لأنه لايعرف الشوق إلا من يُكابده، لايعرف بغداد ويُدرك عِظَمَ معاناتها إلا من عاش فيها، متبغدداً بين كرخها والرصافة، وهو يرى الوحوش الكاسرة تنقضُّ عليها، اليوم ومنذ تسع عجاف، ملتهمة ذلك الألق الساحر الساكن بين جنباتها..
وصديقنا الكاتب العربي خيري منصور، أحد الذين تبغددوا في مدينة كان خراج الغيوم المهاجرة يُجبى إليها.. وهو بذلك ممن يجيدون الحديث عن بغداد..
بغداد القمة والقاع!
خيري منصور
ما من مدينة مِثلها شهدت ربيع العباسيين وخريفهم، وكانت مصبّ الغيوم المهاجرة كلها في زمَنها الرشيدي، وتحول اسمها الى مثال وأمثولة وعنوان، فكل مدينة تتشبه بها يقال انها تَبَغْدَدَت، كانت خضراء حتى السّواد وصارت سوداء حتى الفحم، وكم راوحت في عمرها المديد وألفياتها السَّبع أو العشر بين قمم وقيعان، وكأنها سيزيف الذي حمل الأرض كلها وليس صخرة منها فقط ليصعد ويهبط حتى الأبد، إنها أم الطوفان والظّمآ وأم العرب وَيَتيمتُّهم ونخيلها لا يعرف الانحناء إلا إذا انتحر أو قصمت ظهره قذيفة الأعداء أو قشّة الأشقاء..
كم غابت، لكنها من أقاصي الغياب تشع بما يجعلنا جميعاً نخجل حتى من أنفسنا لأنها لم تتركنا كعرب ذات يوم وحدنا، كلنا تركناها وحدها، مُخضّبة بالحناء النازف من خاصرتيها شمالاً وجنوباً، ولو فتشّنا ذاكرة مائها ويابستها وأهوارها لما وجدنا أثراً لبسطار، لأن لديها من الماء ما يكفي لان تتوضأ وتتغرغر وتستحم بعد كل دنس من غزاتها..
ان ما نكتبه أحياناً عن عواصم غيرها هو عنها وكأن الأسماء مستعارة منها.
قال حلاجُها ذات ظهيرة رمادية إن ركعتين في العشق لا يكون وضوءها إلا بالدم، ولديها الآن في ساحاتها وشوارعها من الدم ما ينوب عن الماء.. وكأن الماء نفسه أصبح صالحاً للتيمّم كالرمل في حضرة الدم.
بعد قطيعة لا ينافس بغداد فيها غير القطاع بدأت تتهيأ لاستقبال ضيوف جدد، ففي بغداد سوف يتعارفون، لهذا فالفارق محذوف بين حفلة التعارف وحفلة القمة والحفلة التنكرية!
من زارها منهم قبل أن تقع في الأسر قد لا يعرفها من كثرة الندوب على جبينها وخديها، اما ابتسامتها الذهبية القديمة فمن الأفضل ألا يتوقعها من تسبب لها بكل هذا الألم والفُراق.
تَبَغْدَدَ سواها أما هي فقد شحّ فيها الربيع، وإذا كان الرازقي والياسمين الذي طالما غطى شرفاتها وبواباتها المُشْرعة مالحاً كالدمع، فهو الآن تحول الى صَفْصافٍ، يعقد مؤتمره كل عام كي يحصي أوراقه التي أُسقطت ولم تسقط، ولو كان ابن الوليد أو أحد أحفاده مع القادمين اليها لسعى أسد بابل بكامل حمولته السومرية والعربية والأسطورية لاستقباله..
إن لكل بغداده الآن في حمّى هذا النزيف القومي، ولكل قيسٍ ليلاه المريضة في العراق، لهذا لم تعد البوصلات أمينَة على الجهات، كما لم يعد الغمد أميناً على السيف الذي سجن فيه.
عندما كانت بغداد على قيد عراقها أغرقها العرب بالحبر من مختلف الألوان إلا اللون الأحمر لأن توتها الجبليّ تولى نزيفه لتكتب هي بأصابع نخيلها ملحمتها العاشرة بعد جلجامش، فكل من بحثوا عن عشبة الخلود لم يعثروا عليها.
كم منحت بغداد شقيقاتها بلا منّة، وكم أشاح عنها حتى من كان لحم أكتافهم من لحم أطفالها ومرضاها وموتاها!
بغداد القمة والقيعان، والأعلى والأدنى والفائض والنقصان، تلك هي جدلية الحضارات التي لا تموت، تماماً كالشجرة العملاقة التي تولد من بذورها غابة.
هذه القمة، فريدة في تاريخ القمم، لأنها في بغداد بعد الاحتلال أولاً، ولأنها تأتي في ربيع قومي هناك من يحذفون منه اللون الأخضر وأسراب السّنونو..
والله زمان يا عراق، تلك هي الأغنية الجديدة التي تندلع من الموبايل أو آلة التسجيل، لأن أغنية والله زمان يا سلاحي ذهبت مع الراديو الخشبي المُزَخرف، والهواء الطلق الذي لم تفسده أكاسيد العولمة!!
ملاحظة:
نُشر المقال هنا
هناك تعليقان (2):
تحية معطرة باريج دماء شهداء العراق الى كل من اعطى بغداد الجريحة المسلوبة بعضا من انينه وتوترات اعصابه حقا لها لا بد عائد باذن الله مع فجر المقاومة العراقية الباسلة
وتحياتي للكاتب المبدع خيري منصور واهنيء العرب والعراق بمثل هذا الكاتب النموذج الذي ابدع لوحة بغداد الحالية بكل ما تحمل في قمتها من امجاد وما يحاول الاوغاد في حضيضها من اعمال
ولكم تحياتي
اخي كاتب المقال .. نشكرك الشكر الجزيل على روحك العربية الاصيلة . واستميحك عذرا في تعليقي الذي قد تجده قاس بعض الشيء على مسامع الاخوة العرب ..
ذكرت في مقالك ان بغداد كانت لم تترك العرب وحدهم في محنهم ولكن العرب تركوا بغداد ليس في محنتها حسب بل ساهموا في ذبحها من الوريد الى الوريد وهنا اقول للعرب هل ماتت الغيرة العربية عند البعض حتى يساهموا في ذبحنا في حين ان الغيرة العربية لازالت متقدة في عروقنا نحن العراقيين وننسى همومنا الجمة ونحمل هموم اخوتنا العرب ..
لماذا نحن فقط لازالت فينا الغيرة العربية ولا نجدها عند غيرنا . نريد من الكتاب العرب العروبيين ان يجيبوا على سؤالنا لانه فعلا جعلنا في حيرة
إرسال تعليق