نواف شاذل طاقة
يقول الروائي الكولومبي الشهير غابريل غارسيا ماركيز في رائعته ((مائة عام من العزلة)) أن أهالي مدينة ماكوندو دُهشوا بالاختراعات العلمية التي بدأت تهطل عليهم كالمطر يوميا من دخول الكهرباء إلى مدينتهم حتى وصول القطار إليها، لكن أكثر ما أدهشهم كان رؤية الأفلام المتحركة.
ويصف الكاتب كيف انفق أهالي ماكوندو الفقراء آخر قرش لديهم لمتابعة تلك الأفلام التي عرضتها سينما المدينة، وذرفوا "دموعاً سخينة" بعد أن شاهدوا نهاية مأساوية لبطل أحبوه في أحد تلك الأفلام.
غير أن أشد ما أغضبهم هو مشاهدتهم للبطل عينه وهو يظهر في فيلم جديد بشخصية رجل آخر.
لقد اعتبر أهالي المدينة أن ظهور الممثل بدور مختلف يمثل إهانة كبيرة لهم فقرروا الاحتجاج، وثاروا فحطموا مقاعد السينما، ولم يهدأ لهم بال إلا بعد أن شرح لهم رئيس بلدية المدينة إن السينما ما هي "إلاّ آلة أوهام لا تستحق كل هذا الاندفاع العاطفي من الجمهور"، حينئذ، قرر أهالي ماكوندو أن يقاطعوا الأفلام وألا تطأ أقدامهم تلك السينما مرة أخرى، لأن "لديهم من الأحزان ما يكفيهم" ولا حاجة لهم أن يبكوا آلام الآخرين الوهمية.
تعيد هذه الحكاية إلى الاذهان ما ادهش العراقيين خلال السنوات العشر الماضية من هبوط مفاجئ للديمقراطية عليهم بالطائرات والمروحيات والمظلات الأجنبية، على نحو يشبه تماما تلك الاكتشافات العلمية التي شاهدها أهالي ماكوندو وأفلام الخيال التي سخرت منهم!
وهكذا توجه الكثير من العراقيين إلى دور العرض حيث وضعت صناديق الاقتراع لاختيار "ممثليهم" الذين جاءت بهم قوات الاحتلال، فلم يذرفوا الدموع فحسب، بل نزفوا آخر قطرة من دمائهم لضمان فوز أولئك الممثلين في تلك الانتخابات.
وسرعان ما اكتشف المقترعون أن أولئك المنتخبين لم يكونوا سوى شخصيات وهمية مستعدة لتمثيل الأدوار التي عهدت إليهم لإدخال المتعة إلى نفوس الجمهور، أو لذرف الدموع، أو، في أغلب الأحيان، للضحك على الجمهور وخداعهم.
وفيما بدت أحابيل اللصوص والسحرة والدجالين مفضوحة للكثير من العراقيين بعد هذه السنين العجاف التي مرت عليهم، فإن فضائح الأسابيع القليلة الماضية كانت أكثرها دهشة وإهانة.
لقد اكتشف العراقيون أن قادتهم من عرب وأكراد تقاسموا ما لا يملكون، فوهب، رئيس الوزراء مدينة الموصل إلى سياسيين أكراد مقابل تنازل هؤلاء عن مطالبتهم بمدينة كركوك. وعلم العراقيون أيضا، بالتفاصيل والأرقام، حجم الأموال المسروقة منهم والرشاوى التي دفعت من ثروة أبنائهم لشراء السلاح الفاسد، والغذاء العفن، والأدوية المغشوشة، فيما ذُهل الطيبون عندما سمعوا بالمدى الذي وصلت إليه خسة أجهزة الأمن في بلادهم بعد أن سمعوا بحالات الاغتصاب التي تتعرض لها عراقيات في سجون المنطقة الخضراء.
وكان لأفلام التشويق والإثارة نصيب وافر خلال العقد الأخير، حيث شاهد المتفرجون الممثلين وهم يؤدون أدوار عصابات الجريمة المنظمة المرتبطة بالسياسيين الفاسدين، إذ سُرقت بنوك في وضع النهار فذُهل الجمهور لرؤية الدماء وهي تسيل أمام أبواب المصارف، وهرب الوزراء والمسؤولون بحقائب ملأى بالدولارات إلى عواصم العالم على مرأى ومسمع المتفرجين البسطاء.
وكما يحدث في أفلام هوليود، فقد ألقي القبض على أبرياء وألصقت بهم تهم السرقة والقتل، فيما لاذ الكبار بالمال أمام أنظار المشاهدين المندهشين. كما انتقلت الكاميرات بالمشاهدين المبهورين إلى عواصم العالم ليروا القصور الفارهة التي اشتراها ممثلوهم في عواصم العالم، بينما أظهرت أفلام أخرى الممثلين أنفسهم وهم يبكون حزنا على الفقراء ويلعنون الظلم والظالمين أمام شاشات التلفزيون، حتى اجهش الجمهور الطيب بالبكاء.
ولم تقتصر أفلام الخيال التي شاهدها العراقيون على الضحك والبكاء والتشويق، بل شملت أفلاما حربية علا خلالها صراخ الممثلين من جميع الأطراف، فأقسم أحد الأبطال بأغلظ الايمان، كما كان يفعل دون كيشوت تماما، بأنه سيقطع أوصال خصمه إربا إربا، فيما ارتدى ممثل آخر بدلة القتال وظهر أمام الشاشات بخوذته العسكرية وكأنه نابليون شاهرا مدافعه ومهددا بشن حرب كونية على خصمه.
وهاج الجمهور بين مندفع وراء هذا ومندد بذاك، ولم يدر بخلد الجميع أن أولئك ليسوا إلا ممثلين يؤدون أدوارهم، وأنهم، وإنْ كانوا في الحياة الواقعية يتسيدون على شعب مقهور فوق أرض منتهكة السيادة، إلاّ أنهم غير قادرين على سحق نملة أجنبية.
لقد خُدع العراقيون خلال السنوات العشر العجاف الماضية بما فيه الكفاية، وذرفوا من الدموع ما يروى صحارى العالم برمتها، وأنفقوا كل ما يملكون لرؤية أفلام لم تجلب لهم سوى الشقاء والموت، وشاهدوا من الممثلين، الذين بدلوا أدوارهم في أكثر من دورة انتخابية، ما لم يشاهدوه طيلة حياتهم، لكن السؤال يبقى حائرا:
هل سيفعل العراقيون ما فعله أهالي مدينة ماكوندو؟
وهل سيعلنون عن غضبهم ويحطمون المقاعد ويقسمون ألاّ تطأ أقدامهم مرة أخرى دار السينما تلك التي دفعوا فيها كل ما يملكون؟
أم سيواصلون ذرف الدموع السخية على قصص وهمية؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق