وجدي أنور مردان
كل شيء في العراق الديمقراطي الفدرالي اليوم مشوَّه. الحكم، الدستور، القيم، القانون، الاخلاق، المبادئ، الديمقراطية ،السياسة وحتى ملامح الناس باتت مشوهة، بحيث أصبحت حرية السرقة والتزوير والكذب والدجل وتجارة الدين واغتصاب الرجال والنساء وتعذيب الابرياء سلوكيات وممارسات منهجية وباتت من ابرز سمات الحكم الجائر وعلامة بارزة لعصر الانحطاط والانكسار والفساد.
سوَّق المحتلون الامريكان بضاعة (الديمقراطية) بعد إفتضاح وإنكشاف أكاذيبهم وإدعاءاتهم حول أسلحة الدمار الشامل وسقوط المبررات الواهية التي مهَّدت لغزو العراق واحتلاله عام 2003، فأتكأ الفاسد على الفاسدين ليفسدوا المجتمع برمته الا من رحم ربي.
وظَّفت أمريكا في تسويقها للديمقراطية المزيفة والمحاصصة المقيتة، شلة من السياسيين منزوعي النخوة والغيرة، والذين تم تدريبهم في أروقة المخابرات الغربية والامريكية والايرانية، فبارت البضاعة الامريكية وفسد وبان معدن اللصوص وخونة الوطن حال تنصيبهم في مواقع السلطة ففضلوا مصالحهم الخاصة والاثراء الشخصي التي اصبحت الهدف الاسمى للطبقة السياسية الحاكمة والطبقة التي تدور في هامش السلطة، فتفشى الفساد والرذيلة وضعفت الدولة وتفككت مؤسساتها، وتفاقمت الازمات والمشاكل، فوقعت أمريكا والعصابات التي سلمتها مقاليد السلطة في أزمة الحكم الخانقة في العراق الجديد، الى أن وصل الامر أن تلد الازمة سلسلة من الازمات، وهكذا مسخت الديمقراطية وتشوه كل شيء حتى وجه العراق الناصع، الى الحد الذي جعلوا العراقي المشرد على مساحة الكرة الارضية يستحي أن يقول أنا عراقي!
فالديموقراطية في العراق، من بين أمور أخرى، أصيبت بنكسة مروعة وجرى تدميرها إما من فوق، على يد سلطة طائفية مستبدة وحاقدة بإمتياز، أو من تحت، عن طريق نشر الفوضى والفساد والعنف والحوار بكواتم الصوت والعبوات اللاصقة.
كدست الاحزاب الرئيسة العاملة في الساحة العراقية وفق المحاصصة البريمرية الوسائل الاقتصادية والسياسية لفرض اختيارها وتنفيذ الاجندات الاجنبية، فجيَّشت المواطنين وشجعتهم على تلوين اصابعهم باللون البنفسجي، وخدعتهم بأنهم يمارسون حقهم القانوني بموجب قواعد اللعبة الديمقراطية.
وبعد أن حصلت الاحزاب، الدائرة في فلك الاحتلال ومصالحه، على مبتغاها، ووصل من اختارتهم أمريكا وإيران للجلوس تحت قبة البرلمان ومواقع السلطة، حارب بعضهم بعضا من أجل الاستحواذ على أكبر حصة ممكنة من الكعكة العراقية اللذيذة، فضعفت الدولة وفشلت، وفقد القانون هيبته وأزيح لكي يسود قانون الغاب والقوة. وبعد إنكشاف اللعبة فقد الناخبون الاحساس بأنهم ممثلون حقا، أصيب العراقيون بإحباط شديد، وللتغلب على هذا الاحباط ولإشغال المواطنين السذج وإبعادهم عن همومهم الحياتية والمعيشية والامنية أدخل الشعب المغلوب على أمره في دهاليز التغييب وسلب العقل وتحقير الذات.
هل أن الواقع السياسي العراقي الان مغاير تماماً للنموذج الذي أرادت أمريكا فرضه على العراق وفق مفهموم الديموقراطية الصحيح ؟ أم أنها فعلا أرادت تثبيت هذا النموذج المتخلف المضطرب من أجل الإمعان في تدمير العراق وتفكيك نسيجه الاجتماعي وسلخ هويته العربية والاسلامية؟
الجواب على هذين السؤالين واضح، والواضح لايحتاج الى توضيح.
ما الذي دعا المواطنين الى الزحف للمرة الثانية نحو صناديق الاقتراع وحمايتها بعد أن تبين لهم أن الديمقراطية المزيفة التي يروَّج لها في العراق اليوم ما هي إلا مجرد مجموعة من الاوراق رميت في صناديق وَرَدَ قسم كبير منها من خارج الحدود وهي مملوءة بالاوراق الانتخابية، حسب ما أقرت بع جريدة نيويورك تايمز؟
ألم يسمع العراقيون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لايلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين). فقد لدغتم مرتين وإنتم الان تستعدون للدغكم للمرة الثالثة!!!!
ألسنا نرى أن المؤسسات التي يدعونها بالديمقراطية فقدت كل جدوى ومصداقية، بل أن الديمقراطية نفسها بدت لعبة زائفة وتحولت الى أداة نفوذ لتمشية المصالح أجنبية وقبض الكومشنات وبيع العراق في سوق الخردة؟
يعيش العراق اليوم عهداً هو الأكثر ظلاما وظلما وفسادا وانحطاطا على مر العصور. لقد كان العقد الماضي مرحلة تمهيد لمشروع الدولة الطائفية، وبعد الانتخابات التشريعة القادمة عام 2014 سيدخل المشروع مرحلة التنفيذ. وما كشفه السيد فخري كريم من المستور ماهو الا جزء يسير من هذا المشروع الامريكي الايراني الصهيوني، وأصبح الامر واضحا للعراقيين إن النظام المتخلف الحاكم ينجرف أكثر فاكثر نحو ترسيخ الحكم الطائفي المطلق وربما الاندماج الكامل مع آل ساسان!
يتوهم أشقاؤنا في أقطار الخليج العربي إن أعتقدوا بأن أمريكا لاتسعى الى تنفيذ مشروع الدويلات الطائفية في المنطقة، فالعراق بداية المشروع وهم النهاية.
هل سأل المثقفون العراقيون أنفسهم: لماذا هبَّ المالكي وأرسل قوات دجلة الى طوزخورماتو بعد أن قتل شخص واحد وجرح 11 آخرين في هذه المدينة؟ لماذا لايتحرك بمثل هذه الحمية عندما يقتل العشرات في ديالى أو الفلوجة أو الانبار أو الموصل؟
لاشك أنه لم ينتفض من أجل كركوك أو ( المناطق المتنازع عليها) كما جاء في دستور بريمر أو (المناطق المختلطة) كما وصفها المالكي أو كما يروِّج لها الاكراد الآن بأنها (المناطق المستقطعة من إقليم كردستان) وأخشى أن ينبري أحد المتحذلقين ويصفها بـ (المناطق المحتلة)..!!! إن سبب اندفاع وتحرك المالكي نحو طوزخورماتو هو لسبب طائفي بحت!!!!
إذا كنا نريد إقامة ديمقراطية حقيقية في عراقنا المنكوب ينبغي علينا أن نجابه كل الذين جعلوا أنفسهم عبيداً للمحتلين وأسرى التعصب الطائفي الأعمى بكل أشكالها ومضامينها وذلك بتفعيل النضال السياسي والمقاومة بكل الوسائل المتاحة لتخليص العراق من هذه الآفة القاتلة التي تخفي وجهها الحقيقي ببراقع المساهمة والمداولة والمشاركة في العملية السياسية المشبوهة وتغلف كل ذلك بأوراق ملون شكلية وزائفة بمسمى الديمقراطية والالتزام ببنود الدستور!
إننا بحاجة الى ديمقراطية تحررية حقيقية يكون للشعب الكلمة الفصل في حياته ومستقبله ومستقبل أبنائه. فلم يعد بوسعنا أن نتصور ديمقراطية ليست تعددية بالمعنى الشامل للمصطلح، ولايمكن أن يقبل العراقيون بعد الان ان تفرض عليهم معتقدات وقيم لاتتوافق مع آمال سكان في غاية التنوع، ولايسع أية حكومة قادمة أن تفرض عليهم مفهوما أو منهجا مغلقا أحادي التفسير للدين والحياة والسياسة والاقتصاد، لأن فرضها يتناقض مع المفهوم الصحيح للديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
إن حرية الرأي والاعتقاد والاجتماع والتنظيم أساسية بالنسبة للديمقراطية بل جوهرها، وأن الشأن الاكبر للديمقراطية هو أن تحمي التنوع وتنتجه داخل ثقافة جماهيرية وطنية، تدافع عن مصالح المجتمع وثرواته وتحمي استقلال الوطن وسيادته.
أما في هذا الوقت المظلم فإن النظام الطائفي الحاكم في العراق يشن أعنف هجوم على الديمقراطية باسم الطائفة والمظلومية من خلال قانون ظالم، مثل مادة (4 ارهاب)، لتلصق تهمة الارهاب على الابرياء نساءً ورجالاً وشيوخا وأطفالاً، حتى غدا العراق أكبر سجن تعذيب وهدر الكرامة الانسانية في العالم.
يرى العالم ويسمع، الافعال الشنيعة التي تمارسها أجهزة الدولة الفاشلة، بحيث جعلت إغتصاب النساء والاطفال والرجال منهجا وسلوكا ثابتاً ومعتاداً من أجل إثبات نظرية بائسة تفيد بإن زيادة الظلم والجور والفساد يمهد لتأسيس حكم الخير والسلام والامان والسعادة!!
ويتعمد هذا الحكم الجائر في الوقت نفسه تقطيع أوصال العراق وتفكيك الروابط الاسرية التي يعيش فيه منذ قرون. لقد شرد الاف الاسر والافراد وتم الاستيلاء على مساكنهم واراضيهم تحت تهديد السلاح أو الذبح كالنعاج وهجَّر قسرا مئات الالاف من خيرة ابناء العراق وعقوله بهدف تفريغه من البناة والكفاءات، كل ذلك من أجل تنفيذ مشروع إقامة دولة متجانسة مذهبيا أو طائفيا.
لقد آن الاوان على الامم المتحدة أزاء هذه الحالة الماساوية، أن ترمي بثقلها وتستنكر هذه الجرائم وتشكل لجنة من مفوضية حقوق الانسان لتقصي الحقائق وزيارة السجون السرية والعلنية وإجراء مقابلات مع السجناء الذين يعذبون ليل نهار تحت حجج واهية وتهم كيدية ، وينبغي عليها كذلك ان تعتبر التطهير الطائفي شكلا من أشكال التطهير العرقي وجريمة ضد الانسانية يحاكم مرتكبيها أمام المحكمة الجنائية الدولية. فإن لم تفعل ذلك فعندها ستغدو شريكة في جريمة العصر هذه.
لقد تشظى الشعب العراقي بعد عام 2003 وانتشرت بينه ثقافات غريبة عنه.
إن ثقافة الحقد تدمر ولا تبني، وإن تشكيل سلطات طائفية هو نهج معادي للديمقراطية يقود الى الانغلاق، ويغدو المجتمع السياسي، تبعاً لذلك، سوقاً للصفقات التي تسوىَ بشكل غامض بين طوائف ومكونات منغلقة بحجة الدفاع عن هويتها وتجانسها ومصالحها وحصتها من الكعكة السياسية، ويؤدي بالنتيجة الى نشوء دولة استبدادية ترمي أكثر فاكثر الى منح نفسها شرعية طائفية وحزبية لاشرعية وطنية جماهيرية تنصهر في بوتقة الوطن مع جميع مكوناته واطيافه.
إن سحب الحاضر والمستقبل لتشكيله وفق إطار الماضي السحيق لايمكن أن يؤسس وطناً منسجماً مع ذاته، ولاينسجم مع عقلية وثقافة القرن الواحد والعشرين.
إن العقلية التي تتحدث عن المظالم في العهود السابقة (!) أصبحت مصدر ظلم فاحش نابع عن حقد دفين لكل ماهو مخالف لها.
فالمجتمع الديمقراطي يقوم على اساس التوفيق بين حرية الافراد واحترام الاخر مع التنظيم القانوني والعقلاني للحياة الاجتماعية، عن طريق تكافل الفرص وقوانين الادارة العامة والخاصة، وليس على اساس الروح المنغلقة وفرض حرية ممارسة شعائر متخلفة على الآخرين، لأن مثل هذه المبادئ لاتبني الديمقراطية، والسياسات القائمة على الانغلاق والجمود والانقياد لمتخلفين، عقلياً وسلوكياً ويقيناً لاتبني مجتمعا متكافلا متراصاً، بل تخلق سوقاً سياسية مفتوحة على كل الاحتمالات.
فالذين تقودهم مصالحهم الخاصة وتوجههم المصالح الاجنبية لا يدافعون عن مصلحة المجتمع العراقي بشكل عام والوطن العراقي بشكل خاص، لانهم يفضلون في الغالب نهب أكبر قدر ممكن من المال العام وتنفيذ الاجندات والاستراتيجيات الاجنبية دون أن يأخذوا أمر الدفاع عن مصالح الشعب العراقي ووحدة أراضيه وهويته العربية والاسلامية على محمل الجد، والامثلة على ما نقول كثيرة، من خلال تجاوزات دول الجوار وتأسيس الشركات الوهمية لنهب المال العام، وتوقيع العقود لشراء أسلحة قديمة وفاسدة أو بضائع غير صالحة للاستهلاك البشري لقاء عمولات ورشاوي.
لايمكن للديمقراطية أن تسود المجتمع ما لم تؤمن الطبقة السياسية بالمبادئ الاساسية التي تقوم عليها الديمقراطية، وتكون وطنية حرةً تملك قرارها السياسي المستقل، ومصممة على بناء المؤسسات وبسط سلطة القانون وتحقيق السلم الاجتماعي. فالديمقراطية ترفض استحواذ الهوية التي تحبس كل فرد داخل طائفته، ولاتختصر الحياة الاجتماعية في ظلها على مجال التعازي والنواح والبكاء واللطم أو تكفير الاخرين، والايمان بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة، أما الاخر فهو في ضلال وكفر.
إن الاستعانة بالطائفية (بضفتيها) تدمر الوطن، وكلما دعمت السلطة السياسية وروجت لثقافة طائفة بعينها كلما مهدت السبيل الى ظهور ثقافة طائفية مقابلة مضادة، وبالتالي يكون الطريق سالكا لإقامة ديكتاتورية طائفية أو اندلاع حرب أهلية لاتبقي ولاتذر.
وتأسيسا على ما تقدم ينبغي على الفكر الديمقراطي الوطني التعددي في هذه الحالة أن يحبط هذا التوجه المدمر للوطن والمواطن، ويفشل مشروع الدولة أو الدويلات الطائفية المخطط لها أمريكياً وإيرانياً وصهيونياً، وقد اصبح لزاماً علينا نحن العراقيون مقاومة أية كتلة أو حزب سياسي/ يهدف الى تأسيس وترسيخ نظام طائفي استبدادي، مقاومة فعالة وبكل السبل للحفاظ على وحدة شعب العراق وارضه وهويته، وينبغي أن لايصوِّت العراقيون لهؤلاء الشراذم من اللصوص والفاسدين والمجرمين والفاشلين، في الانتخابات القادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق