وجهات نظر
عبدالستار الراوي
كان لمرثية “سدّاح”، للشاعر شيحان السالم الشمري وقع عظيم على عقلي ووجداني، مما دفعني إلى كتابة هذا المقال واضمه تحت مسمى “سدّاح” الى الجزء الثاني من معجم العقل السياسي الامريكي المعاصر.
1ـ في احدى قرى العراق النائية، كان يقيم أحد الفتية الفدائيين مع عائلته في منزل طيني منعزل، وكان اسمه على لوحة المطلوبين لقوات الاحتلال الامريكية لكنه كان يرقد جريحا إثر معركة مع قوات الاحتلال أصيب أثناءها، وكان الفتى المقاوم يقتني كلبا أسمه “سدّاح” أودعه حراسة البيت في غيابه، وفي فجر أحد الايام وبينما كان الجميع يغطون في النوم، أيقظهم عواء الكلب منذرا، بأن خطباً قد يلم بالعائلة، فهبَّت سيدة الدار من فراشها، ومن كوة صغيرة أبصرت قوة من جند المارينز تطوق الدار، وهي لاتملك وزوجها واولادهما الصغار مايدفع عنهم الاذى، سوى أن تلوذ واطفالها بحجرة المنزل جوار زوجها الجريح، بعد أن أحكمت رتاج الباب، اللحظة القلقة تصير زمناً عصياً، هلع الترقب، الخوف يقتلع أفئدة الاطفال، تضم الام صغارها، تصعد القلوب إلى الحناجر. يلملم الفتى الجريح نفسه لينهض لكنه كان خائر القوى، فهوى..
طرقات مدوية كما المطارق الحديدية تنهال على باب الدار، وزمجرات “سدّاح” تتعالى، تتغلب على ضجيج الاسلحة، فتشق صمت المكان وتبدد هدأة الفجر.
يحاول المارينز إنتزاع باب الدار بإعقاب البنادق.. في لحظة الموت اليقين، يثب “سدّاح” في وجه الغزاة كما العاصفة، الوثبة الصاعقة تمتص دماء الغزاة، لتقيم جداراً عازلاً من الرهبة يحول بينهم وبين الباب، فيلقي أحد الجنود أرضا، ويفر الآخرون، تتناثر قوة مشاة البحرية الغاشمة لتصير الكتلة القتالية الصلبة أشتاتا أشتاتا..
أمام باب الدار، يقف “سدّاح” بثبات متحفزا وقد عقد العزم أن يمنع المارينز التقدم خطوة واحدة، تجاه (المنطقة الحرام)، لينقل المعركة إلى جبهة أخرى، فكان عليه اللجوء في الصفحة الاخيرة إلى أسلوب المخادعة والتضليل، ليشتت أبصارهم، فكان يثب في وجه هذا ويناور الآخر، في تلك اللحظة سددت بنادق الغزاة فوهاتها، إلى “سدّاح” ليهوي صريعا بعد أن إمتلأ جسده بالرصاص الامريكي.
2ـ المعنى والدلالة:
في النازلات الإنسانية الفاصلة وفي لحظة المصير ومكابدات الموت، يستولد الوعي، الفعل البطولي الحر، في مقارعة الغزاة، الإشتباك بالايدي وبالسلاح الابيض وبالرصاص، والإقدام الشجاع على مواجهة المحن والخطوب، دفاعا عن الحياة ضد غائلة الموت، الاشتباك المر، ومقارعة الغزاة.
هكذا أنِفَ “سدّاح” أن يتراجع أو يقف محايدا بين الالوان، في تلك اللحظة الفارقة مابين (الأنا) والحِمى، مابين الحياة والردى، يقبل بإختياره وبكل حواسه على منازلة مشاة البحرية الامريكية الذين جاءوا لمداهمة الدار وإعتقال من فيها، فتدور رحى المعركة، لم يكن يشغل “سدّاح” أمام غابة البنادق سوى قضية واحدة هي منع الغزاة من إقتحام البيت، وحماية الدار، والدفاع عنها وكف الاذى عن ساكنيها من النساء والاطفال.. فاتبع في الجولة الاولى المناورة، بمحاولة تضليل ومخادعة القتلة، فشاغل الجند، يتقدم خطوة ويتراجع خطوتين، ليثب بسرعة خاطفة جهة اليمين أو جهة اليسار، مفرقا الجموع المسعورة، فيتراكضون أمامه، عاجزين عن تقييد حركته المتوثبة، مخفقين في تطويقه، كان “سدّاح” كما الرمح ينتصب على قوائمه مرفوع الرأس بشمم، مزمجرا في وجوههم كأسد، متحفزا مابين الزوايا الحادة والمنفرجة، فتضطرب حركة القوة الغاشمة وتأخذهم الحيرة من نباهة الكائن العجيب، فتنقسم الصفوف وتتداعى الخطط، فقد إستحال “سدّاح” بمناورته الذكية شبحا زئبقيا يتعذر على الفرقة الامريكية القذرة الإمساك به أو السيطرة على حركته.
يفتح الغزاة النار، فيتوارى عن الانظار.. وحين اقتلع المارينز الباب وهمَّت ثلة منهم إقتحام الدار، هنا لم يعد ثمة مسافة بين الحياة والموت، ينطلق “سدّاح” بسرعة فائقة كما السهم الناري.. فيصاب المارينز بالهلع.. يتراكضون في كل إتجاه، مما دفع قوة القتلة الامريكية إلى إحضار كلب مدرب من الكلاب البوليسية لتبدأ المنازلة، لإنقاذهم مما هم فيه.. الا أن “سدّاح” صرع وأدمى الكلب البوليسي فهزمه من الجولة الاولى، فلاذ الكلب الامريكي بالهرب وهو يلعق جراحه، مما أثار حفيظة جنود الاحتلال وبادر أحدهم باطلاق وابل من الرصاص أردت “سدّاح” قتيلا عند باب الدار، وحين ذاك فقط تنبه الفتى المجاهد إلى أن داره تطوقها القوة الامريكية من جهاتها الاربع، وهذه المره لا مفرَّ من الاعتقال، خرج اليهم متوكئاً على جراحه، وتم اعتقاله وشدوا وثاقه وعندما أدار وجهه إلى “سدّاح” أجهش بالبكاء، مما جعل المترجم يسأل متهكما (تبكون عندما تعتقلون وتدعون الجهاد والبطولة قبلها)؟!!
فأجابه الفتى المقاوم: لاأبكي حالي وإنما أبكي على من جاد بنفسه لحماية الدار، أبكي كلبي الوفي ”سدّاح”.
تلك واحدة من وقائع المقاومة الوطنية في العراق.. بيت الطين السومري في أطراف الصحراء موقعه في إحدى قرى الشرقاط، ( 300 كم شمال بغداد) صاحبه رجل بدوي من قبيلة شمر، إختار أن ينضم إلى صفوف المقاومة. بعد أن رقد جريحاً.. أودع أهله وحلاله أمانة في عنق صاحبه “سدّاح”.
3ـ مرثية إلى ذكرى الكائن الوفي “سدّاح”:
القريض البدوي يخرج من بين حنايا الروح وخلجات القلب، حاراً وصادقاً يمتزج بجمرات المواقد المتأججة، ويثب عزوماً كما الريح العاصفة في هبوبها العاتي
بهذا الإقدام الفريد، الشاعر شيحان السالم الشمري حال تلقيه نبأ المعركة بواسطة الهاتف الجوال، وتقديرا لذكرى وفاء وبسالة “سدّاح” في الدفاع عن الدار والحمى، شرع على الفور بتدوين مرثية “سدّاح”، وضمَّن قصيدته المؤثرة موقفاً نقدياً مما يدور على الساحة العراقية، من أنصار وسماسرة الاحتلال الامريكي من خانوا الوطن وباعوه من أجل حفنة دولارات ولم يكن هؤلاء الذين جاءت بهم قوات الولايات المتحدة سوى مهرجين ولصوص وقتلة.. ويهيب الشاعر، في خاتمة المرثية، يهيب بشعبه أن يواصل مقاومة الاحتلال ويدعو أمته أن تنهض وتجدد العزم من اجل الغد:
حيً الجواب اللي لفا حزَّت النوم .. في هاتف الجـوال جاني جوابه
قريت نص من الرســــالة وانا أقوم .. هيج ضميري واحزنه وإلتجى به
“سدّاح” يومن حمى الدار ملزوم .. غيره ولايرضى يدوســون بابه
المذبحه في بندگ حط به زوم .. الكــــافر المحتل مكَّن صــوابه
والله لو أنو بشر گلت مرحوم .. وبعض البشر فدوه لحضرة جنابه
الربضه ورويبضه وبلاس ورخوم.. الجلب يحشم وهم تراهم جلابه
واهل الكروش المرجئة الف طاموم.. يا اهل المثارد كاسرين المهابه
ياصاح لو إنْ الرجاجيل لها سوم .. كل شعره من الجلب تسوى شبابه
الخاين اللي يبيع الدين ويسوم .. حرام يدفن لو ذلف فيه ترابه
والغيرة اللي جابت الجلب للقوم.. شيوخ الحواسم ما اهتزت شنابه
من شيَّخ الشاذي وهو قرد مذموم.. حصيلتك منه مطاير ذبابه
صاروا مع المحتل خادم ومخدوم .. وكاس العماله فاز به وإعتلا به
خسيت ياخاسي ولد خسه وبوم .. ماكرك بالسفلى وسط الخرابه
والداشر اللي جا مناضل ومظلوم .. كواد للموساد جانه وجابه
والجمع اللي جا من إيران مسموم .. أصله وفصله ودار إبوه وربابه
طلاب ثار بسالف العهد مفهوم .. يمن شرد كسرى وخلا صحابه
جمعتهم أمريكا حثالة ولملوم .. يوم على بغداد جرَّت طوابه
وسلالة ابن العلقمي كلها اليوم .. جتنا تدور من بلدنا نهابه
ودستور جاهز من أمريكا ومرسوم .. وشارون نقح صفحته واعتنى به
يگول تجزيء البلد امر محتوم .. واسم العروبة رافضة ما رضا به
ما ينعشك عطر تشمه من الثوم .. ولا ترتجي الحنظل تضوك الحلا به
يا أمة الضاد انهضي واصنعي نجوم .. الليل الابهم فاز به من سرى به
لو صار ما تزعل وتضرب بها خشوم .. حكك مع الانذال كلٍ غدا به
وكاس المفاخر للصناديد مضموم .. اللي ورا القضبان كثرت حسابه
في صفحة التاريخ موثق ومختوم .. واللي استشهد عند ربي ثوابه
نعمين يا سباع الضواري لنا دوم .. رديكم مثل شجاع الذيابه
الذبح للمحتل فرضٍ كما الصوم .. الذبح للكافر مو للقرابه
خله درع صدرك لا جنَّك سهوم .. يجيه يوم وينتخي وينهكا به
ملاحظة:
استمع للشاعر البدوي هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق