الإخصاء بعد الإقصاء!

في هذا المقال المهم يعرض المستشار القانوني سليمان الحكيم قضية مهمة جداً في (الحياة السياسية العراقية المعاصرة)، بعد الاحتلال الأميركي المجرم، وهي قدرة المالكي على (إخصاء) خصومه، بعد ان نجح في الاستفراد بهم وتشتيت شملهم، وتحويلهم إلى مجرد لاهثين وراء مطامع المناصب ومغانم السياسة الرخيصة.
إنه مقال جدير بالقراءة فعلاً.

المالكي : فن الإخصاء بعد الإقصاء

سليمان الحكيم

وضع تنظيم القاعدة من جديد توقيعه على دماء العراقيين وأشلاءهم الذين خلّفتهم عاصفة التفجيرات التي هزت أرجاء العراق أول أمس والتي قتلت من المدنيين – كالعادة – أضعاف ما نالت من القوات المسلحة أو أهل النظام , وبوسع المواطن العراقي أن يستخلص من بين ركام الخراب ودموع الأسى مسألتين :       
الأولى : أن تنظيم القاعدة مازال قادراً على الضرب أينما يشاء وفي الوقت الذي يختاره , برغم الادعاءات الكاذبة والمغرورة للمسؤولين الأمنيين حول قضائهم على معاقل الارهاب , واعتقالاتهم اليومية لأمير هذه الجماعة أو تلك .
الثانية : أن مساحة الأمن في العراق مقتصرة على المنطقة الخضراء , وما عدا ذلك فمستباح لقطعان الارهاب وميليشياته , وفضاء مفتوح لكل مخابرات العالم وللجريمة المنظمة ولتجار المخدرات وللصوص من كل شكل ونوع .
لم تفلح قوات النظام المسلحة إلا في حماية رئيس الوزراء وأتباعه وحلفائه , وبرعت في تعقّب خصومه السياسيين وإزاحتهم من الواجهة , ولقد أثبت السيد المالكي دهاءً وتصميماً في لعبة الانفراد بالسلطة وتسقيط كل من تسوّل له نفسه مشاركته القرار السياسي ؛ فمنذ اليوم الأول الذي استلم فيه رئاسة الوزارة قرر المالكي أنه طال سماءً لم يكن يجرؤ على مجرد الحلم بها , وأنه لن يفلتها مهما كان الثمن , وأن عليه فوراً أن يبدأ التخطيط ويباشر العمل لتبقى حكراً عليه مادام فيه عرق ينبض ؛ ولقد كانت الفترة الانتقالية بين استلامه المنصب والانتخابات النيابية كافية ليدبّر أمره ويضع الخطوط العريضة لتحقيق هدفه , فهيمن على القضاء بصفقة مجزية مع رئيس مجلسه الأعلى , ووضع على رأس وزارة النفط – مصدر الثروة الرئيس – رجلا صار إمّعة له بعد أن تبين أن نسبه الايراني يحول دون تطلعاته الى سقف سياسي أعلى ؛ ثم انهمك السيد المالكي في إعادة ترتيب قيادة القوات المسلحة وجهازي المخابرات والشرطة , فنفضهم بحركة تغييرات شاملة سلّم فيها المفاصل الحساسة لزملائه في حزب الدعوة , واشترى ولاء الآخرين بالترقيات غير المبررة , وبالعطايا بلا حساب , وبغضّ النظر عن فسادهم الفاقع , وكذلك عندما حانت اللحظة الفصل بعد ظهور نتائج الانتخابات النيابية , فإذا بهم جميعاً كانوا عند حسن ظن المالكي , فالقضاء قدّم اليه السلطة بتكييف قانوني ملتوٍ , والقوات المسلحة وأجهزة الأمن كانت متأهبة لفرض ذلك الحكم القضائي , وأموال النفط كانت طوع بنانه من أجل إقناع المترددين!                      
كان تحييد حلفاء المالكي في التحالف الوطني وإقصاء خصومه في القائمة العراقية هو عنوان المرحلة التالية مباشرة , ولقد كان تحقيق الهدف الأول سهلا ويسيراً مادامت حصة الحلفاء من الغنيمة مصونة وأوامر الولي الفقيه تمنعهم من العصيان , في حين أنه لم يكن يُفترض أن تكون تلك مهمة سهلة مع قائمة منافسة حازت النسبة الأكبر من أصوات العراقيين , ولكن لسوء حظ العراق ولحسن طالع المالكي , فإن تلك القائمة كانت تحمل بذور فنائها منذ اللحظة الأولى لتشكيلها , فبرغم القماشة الوطنية التي صيغ بها برنامجها الانتخابي, إلا أن قياداتها كانت متلهفة قبل أي شيء آخر على وجاهة السلطة ومغانم المنصب , وكذلك خانت تلك القائمة ملايين العراقيين الذين ائتمنوها على أصواتهم , وهرولت الى حصتها في السلطة كشريك صغير لا يملك من الأمر قليلا ولا كثيرا , وانكشف الوزن السياسي لرئيسها الذي كان يبدو أكبر بكثير من حجمه , فإذا بحزب الدعوة يلاعبه كطفل غرّ لسنتين متواصلتين على منصب وهمي لا سند له في الدستور ولا في مؤسسات الدول , وإذا بالقائمة وبعد شهور من تولي المالكي للسلطة , تبدأ بالتشظي والتفكك على أسس طائفية لتخسر ثلث تمثيلها النيابي , ثم راحت تساوم السيد المالكي على المكشوف مطالبة بحصة أهل السنّة في السلطة والثروة ليظهر نظام الحكم في العراق طائفياً سافراً , يحتل الاسلام السياسي الشيعي مواقع السلطة الرئيسة فيه , يقابله معارضاً الاسلام السياسي السني , وكذلك تبدد الطلاء العلماني والوطني الذي صبغت به القائمة العراقية وجهها ليتكشف عن رئيس معزول وعاجز , وقيادات تبحث، كلا على حدة، عن مكاسبها الشخصية ولو بالغدر برفاق الأمس .
وقد بلغت خطة السيد المالكي الاقصائية ذروتها بتصفية الصقور في القائمة الخصم , فالسيد طارق الهاشمي تضررت سمعته بشكل غير قابل للترميم , وبات مطلوباً للقضاء بتهم قد ترفعه الى منصة الإعدام , ويجري التداول لتعميم اسمه من خلال الشرطة الدولية "الأنتربول" لإحراج حُماته الأكراد وإجبارهم على تسليمه , ونائب رئيس الوزراء صالح المطلك  تمّ طرده من جنة السلطة الى غير عودة , وأصبح ممثلها في رئاسة مجلس النواب – الذي كان يزهو كالطاووس – داجناً أليفاً في تعامله مع السيد المالكي وحريصاً على عدم استعدائه بعد أن أخذ العبرة من رأس الذئب الطائر .                  
 والحاصل أن السيد المالكي بعد أن انتهى من الإقصاء بدأ مباشرة مرحلة الإخصاء , فبات خصومه مخصيو الشفاه مشلولو الذراع ,  واستبدلوا بلباس التقية واللهجة الناعمة , دعوات النزال وحمية عنترة بن شداد , فتخلوا عن نائبهم الرئاسي وسلموا بأن مسألته قضائية وأنهم أول من يحترم القضاء , وزاحموا أهل التحالف الوطني على بوابات مجلس النواب ومجلس الوزراء , ولم يلقوا بالاً لرئيسهم الفخري السيد أياد علاوي وهو يهدد بصبيانية برفع مظلمته الى القمة العربية المقبلة في بغداد وكأن العرب الذين فرّطوا بكل محرماتهم سيكترثون له أو لمجلس سياساته ؛ وكانت ذروة المسخرة عندما تحلّق خصوم المالكي حوله مندهشين بمهارته وهو يخرج لهم من قبعته أرنب الملتقى الوطني ويعجنه ويعيد تشكيله ويمطّه ليصبح أطول من مجلس السياسات .                     
..........................
..........................
قال لي صديق متابع للشأن السياسي, أن السيد المالكي قد أثبت أنه رجل دولة لأن أهدافه كانت واضحة أمامه وعرف كيف يسلك الطريق المؤدية اليها برغم وعورتها , وكان ردي عليه أن هناك فرقاً كبيراً بين القادة والمديرين , فعالم السياسة حافل بالمديرين , وقد ينجح بعضهم في إدارة السياسة ولكنهم لن يكونوا قادة أبداً , إنهم بالضبط كمن يجيد تحريك أحجار رقعة الشطرنج لكنه غير قادر على إعادة تصميمها , في حين أن القادة يقومون بأشياء مختلفة بطبيعتها , فهم يخاطرون في بعض الأحيان , ويعودون الى المبادئ الأولى , ويطرحون أسئلة عن الغاية مما يجري , ويتعرضون للمعاناة من إخفاقات مؤلمة بمثل ما إنهم مؤهلون لتحقيق نجاحات كبيرة ؛ إن القائد ينظر الى المشكلة بطريقة مختلفة عن سواه , فهو مثل الرسام الذي تغيّر ضربات فرشاته رؤيتنا للعالم .      
وختمت حديثي مع ذلك الصديق القديم بقولي أن استيائي من خصوم السيد المالكي لا يقودني الى الإعجاب به , فالرجل لم يستطع أن يتجاوز طائفته وبقي أصغر منها , في حين أن أول شروط قيادة العراق أن يكون القائد أكبر من جميع الطوائف والأديان , وقد يكون السيد المالكي مديراً ناجحاً للسياسة كما يراها بمقاييسه , ولكني بالقطع لست أرى فيه قائداً للعراق .




ملاحظة:
نُشر المقال هنا