وجهات نظر
القس لوسيان جميل
يحكى ان احد الممثلين
المشهورين في فرنسا زار احد الأساقفة هناك، زيارة ودية، او زيارة صداقة كما
يقولون. وقد كان الأسقف هذا معجبا بالممثل المشهور، على ما يبدو. وبينما كان
الصديقان يتناقشان في بعض المسائل الدينية، وربما كان النقاش يدور حول فلم ديني
ناجح، سأل الأسقف صديقه وضيفه الفنان قائلا له متعجبا: يا صديقي اني محتار في
امركم انتم الفنانين! فأنا حين اقارن بين خطابنا الديني الكنسي وبين خطابكم الذي
تعرضونه في افلامكم وتمثيلياتكم، ارى انكم تنجحون احسن منا مع الجماهير. فما
نلاحظه هو انكم تستقطبون اناسا كثيرين لمشاهدة افلامكم وتمثيلياتكم، بينما نحن لا
نستطيع ان نجمع الا قلة قليلة من الناس لسماعنا، مع اننا، نحن رجال الدين، نعظ
بأمور حقيقية، في حين انكم تقدمون للناس مشاهد غير حقيقية.
المدخل:
عزيزي
القارئ! قبل ان ادخل في صلب الموضوع، اود ان الفت نظر حضرتك الى ان ما سأقدمه في
هذا المقال لن يكون وعظا لأي من رجال الدين، وذلك لأن المنابر التي أكتب فيها ليست
مختصة بأمور الدين ورجاله، من اي دين كانوا، الا بقدر ما يتدخلون في شؤون ليست لهم
الكفاءة عليها. ومع ذلك لا احد يمنع اي رجل دين من ان يستفيد، اذا احب، من تساؤل
الأسقف اياه ومن نباهة الفنان وجوابه الذكي والمجامل في الوقت عينه، او يستفيد من موضوع
المقال نفسه, سواء كان ذلك في أمور تعود الى الدين او تعود الى جوانب كثيرة من
جوانب الحياة الانسانية والاجتماعية، وحتى السياسية منها، لاسيما وأننا لا نلجأ
احيانا الى نصوص وعبر دينية مسيحية الا لكوننا ادرى بهذه النصوص والعبر من غيرها،
هذه النصوص التي تسمح لنا بكثير من الحرية في مجال التأوين والتأويل والابتعاد عن
حرفية النصوص والالتزام بالتأويل البنيوي العلمي للنصوص، بحيث نعطي لكل بعد من
الأبعاد قيمته الحقيقية ومكانته في المنظومة الواحدة.
رأينا في كلام الأسقف
والفنان: اما من جانبنا فنرى، مع كل من ذوي الشأن الفني او الديني، بأن الأداء له
اهميته الكبيرة في جميع المجالات، لا بل ان الأداء هو بذاته فن، على الواعظ وعلى
اي صاحب دعوة انسانية أو روحية ان يتعلمه، لكي يكون وعظه ناجحا، وتكون دعوته ذات
اثر طيب في النفوس. غير اننا لا يمكننا ان نؤيد الفنان اياه بخصوص اسباب نجاح او
اخفاق رجل الدين والفنان، وذلك لأننا نعرف ان نجاح الفنان، مثل نجاح رجل الدين، لا
يتوقف بشكل كامل على الأداء، بل يتوقف على عدة شروط، على اي فنان وعلى اي رجل دين
وعلى صاحب اية رسالة ان يحققها، لكي يكون عملهم ناجحا، كما تقول بذلك اية نظرة
بنيوية انثروبولوجية وعلمية.
شروط نجاح البلاغات:
وفي الحقيقة يتوقف نجاح اي عمل فني او ديني على عدة شروط وعوامل بنيوية تعمل مع
بعضها في تحقيق اي نجاح يحصل عليه الفنان والأسقف. من هذه الشروط يمكننا ان نذكر
الأداء الجيد، هذا الأداء الذي قال به الفنان صديق الأسقف. غير ان الأداء الجيد
وحده لا يكفي ابدا لنجاح مهمة نقل اية بشرى الى الآخرين، ولاسيما ان مثل هذه
المهمة مهمة بنيوية يجب ان يسودها التكامل وتتحكم فيها مركزية التنسيق. وعليه نرى
ان المادة المقدمة للآخرين تمثل العامل الأول للنجاح، في هذه المنظومة البنيوية
التي تعتمد على البشرى الحسنة في نجاحها، على ان تكون هذه البشرى بشرى حقيقية
وتكون بشرى مغرية وسهلة التطبيق ولا تقع في مجال الغيبيات، وفوق هذا وذاك على هذه
المادة البشرى ان تكون متطابقة مع " حاجات " الانسان العميقة. وبما اننا
نتكلم عن حقائق بنيوية يمكننا ايضا ان نؤكد بأن هناك علاقة مهمة بين الأداء وبين
المادة المقدمة، حيث تشجع المادة المقدمة الفنان ورجل الدين في أدائهما. كما يؤدي
الأداء الجيد الى ان تكون المادة المقدمة اكثر اشراقا.
لا ننسى العوامل
الشخصية:
غير اننا، ان نسينا لا يجوز لنا ان ننسى عامل الايمان الشخصي، في
المجالين الفني والديني على السواء، وكذلك في المجالات الاجتماعية، بما فيها
المجالات السياسية. ففي الواقع نحن نعرف ان الفن والدين كليهما، ليسا مسألة
عقلانية موضوعية، وإنما هما مسألة وجدانية انثروبولوجية، الأمر الذي يجعل ان تكون
خيارات الفنانين وخيارات رجال الدين وخيارات السياسيين خيارات متماثلـة، فيها أمور
مشتركة وفيها امور مختلفة. وعليه لا يصح ان يكون اي تبشير مجرد " نقل معلومة
"، وإنما عليه ان يكون نقل حقائق وجدانية لا تقع تحت الحواس المعروفة مباشرة،
حيث ينقل الانسان الى الآخرين ما يكون هو نفسه قد اكتشفه بذاته داخليا ( سقراط )
وعاش بموجبه فعلا، وحيث يتحول هذا الانسان عمليا الى ما يؤمن به، لكي يستطيع ان
ينقل ايمانه الديني او الاجتماعي او الفني الى الآخرين. علما ان هناك علامات
يكتشفها المتلقي عند صاحب البشرى، عندما تكون له بشرى بالحق والحقيقة. اما علامات
الايمان التي يجب ان يجدها متلقي البشرى عند حاملها فهي الايمان والرجاء والمحبة،
فضلا عن استعداد المبشر والمتلقي لقبول الألم والمضايقات والاضطهاد، ليس عن تعصب
لمبدأ او لمكسب، وإنما عن محبة الخير المجانية، بعيدا عن اية مصلحة خاصة، او حتى
عن اية مصلحة حزبية، سواء كانت مصلحة طائفية ام مصلحة عشائرية ام مصلحة قومية
انفصالية.
وعموما يمكننا ان
نقول بأنه كلما تألم الانسان المبشر في سبيل البشرى التي يقدمها، فانه يزيد من
مصداقية هذه البشرى بشكل طردي، كما يزيد من نجاح البشرى تحمس المتلقي لقبول
البشرى: طوبى للجياع والعطشى الى البر فان لهم ملكوت السمات ( من الانجيل ). فشعور
الناس بأهمية البشرى المقدمة لهم امر ضروري لنجاح اية بشرى وجدانية.
بعض الشروط الأخرى:
اما هذا الكلام اعلاه فيعني ايضا ان تكون البشرى بشرى حقيقية وغير مزيفة ولا
مضللة، لكي يستطيع المتقبل ان يستقبلها بفرح وحماس. كما يجب ان تكون هذه البشرى
واضحة وعملية ويمكن ادراكها بسهولة، وأن لا تكون بشرى بديلة مبنية على تعصب
للعقيدة، كما يجب ان تتحلى هذه البشرى باحترام ومحبة المبشر والمتلقي للبشرى على
حد سواء، هذا الاحترام وهذه المحبة اللذين يجب ان يكونا باديين للعيان قولا وعملا،
وان لا تفرض البشرى على المتقبل بأية قوة كانت، كالوعد والوعيد، بكل اشكالهما، ذلك
لأن اية بشرى تملك بذاتها قوتها الخاصة الداخلية الطبيعية، عندما تكون حاجة
انثروبولوجية عميقة، يحبها متلقي البشرى ذاتيا ويتلقاها بحرية، كما يقول الفيلسوف
اليوناني سقراط.
برهاننا:
أما برهاننا
فيستند الى مبدأ انثروبولوجي يقول بأن " الحاجة " تسبب اي تحرك عند
الانسان، كما تحرك كل الأحياء الأخرى، لا بل تحرك الجماد نفسه، اذا نظرنا الى
الأمور نظرة تماثلية. اما هذه القاعدة فتعني ببساطة ان الانسان لا يستجيب لدعوةٍ
او لخطابٍ الا اذا شعر هذا الانسان داخليا وذاتيا ( الفيلسوف سقراط ) ان الدعوة
الموجهة اليه تحقق له حاجة انسانية انثروبولوجية اكيدة، حتى لو كان ذلك على المدى
البعيد. اما علم النفس الأنثروبولوجي فيتكلم عن شيء مماثل عندما يقول بأن الانسان
يسعى الى تحقيق ذاته، ابتداء من ( حاجات ) الجسد البيولوجية وانتهاء بالحاجات
الانسانية الروحية العميقة ( عالم النفس ماسلو)، في حين يوضح كلامنا هذا شاعر
فرنسي كلاسيكي هو الشاعر راسين بقوله:ان ما يفهمه الانسان بوضوح يعبر عنه بسهولة.
أما الفهم الواضح هنا، في الأمور الانسانية العميقة، فيبدأ بداخل الانسان كقبول
وجداني وذاتي مريح، مما يساعد المبشر على ان يقدم خطابا ( دعوة ) مفهوما ايضا، كما
يساعد المتلقي في فهم معاني الخطاب الموجه اليه بسهولة، وأن تأتي اعماله بالتالي
اعمالا منسجمة مع متطلبات الدعوة الانسانية الموجهة اليه.
حذار من السعي الى
الجماهيرية:
وبما ان هذا الفهم الداخلي الذاتي الوجداني يزيد وينقص حسب استعدادات
البشر العائدة الى الوراثة والبيئة والمجهود الشخصي، فان البشر لن يستجيبوا لدعوة
الدعاة بشكل متساو، حتى لو تحققت كل سبل النجاح الموضوعية. وعليه فإننا قد نجد
بشرا لا ينفعلون امام بعض البشارات بشكل يكاد يكون كاملا، حتى يصح المثل الدارج
الذي يقول:" اش علم البزونة على اكل النعناع، اي من علم القطة على اكل
النعناع، او انهم ينفعلون امام البشرى بدرجات متفاوتة. علما ان هناك كثيرا من
البشارات، في كثير من المجالات ترتبط بحالة المتلقي الشخصية والحضارية، كما ترتبط
بالزمن ارتباطا شديدا، ولذلك فان هذه البشارات لا تعمل عملها الا ببطء شديد،
وأحيانا كثيرة تتخلل عملية هذه البشارات نكسات ونهوض جديد: انه سر الانسان حقا.
وعليه نرى انه لا يحق
لأي حامل للبشرى ان يتشكى من قلة اقبال الجماهير اليه، ولاسيما عندما يعرف هذا
المبشر انه يبشر بأمور انسانية عميقة، وأن هذه الأمور العميقة لا يستسيغها جميع
الناس بقدر متساو، في حين يمكن ان يلقى فنان جيد منصتين ومشاهدين كثر، نظرا لطبيعة
المادة التي يقدمها هذا الفنان للجماهير، وأيضا نظرا لإمكانية وصول خطاب الفنان
بسهولة اكبر الى المتلقين، مما يجعل ان يكون للفنانين جمهور اوسع من جمهور الأسقف
المذكور، ومن جمهور غالبية المبشرين بقضايا انسانية وروحية عميقة، مع انه قد ثبت
بأن ليس كل الفنانين يحصلون على جمهور واسع. فإذا كان هذا هو شأن الفنانين، فكم
بالأحرى يكون طبيعيا بأن لا يحضا اغلب رجال الدين بجمهور واسع، حيث يكون لكل مبشر
نقطة او نقاط ضعفه الخاص به، هذا الضعف الذي يحدد نجاح اي حامل للبشرى، في كل
مجالات الحياة، كما يحدد اقبال المتلقي على حامل البشرى.
اسئلة موجهة للأسقف:
ومن هنا نسأل الأسقف الذي كان يتشكى من كونه لا يملك جمهورا واسعا، ونسأل
عبره كل مبشر يشتكي من نقص في الجماهيرية قائلين للجميع: ترى هل انتم متأكدون من
انكم لا تقدمون للناس غير الحقيقة، بعيدا عن الغيبية والعقيدانية والمصلحة
الذاتية، ام انكم غالبا ما تقدمون للناس تعليما أكل عليه الدهر وشرب ظانين انكم
تقدمون لهم الايمان؟ وهل انتم متأكدون بأنكم تؤمنون بما تقولونه للناس، وبأنكم
مستعدون ان تغامروا بمصالح ذاتية كثيرة من اجل ما تؤمنون به، وبأنكم تتألمون في
سبيل ما تؤمنون به قولا وعملا، وأنكم تكملون
كل شروط النجاح الأخرى التي تكلمنا عنها أعلاه؟
فإذا كان جوابكم بالإيجاب نقول لكم بكل بساطة أن لا تقلقوا، فالأنبياء ايضا لم
يكن لهم جمهور واسع، وكانوا مضطهدين، عندما كانوا على قيد الحياة الأرضية، الأمر
الذي يعني بأنكم في الطريق الصحيح. غير اننا, ونظرا لخبرتنا الخاصة في هذا المجال،
نعرف جيدا ان القلة القليلة من كل من نخاطبهم هنا تريد ان تعترف بأنها بعيدة عن
الشروط المطلوبة لأي عمل انساني ناجح. ولذلك نعود ونسأل الجميع مرة أخرى ونقول:
اذا اردتم يا سادة ان تعرفوا حقيقة نجاحكم من عدمه، فما عليكم سوى ان تسألوا
انفسكم وتقولوا: ترى هل تمكنا حقا من ان نجمع من حولنا" نخبة " تقدمية
متنورة قادرة بدورها على ان تغير وجه الكنيسة ووجه المجتمع والعالم، ام اننا لا
نعرف ان نجمع في الحظيرة سوى اناس تقليديين وكسالى واتكاليين، يجترون تعاليم
الكنيسة وعقائدها بدون ان يفهموا منها شيئا، حيث يكون الراعي والرعية مثل اعمى
يقود اعمى فيسقط كلاهما في حفرة. علما بأن هذا الكلام تماثلي وأنه يشمل كل الدعاة
دون تمييز بين دين وآخر وبين مذهب وآخر وبين رسالة وأخرى، سواء كانت رسالة سماوية
ام بشرية. ومن هنا يكون على اي داع في المجالات الانسانية الوجدانية العميقة ان
يعرف ويفهم قواعد الخلاص الجدلي ( الديالكتيكي ) الذي لا يسير الا ببطء شديد،
والذي يصاحبه الم النضال من اجل الحق، مع تأكيدنا على حقيقة ان الفنانين الناجحين
عرفوا قاعدة النجاح هذه وخضعوا لها، حتى وان كانت الدعوة الانسانية التي يقدمها
الفنان للناس دعوة لا تضاهي دعوة رجل الدين، في حين نعرف ان اي بهلوان يستطيع ان
يجمع من حوله جماهير
كثيرة، بمجرد ان ينفخ فيها حمية قومية او طائفية ويدعو الى كراهية او مقاتلة اعداء
وهميين او حقيقيين، او يقدم للناس فكاهات فارغة.
وحذار من البدائل
ايضا:
بما ان شروط النجاح الروحي والإنساني صعبة وشاقة على المبشر وعلى المتلقي
للبشارة في آن معا، فغالبا ما نلاحظ ان المبشرين والدعاة يكتفون ببدائل لا تكلف
الدعاة غير خطاب امام مكبرة الصوت او مقال في مجلة، ورقية كانت ام الكترونية، كما
لا تكلف المتلقي للبشارة غير تأدية بعض شعائر العبادة والتمسك ببعض الوصايا التي
قد تأتي من نص ديني او من توجيه تقوم به المؤسسة الدينية، كما يحلو لها. اما ان
يجاهد الانسان من اجل تحقيق ذاته الانسانية، من خلال تمسكه بالحقيقة والخير
والجمال، على الرغم من كل الصعوبات، فغالبا ما نراه مفقودا، نظرا لصعوبة مثل هذا
الجهاد وما يتطلبه من مجهود شاق ومن روحانية عالية. وهكذا تغلبت روحانية البدائل Alibi على اية روحانية أخرى، وصار البديل
غاية عوضا عن ان يكون وسيلة لحياة روحية عميقة، على كافة المستويات الدينية
والاجتماعية الأخرى، الأمر الذي يسمى في مجال علم النفس بالحيل الدفاعية، هذه
الحيل التي تسعى الى طمأنة الناس الذين يفضلون الأمور الهينة السهلة على الأمور
الصعبة.
وهكذا مثلا، صار واجب
الاهتمام بالعالم الآخر بديلا عن واجب الاهتمام بذات الانسان نفسه وتحقيق
مكنوناتها الايجابية، وإظهار مكنوناتها الى الوجود الفعلي. وصار تحقيق الانتماء
الطائفي بديلا للانتماء الديني المقدس والمقدِّس (بكسر الدال). كما صار الانتماء
القومي بديلا للانتماء الانساني الوطني الذي يشمل جميع الناس المنتمين الى الوطن
الواحد. وهكذا ايضا صارت ممارسة الطقوس الدينية بديلا لروحانية تحقيق الذات
المتعبة، فتحول الطقس الديني من وسيلة الى غاية بحد ذاتها، كما حدث ذلك في جميع
الممارسات الدينية البشرية، حيث يتحول الانسان من عمق المشروع الروحي الملقى على
عاتقه الى ضحالة البدائل وضحالة الانسان الذي لا يجد من يرشده الى الأهداف
الانسانية الروحية المقدسة.
اما نتيجة هذا التوجه
السطحي فمعروفة، فمن يزرع متطلبات الايمان يحصد الايمان وسموه، ومن لا يزرع غير
البدائل لا يحصد غير البدائل، وليس اي شيء آخر. لذلك نفهم لماذا تخلى الكثيرون عن
وطنهم لحساب بديل سمي الطائفة والمذهب وسمي احيانا أخرى بحقوق المكونات القومية.
فمن اراد في الواقع،
ان ينجح بسهولة، من خلال بضع وعظات او احتفالات طقسية منظمة وجميلة وبضع توجيهات
اخلاقية، يمكن ان يضيع المشيتين، كما يقال، فلا هو يحصل على نجاح روحي ولا يحضا
بجماهير كثيرة كما يقال، لأن البشر على الرغم من سطحيتهم وعادة اكتفائهم بالبديل،
الا انهم يملكون مشاعر خاصة تجعلهم يحنون الى الأصيل، حتى لو كان مثل هؤلاء البشر
الذين لم تمت عندهم مشاعر الحقيقة والخير والجمال قليلين جدا.
وهكذا نرى ان الطبيعة البشرية الضعيفة
والمستضعفة قد تغري الكثيرين على السير في الطرق السهلة وعلى تجنب الطرق الوعرة
الموحشة بسبب قلة سالكيها (الامام علي بن
ابي طالب رض) فيقدموا في دعوتهم للآخرين اهدافا بديلة ومغرية على اهداف الحياة
الحقيقية الصعبة بحجة ان الشعب لا يستسيغ السير في الطرق المتعبة. فمثل هؤلاء
السطحيين قد ينجحون في مسعاهم، لكن نجاحهم لن يكون سوى خداع وسراب، لأن من يزرع
الضحالة لن يجني سوى الضحالة.
ومن هنا يمكننا ان
نخاطب من يحكم العراق اليوم ونقول لهم: هل تتعجبون اذا فشلتم في مهمتكم، انتم الذي
سلكتم اسهل وأوطئ وأخس السبل التي تؤدي الى استلام دفة الحكم في العراق بدون
تضحيات كثيرة، وسلكتم طريق الميكيافلية التي أباحت لكم تدمير وطنكم وأهله من اجل
تمتعكم بنشوة حكم سياسي زائل؟ فمن زرع منكم الطائفية فلن يجني سوى الطافية وليس
الوطن، ومن زرع القومية لن يحصد غير القومية، في احسن الأحوال، ومن زرع الاحتلال
فلن يجن سوى الاحتلال، هذا اذا لم يجن الجميع ثمارا كثيرة مرة ربما كانت او لم تكن
بالحسبان، اذ هل يجنى من الشوك عنب او من العليق تين؟ (الانجيل).
هناك تعليق واحد:
أرى أن الكلام عن الفنان ورجل الدين في غير محله لأن عمل الفنان يكلف مبالغ طائلة كي يصل للناس في أماكنهم وهو غالبا لا يتحدث عن حقائق بل جل أفلامهم محض خيال، ويتحدث عن أمور تهواها النفس وتشاركه فيها الصورة والإغراء وهذه أمور لحظية تستفز المشاهد ثم لما يغادر الفيلم ليس مطلوب منه عمل أو التزام تجاه آخرته بل لعله أضاعها، بينما رجال الدين على المنابر يحضرهم الملايين كل في مسجده ويؤثرون في الناس حتى أنك لتسمع بكاءهم حتى تظن أن بعضهم فقد عزيزا، ونرى اليوم في عصر الفضائيات الملايين يشاهدون المشايخ على شاشات التلفاز، أو يشدون لهم الرحال لحضور المحاضرات ويتكبدون في ذلك الصعاب، ونراهم بعشرات الآلاف في الأماكن المفتوحة، أظن أن قصة الفنان والراهب محض خيال لا أساس لها وعلى الأقل لا تعنينا نحن المسلمون
والله تعالى أعلى وأعلم.
إرسال تعليق