في حين لا زلنا لا نعرف بدقة طبيعة نهايات هذه المراحل الانسانية، بعد سقوط النظرية الماركسية التي كانت تبشر العالم بسيادة السلام الشامل، حسب زعمها، مع انتهاء عهد الطبقية وظهور العالم الجديد: حيث يعمل فيه كل بقدر طاقته ويأكل كل بقدر حاجته.  


خطوط ومسارات ظهور الروح: وفي الحقيقة نحن نجهل كيفية ظهور الروح، كما نجهل حقيقة تصاعده المستمر، وذلك لأن ما هو روحي يقع في مجال الأنثروبولوجيا، الذي تختلف قواعده عن قواعد المادة المعروفة اختلافا بينا، على الرغم مما بينهما من تماثل. لذلك صرنا مضطرين الى الاكتفاء بمشاهدات واقعية تُطلقُ عليها تسمية الظاهرة التي تجب دراستها بتواضع وعلمية، حيث ترينا هذه الظاهرة، كيف يظهر الروح ظهورا تصاعديا وبنيويا وجدليا، على شكل مسارات متشعبة Ramifiés، تماثلية، تقع في بنية كبيرة واحدة، لا يمكننا الفصل بين ابعادها الكثيرة والمتشعبة الا فصلا ذهنيا، من اجل الدراسة والتحليل فقط، حيث يمكننا ترتيب هذه المسارات بحسب اسبقية تواجدها الزمني في حياة الشعوب.
1 -  المسار البيولوجي والعالمية: وعليه نبدأ دراستنا بالمسار البيولوجي، الذي يبدأ بمرحلة الانسنة التي تسير بالإنسان باتجاه مفتوح، قد يمكننا ان نحدد بداياته، لكننا نجهل نهايته. غير ان ما يمكننا ان نقوله هو اننا نعرف، بحسب نظرة بنيوية، بأن هناك ترابط وتأثير متبادل، بين البنى التحتية البيولوجية للإنسان، وبين بناه العليا العقلية والروحية والحضارية، اذ ان التغيير الذي يحصل في جسد الانسان يؤثر على روحه وفكره، اي على عقله ومشاعره وحضارته، كما ان التغيير الذي يحصل في عقل الانسان ومشاعره وحضارته، يؤثر بدوره على جسده، وهكذا دواليك، حيث يسير الانسان من حالة انسانية بدائية الى حالة اكمل ثم اكمل ثم اكمل، باتجاه نهايات مفتوحة، كما ذكرنا. غير ان هذه القاعدة البنيوية التي تكلمنا عنها، قد يصيبها خلل وتشويه احيانا كثيرة، وذلك بسبب مقاومة المادة وتمردها على الروح احيانا، حيث لا يحصل الانسان على ما يريده من المادة الا بمشقة: بعرق جبينك تأكل خبزك ( من سفر التكوين )، في حين ان البنى الفوقية تفشل احيانا اخرى في مواكبة  التغييرات التي تحصل في مادة الفرد او المادة الاجتماعية، ويبقى الانسان، فردا او مجتمعا، متعلقا بإصرار بما كان قد تعودَ عليه من أيديولوجيات وعادات وتقاليد وسلوكية. وبديهي اننا، على هذا المستوى، لا نتكلم عن الديمقراطية، لكننا نتكلم عن الاستلاب والتحرر، كون الاستلاب والتحرر مرتبطين بسلامة الانسان فردا كان ام جماعة وبسلامة بيئته وبقوة قدرته على" تدجين و انسنة " بيئته، وهو يسير باتجاه العالمية. 
2- المسار الايماني الروحي: على الرغم من ان مسار الانسان الديني الايماني، شأنه شأن المسيرة الحضارية، متواصل لا تقطيع فيه، الا اننا من اجل الدراسة، يمكننا ان نتكلم عن صيغ وصور الايمان المتعددة المتعاقبة حضاريا وجدليا، وليس زمنيا، منذ ان بدأت عملية الانسنة لدى الانسان، وبدأت الجماعات البشرية تكون لنفسها رموزا تقدسها، بسبب حاجتها الأنثروبولوجية العميقة والمرحلية الى هذه الرموز. اما خطوط مسيرة الرموز الايمانية، فقد لا تلتقي مع بعضها في يوم من الأيام، كما لا تلتقي مع المسارات الانسانية الأخرى، غير ان هذه الخطوط، وان كانت متوازية بطبيعتها الحضارية، وطبيعة  الزمن الذي بدأت فيه مسيرتها، الا انها، حتى وان لم تلتقي في نقطة جامعة واحدة في يوم من الايام، سوف تميل نحو بعضها البعض تدريجيا، حتى تصير هذه المسارات على شكل حزمة متلاصقة البنى والأبعاد، الأمر الذي يجعل من الخلافات الدينية بالتدريج امرا تاريخيا عفا عليه الزمن، لأن الناس سوف يتعلمون على ان يجتمعوا حول ما يوحدهم. طبعا هنا ايضا لا نتكلم عن الديمقراطية، لكننا نتكلم عن الحرية التي تؤخذ ولا تعطى مجانا، وعن المعوقات التي يمكن ان تعرقل مسيرة الانسان العفوية نحو كمال انسانيته ونحو عالميته، محمولا على اجنحة ايمانه الديني، فضلا عن اجنحة انتماءاته الأخرى، عندما يكون هذا الايمان حيا وفعالا، ولا يكون مجرد انتماء.
3 - مسار الانتماء الاجتماعي: في الحقيقة، قد  يكون مسار انتماء الانسان الاجتماعي، من أهم المسارات في حياة الانسان، وذلك لأن هذا المسار يشكل اساسا لحياة الانسان الاجتماعية، مثلما يشكل المسار البيولوجي ( الحياتي ) اساسا لحياة الانسان البشرية. غير ان هذا المسار الاجتماعي يبقى خفيا غير منظور، بعد مضي حقبته البدائية، وبعد ان يكون قد ادى للإنسان البدائي خدمة لا يمكن الاستغناء عنها، مثلما لا يمكن ان تستغني دار عن اسسها، حتى وان كان هذا المسار قد فقد جميع ملامحه القديمة، في الدول المتقدمة، وفقد كثيرا من ملامحه في غالبية الدول النامية.
   وعموما يمكننا ان نضع العائلة والعائلة الأبوية الكبرى Patriarcale  كحلقة وصل بين الحيوانات الاجتماعية المتطورة والإنسان، غير اننا مع العشيرة والقبيلة نكون امام انسان اجتماعي منظم تنظيما عقلانيا رفيع المستوى، يستطيع ان يحمي افراد قبيلته بنجاح، على كل المستويات. اما الأمة الدينية فهي تطور اجتماعي نوعي، ومع ذلك نستطيع ان نضع الأمة الدينية كحلقة وصل بين المجتمع القبلي وبين المجتمع الديمقراطي الذي يليها بعد سقوطها. ومن هنا، وبناء على طبيعة هذا المسار، يمكننا ان نؤكد بأننا هنا ايضا، لا نستطيع التكلم عن الديمقراطية، لكننا نستطيع التكلم عن نوع من الرضا والقبول بالوضع القبلي، او وضع الأمة الدينية، طالما كانت القبيلة او الأمة الدينية ترعى الانسان بالعدل والمحبة والإنصاف.  
4- المسار الأممي والدولي: بدءا اود ان اقول للصديق الذي علق على مقالي السابق مقترحا تبديل مصطلح العالمية بمصطلح الأممية، بأن العالمية شيء والأممية شيء آخر تماما، حتى وان كان بين الحالتين نوع من التماثل. فالأممية في الواقع، خطوة في طريق العالمية، وليس العكس صحيحا، لأن العالمية هي اشمل وأوسع من الأممية وأعمق جذورا في جبلة الانسان، بمعنى ان العالمية تشمل حياة الانسان كلها، وليس حياته كأمة فقط، الأمر الذي يجعلنا نقول ان الوصول الى الأممية لا يعني الوصول الى العالمية بشكل حتمي. وهنا يطيب لنا ان نقول لصاحب المقترح، بأن العالمية اقل خطورة على حرية الانسان من الأممية، وذلك لسبب واضح، هو ان العالمية تسير بالإنسان في طريقه الطبيعي، اي بحسب رغبة الانسان الداخلية نفسها، في حين يخضع الانسان الذي تقوده الأممية، لعنف غير مشروع احيانا كثيرة، تسببه مصالح اقوياء العالم، هذا العنف الذي يظهر في ايامنا فيما يسمى النظام العالمي الجديد.
المسار الطبقي الاقتصادي: من الناحية النظرية، علينا اولا ان نعترف بأن النضال الطبقي الاقتصادي هو الذي يحتل مكان الصدارة بين المسارات الاجتماعية الأخرى، منذ فترة المشاع والى يومنا هذا. غير اننا نتكلم هنا عن المسار الطبقي الاقتصادي في واقع ايامنا وفي التاريخ القريب الذي مضى. فمنذ الثورة الفرنسية والثورات الاوربية الأخرى، وعلى الرغم من ان العالم الغربي دخل حقبة الديمقراطية، بمعنى حكم الشعب، الا ان العالم الغربي دخل حربين عالميتين فقد اثناءهما عدة ملايين من  البشر، كما تم تدمير مدن بأكملها وشاعت المجاعة بين سكان دول رأسمالية لم تستطع ان تعيش مع بعضها بسلام، كما ان هذا العالم تعرض لمشاكل اجتماعية واقتصادية كثيرة وإضرابات واسعة، مما يدلل انه كان محروما من الديمقراطية، على الرغم من ادعاءات الغرب عكس ذلك.
دروس الحرب: غير ان الحربين العالميتين، كانتا درسا مهما للرأسماليات المتحاربة. وعليه فقد كانت من نتائج دروس الحرب المؤلمة ان جلست الرأسماليات الغربية على طاولة المفاوضات واستقر رأيها على التحالف من اجل تقسيم الدول الضعيفة فيما بينها، ونهب خيراتها، دون ان تكون هناك حروب مدمرة. وهكذا انشأت هذه الرأسماليات الأمم المتحدة ومجلس الأمم وغيرها من المنظمات الدولية الي كانت غايتها مساعدة هذه الرأسماليات على العيش بسلام مع بعضها البعض، وعلى ردع كل جماعة تناهض هيمنة تلك الرأسماليات، من ضعفاء العالم. غير ان المنظمات الدولية، ومنظمة دول عدم الانحياز نفسها، ربما استطاعت ان تمنع الحروب العالمية الكبيرة، لكنها لم تستطع منع تقسيم العالم الى كتلتين جبارتين تحاول كل كتلة منهما التوسع على حساب الكتلة الثانية، من خلال ما يسمى الحرب الباردة. وهكذا، وعلى الرغم من الصراع المرير الذي جرى بين الشرق والغرب، وعلى الرغم من وصول هاتين الكتلتين الى حافة الحرب الحقيقية اكثر من مرة، فإنهما في الواقع  اكتفتا بالحرب الباردة، على امل ان تأكل احداها من جرف الأخرى، متى ما استطاعت الى ذلك سبيلا. وعليه يحق لنا ان نتساءل هنا ونقول: ترى هل نستطيع ان نجد ملمحا من ملامح الديمقراطية في الغرب وفي العالم، مع هذا الوضع الذي اتينا الى ذكره؟ لا اعتقد. 
مرحلة الستينيات الحضارية: اذا كان القانون الفيزيائي الذي يقول بأن لكل فعل رد فعل، ينطبق على مجالات حياتية اخرى، ومنها المجال الدولي الاجتماعي والسياسي، فأن الأفعال الخطرة والشريرة التي نتجت عن التناحر بين الشرق والغرب، وبين الأحزاب التي كانت تدعي انها تمثل مصالح طبقات اجتماعية واقتصادية معينة، قد اوهن جميع الأطراف، مما سمح بظهور اتجاه انساني عالمي، منذ بداية " الستينيات " من القرن المنصرم، يعد الناس بحياة لا تعتمد شريعة الغاب، بل تعتمد حقوق الشعوب في الحرية والعدالة والكرامة الانسانية.
     وعليه يكون تقييمنا لمرحلة الستينيات بأنها كانت مرحلة ثورية بكل معنى هذه الكلمة، لأن الانسان، والإنسان الغربي بشكل خاص، اراد تجاوز رأسمالية الغرب والشرق معا، مع كل أيديولوجياتهما، وصولا الى مجتمع جديد متحرر من عنف هذه الأيديولوجيات ومن عدوانها. غير ان ثورة الستينات، أخذت منحيين اساسيين، فضلا عن المنحى الطبقي الداخلي. فقد ظهرت دول عدم الانحياز، الى جانب الدول الضعيفة المنحازة الى احد المعسكرين المتناقضين، وظهر ما سمي بلاهوت التحرير في امريكا اللاتينية وفي افريقيا، مصاحبا لحركات التحرير العنيفة هناك، كما ظهرت حركات في دول كثيرة قامت بالإصلاح الزراعي وبتأميم نفطها وخيراتها الأخرى، كما حدث في العراق وفي مصر عبد الناصر مثلا. غير ان حركات التحرير هذه لم تستطع ان تتجذر وتصل الى كل غاياتها الطبقية والتحررية، ليس فقط في المجال الطبقي، الذي كان غائبا في اكثر الدول النامية، ولكن ايضا في مجال التحرر من اي شكل من اشكال الهيمنة.   
مرحلة العولمة: غير ان العالم الغربي لم يكن غافلا عما يجري له، كما انه لم يكن قد ابتلع خسائره جراء تحرر الشعوب من استعماره الغاشم، وتحرير ثروات كان قد بنى قوته الاقتصادية عليها. ولذلك ما ان حسمت المعركة بين الشرق والغرب بتفكك المعسكر الشرقي، حتى شرعت الدول الغربية الرأسمالية تنسى خلافاتها وتتجمع فيما بينها، لكي تستعيد امجادها الرأسمالية ومستعمراتها القديمة وامتيازاتها الكولونيالية، بطرق خبيثة ومبتكرة، ومنها الحروب  المباشرة وغير المباشرة التي شنتها على عالم الضعفاء، بمؤازرة الانتهازية المحلية. وعليه نفهم ان مرحلة العولمة لم تكن مرحلة تقدمية ولا ديمقراطية ولا عالمية جدلية تهمها حقوق الانسان، بل كانت ردة رجعية، شاءت الظروف العالمية ان تحصل.
خاتمـة: عندما يقول المثل بأن الدبور لا يخرب عشه، وان الشيطان لا يخرب كوخه، وأن ثمار الشجرة تكون على شاكلتها، وانه لا يجنى من العوسج عنب ولا من العليق تين، فان هذه الأمثال الانسانية كافية لتقول لنا بأن امريكا لا تعمل من اجل اشاعة الديمقراطية في  اي  بلد. وفي الحقيقة، ان من يصرح بأن وسيلته لاحتلال العراق كانت الفوضى الخلاقة، اي الفوضى المدمرة، لا يمكن ان يكون ديمقراطيا، كما لا يمكن ان يعطي الديمقراطية لغيره. ومن يرى سلوكية المحتلين في العراق وفي ليبيا، لا يمكن ان يكون سوى لص قذر لا يستحق الاحترام، لأن اهتمامه بسرقة نفط كان اكثر من اهتمامه حتى بمن عاونه على احتلال بلده. ولذلك عندما يسمع انسان وطني شريف كلمة الديمقراطية والحرية على لسان احد المحتلين او احد أتباعهم، فانه يتقزز منها، كما يتقزز الانسان عند مروره بجانب جيفة.
   وعليه نرى ان مكان الشعوب الضعيفة لا يمكن ان تكون في خندق المعتدين المتعسفين الناهبين لخيرات العالم، بل في الخندق المقابل تماما، كما كانت منذ الثورات الاولى في الربع الأول من القرن العشرين وحتى سقوط الاتحاد السوفييتي. غير ان هذا الكلام قد يحتاج يوما مقالا خاصا به، قد يكون عنوانه: ما بعد العولمة، او النظام العالمي الجديد الحقيقي. لأن مثل هذا النظام الجديد يمكنه ان يحقق ثورة حقيقية تسيرها قوانين العالمية نحو التحقق.


ليست هناك تعليقات:

تنويه من المحرر

تنويه من المحرر
وجهات نظر موقع شخصي تماماً لا يمثل أي جهة أو حزب أو منظمة، ولا ينتمي إلا للعراق وأمته العربية والإسلامية، وهو محمي بالقانون وبميثاق الشرف الصحفي ولايسمح بإعادة النشر إلا بشرط ذكر المصدر.. الكتاب يتحملون مسؤولية مقالاتهم، والناشر غير مسؤول عنها..