وجهات نظر
نزار السامرائي
أكدت إحصائية بأرقام ضحايا العنف الذي ضرب العراق خلال شهر تشرين الأول المنصرم، أن عدد القتلى اقترب من 1000 شخص، متجاوزا أرقام العنف الذي أطلَّ بقوة هذا العام، وليفوق كل الأرقام المسجلة منذ عام 2008، حينما كانت القوات الأمريكية تحصد أرواح العراقيين بلا تمييز بين عراقي وآخر، وحينما كانت المليشيات المصنَّعة في إيران تنفذ أكبر عملية تطهير عرقي وطائفي شهدها العراق في تاريخه على الاطلاق وذلك بعد الاحتلال الأمريكي، وبتأييد مؤكد من القوات الأمريكية، التي أرادت إشغال العراقيين مع بعضهم في حرب أهلية تجعل قوات الاحتلال في حالة استرخاء أمني وتتيح الفرصة لوضع مخطط نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن لتقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات أو دويلات أمرا ممكنا بل ومطلوبا من قبل فعاليات سياسية بدأت تسوق لقبول فكرة التقسيم باعتبارها سفينة النجاة التي ستبحر بالعراقيين إلى شاطئ الاستقرار والأمان من دون عواصف سياسية أو أعاصير طائفية وعرقية.
كانت حكومة نوري المالكي في الولايتين اللتين حكم فيهما، ومعها التحالف الشيعي الحاكم يروجون لفكرة أن ما يشهده العراق ليس أكثر من إرهاب تنظيم القاعدة، ويحاولون التغطية على جرائم عصابات الجريمة المنظمة والمليشيات الطائفية المرتبطة بالأجندة الإيرانية وبالأحزاب الطائفية، بل كانوا يتحركون ضمن خطة مدروسة للتعتيم على أن شبكة القاعدة انقسمت إلى عدة أجنحة من أنشطها الجناح الممول من إيران تسليحيا والمدعوم سياسيا وماليا والذي يتخذ من الأراضي الإيرانية ملاذا آمنا وللتدريب والتخطيط، والذي يخضع لأوامر من قاسم سليماني بصورة مباشرة، لتنفيذ عمليات تصب في مصلحة النظام الإيراني من دون أن تخدش سمعته الدولية، فإيجابيات العمليات كلها مصممة لخدمة المشروع الإيراني الإقليمية والدولي، وسلبياتها تقع على عاتق القاعدة من دون أن تكلف أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية عناء البحث عن الخطوط الخلفية لتنظيم القاعدة الموالي لإيران الذي لا يتحرك من دون أوامر مشددة من قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني، وهذا بحد ذاته أحد أهم الأهداف الأيديولوجية التي حرصت إيران على إحكام نسجها من أجل مواصلة القول إن للإرهاب لونا سنيا لا يستطيع دخول حدود الجمهورية الإسلامية ومتصادما معها على وفق ما هو مطروح على مستوى التحريض الإعلامي.
ومن حق المراقب الحصيف والنزيه أن يتوقف مع الأرقام الكبيرة للخسائر والتي فاقت كل التصورات، ولماذا سجلت هذه الأرقام القياسية مع اقتراب زيارة نوري المالكي لواشنطن؟ ولماذا حمل المالكي في جيبه قائمة محددة من الأسلحة الأمريكية النوعية المخصصة لمكافحة ما يسمى بالإرهاب محاولا أن يدخل في روع الولايات المتحدة وإدارة الرئيس أوباما خاصة، أن ما يحصل في العراق هو جانب من نشاط تنظيم القاعدة ولا شأن لأي طرف آخر به؟
إننا لا ننفي أن للقاعدة أجندتها الخاصة في العراق وأن الجناح المرتبط بإيران هو الجناح الأكثر حضورا ونشاطا في الساحة العراقية والذي يوقع أكبر قدر من الخسائر البشرية والمادية، لكن ما كان يحصل في الساحة العراقية ومن خلال المقابلات والأحاديث الأخيرة التي أدلى بها نوري المالكي لقناة السومرية وغيرها من الفضائيات التي تحرق له بخور النفاق، يمكن أن يعطينا رأس خيط عن حقيقة الجهات التي تقف وراء العنف الأعمى والذي يضرب من دون تمييز، وكذلك عمليات التهجير الطائفي غير المسبوقة في محافظة ديالى وفي حزام بغداد والتي تنفذها قيادات العمليات المرتبطة بمكتب المالكي أو تنفذها مليشيا فيلق بدر سيئة الصيت.
إن وجود مئات السيارات المهربة على مقربة من مكتب المالكي داخل المنطقة الخضراء المحصنة، كما كشف المالكي النقاب عنه في حديث للسومرية، مع مئات من قطع السلاح مع كواتمها، حتى لو كان الحادث قبل سنتين أو ثلاث سنوات فإنه يمكن أن يستمر أو يتكرر تحت لافتات أو مسميات أخرى وبرعاية أشخاص متنفذين آخرين، وهذا لا يمكن أن يفسر إلا على أنه برنامج من جانب الحكومة وعملائها والمليشيات المرتبطة بها،لتنفيذ عمليات استهداف للمواطنين من مختلف الشرائح والمكونات بحيث تبدو وكأنها حرب طائفية تقتضي رد فعل من الطرف أو الأطراف الأخرى.
ولهذا فإننا نرى أن ما حصل خلال الشهور الأخيرة وخاصة في تشرين الأول المنصرم، هو دفعة على الحساب أراد المالكي تقديمها للولايات المتحدة لإشعارها بأنه القوة الوحيدة الضامنة لشن حرب مفتوحة وناجحة على تنظيم القاعدة ليس في العراق وإنما في المنطقة، وفي الوقت نفسه يوظف كل الظروف الناتجة عن أجواء الشحن الطائفي لتحقيق مكاسب حقيقية على الأرض لصالح التحالف الشيعي الحاكم والمليشيات الطائفية المرتبطة بإيران، ولحصر شركائه وخصومه في شرنقة الدعم الأمريكي المفتوح له، فالمالكي الذي نسق مع مليشيات معروفة للعبث بأمن العراق، أراد من ذلك توجيه رسالة لواشنطن بأن القاعدة في العراق ما تزال بأوج قوتها ونشاطها وأن الانتصار عليها يقتضي تفعيل اتفاقية الاطار الاستراتيجي المبرمة بين البلدين، وتنفيذ التزامات الولايات المتحدة تجاه حكومته وخاصة في مجال التسليح والتجهيز، من دون أن يسأل نفسه عما إذا كانت تلك الاتفاقية قد عرضت على الشعب في استفتاء شعبي أم لا؟ وهل أنها تلبي مصالح الشعب العراقي أم أنها قضية خاصة بنوري المالكي تضمن بقاءه في الحكم مدى الحياة وتؤمن للولايات المتحدة وجودا سياسيا في العراق مدعوما باتفاقية ملزمة؟ وهل كان المالكي صادقا حينما أنزل طائرتين إيرانية وسورية كانتا في طريقهما من طهران إلى دمشق أثناء توجهه إلى واشنطن في مسرحية باهتة لم تقنع حتى المجانين، مع أنه يعرف أن الآلاف من مقاتلي لواء أبي الفضل العباس يغادرون بحماية قيادة قوات الأنبار والبادية، وأن عشرات الطائرات الإيرانية تعبر أسبوعيا الأجواء العراقية في طريقها إلى دمشق من طهران وهي محملة بمقاتلي الحرس الثوري أو لواء أبي الفضل العباس أو بالأسلحة والعتاد الحربي، من دون أن يشكل له ذلك إزعاجا أو قلقا.
ربما ظن نوري المالكي أن الحكم في الولايات المتحدة يدار بنفس الطريقة التي يدير هو فيها حكم العراقيين، ولهذا ذهب إلى واشنطن وهو معبئ بأحلام الحصول على تزكية لولاية ثالثة، ولكنه اكتشف في وقت متأخر جدا أن الولايات المتحدة لا يهمها من يحكم في العراق بقدر ما يهمها أن يكون منفذا لأجندتها في تحقيق أهداف الاحتلال غير منقوصة، وهي ليست على استعداد للتفريط بما قدمته من تضحيات في حرب أفقدتها هيبتها وسمعتها ومصداقيتها الدولية، من أجل سواد عيون المالكي، ولكن الأخير ما زالت تحكمه عقدة البيئة التي عاش فيها في العراق وسوريا بعد ذلك فأوشك على السقوط ضحية وهمه، فحينما واجهته حملة صحفية من كبريات الصحف الأمريكية تحمله مسؤولية الإخفاقات التي عانى منها العراق ومسؤولية التفكك السياسي الذي يعاني منه العراق وكذلك الفساد المستشري فيه فقد قرر قطع زيارته وعاد إلى بغداد على عجل وربما من دون خفي حنين.
وحينما وجد الرئيس أوباما المطوق هو الآخر بإخفاقات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الملفات الساخنة مثل الملف السوري الذي حسر نفوذا أمريكيا في الشرق الأوسط لصالح روسيا التي تفكر باستعادة الأمجاد الروسية، فإنه أي أوباما لم يشأ أن يضيف إلى رصيده فشلا آخر وخاصة في بلد دحرج أمريكا عن مكانتها الدولية إلى هاوية سحيقة، وعد أوباما نفسه بأنه سيحاول تلافي نتائجها الكارثية، لهذا لم يجد المالكي الحماسة التي توقعها من الرئيس الأمريكي، بل وجد فيه عبوسا وجفوة ليس حبا بالعراقيين وأمنهم وديمقراطية للحكم، وإنما دفاعا عن المصالح العليا للولايات المتحدة.
المالكي ظن أنه قادر على مواصلة خداع العالم عن حربه على القاعدة، ولكنه لم يضع في حسابه أن العالم بات صغيرا جدا وأصغر مما يتوقع، وأن البلدان الكبرى لديها أجهزة مخابرات تستطيع اختراق بلد مثل العراق أقامت فيه منذ الاحتلال وحتى اليوم ركائز لا يتوقعها وبثت لها عيونا وأذانا تستطيع من خلالها رصد ما يحصل حتى في غرف نوم كبار المسؤولين بمن فيهم رئيس الحكومة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق