القس لوسيان جميل
المقدمة: قرائي الأعزاء! الرسالة الالكترونية التي استلمتها والتي سوف يكون هذا المقال من وحيها، كان كاتبها، او مرسلها، يبدي ألمه واستغرابه من ظاهرة تناحر أهل الأديان وكراهية بعضهم لبعض وعداء بعضهم لبعض، على الرغم من تصريحاتهم جميعا أنهم يؤمنون باله واحد، في حين يلاحظ كاتب الرسالة أن البوذية تشكل الاستثناء الوحيد في هذا المجال، حيث هناك آلاف من الكتب المقدسة والمزارات البوذية، لكن الجميع يعيشون بمحبة وسلام مع بعضهم البعض. علما بأنها المرة الثانية التي استلم هذه الرسالة عينها، ولكن هذه المرة كانت باللغة العربية، في حين كانت الرسالة الأولى مكتوبة بالانكليزية.
وبما ان الرسالة جذبت انتباهي، ليس بما تحويه من ايجابيات، بل بما كان فيها من دس ومغالطات ونقص في دقة الحكم على الأديان، قررت أن اكتب ثلاث مقالات معمقة حول حقيقة هذه الرسالة، من اجل وضع الأمور في نصابها الحقيقي، تاركا الحديث عن ظاهرة البوذية لمقال ثالث، إن شاء الله.
تحليل لمحتوى الرسالة المذكورة: بعد كل هذه الفترة التي قضيناها، نحن الكتاب، في تفنيد مغالطات المحتلين وأكاذيبهم، ورفع الغشاوة عن عيون أبناء الشعب البسيط من اجل حمايتهم من التضليل بقدر المستطاع، فقد اكتسبنا خبرة ثمينة في تمييز الغث من السمين، فيما يقال وفيما يكتب, حول شؤون المحتل والمحتلين. لذلك أسرعنا في كتابة هذا المقال الذي يهدف الى فرز الحنطة الجيدة عن الزؤان.
أما بعد مقدمة الفقرة أعلاه فنقول: نعم إن ما يحدث للأديان مؤلم حقا، غير ان من اعتاد على التفكير والتحليل والتأمل بمثل هذه الأمور بعلمية كافية لا يستغرب من هذا الانقسام، حتى وان كان يرفضه في السر والعلن. وعليه فان ما سنقوله بشأن ظاهرة الانقسام المذكورة، سوف يستند إلى التحليل العلمي لهذه الظاهرة الدينية الاجتماعية، وحينئذ سوف يتحقق المثل الذي يقول: إذا عرف السبب بطل العجب، وحينئذ أيضا لن يتمكن احد من الاصطياد في الماء العكر، ولن يستطيع أحد أن يدس السم في العسل، ولا ان يقول كلاما ظاهره حق وباطنه باطل. ومن هنا، وكمحللين للظواهر الاجتماعية، لن ننساق وراء المهرجين المنادين بالسلم والتمدن والمحبة المزيفة، وسيكون لنا كلام يعطي لكل بعد من أبعاد الظاهرة المذكورة حقها، وحينئذ ايضا نفهم حقيقة الرياء الذي نجده في كثير من الدعوات السلمية ودعوات المصالحة التي ينادي بها بعض رجال الدين، مسلمين ومسيحيين، وتطالب بها منظمات المجتمع المدني المزعومة.
ومن يدري! فقد يقال لنا: ترى لماذا لا تشاركون المروجين لمثل هذه الظواهر المؤلمة استنتاجاتهم ودعوتهم السلمية، انتم الذين تقولون إنكم طلاب سلم ولستم طلاب حرب؟ أما جوابنا فواضح: اننا لا نشارك في مثل هذه الدعوات السلمية، لأنها دعوات مرائية وخبيثة تظهر وجها وتبطن الوجه الآخر الخبيث، وبذلك تعمل على شيطنة المقاومة والمقاومين، ليس في العراق وحده بل في العالم العربي كله.
حقيقة الدعوات السلمية والمدنية في زماننا: قبل ان ندخل في تفاصيل هذه الفقرة حري بنا ان نميز بين أشكال الداعين الى السلام، لكي نستطيع ان نحكم الحكم الصحيح على جميع أشكال الدعوات السلمية هذه ولا نقع في فخاخ المضللين. ولكي يكون ما نكتبه واضحا سوف نلجأ الى ترقيم بعض أشكال الدعوات السلمية التي نجدها في مجتمعنا العراقي وفي المجتمعات العربية التي تخضع لمسيرة اجتماعية مماثلة.
1 - الدعوات السلمية الصادرة عن بسطاء الناس: من يدرس عقلية الشعوب البسيطة سوف يكتشف ان هذه الشعوب، وعلى قدر وعيها الاجتماعي، لا تقوم خياراتها على مبادئ فكرية، ولا حتى على مبادئ أخلاقية، وإنما تقوم على المصلحة الآنية المباشرة. لذلك تأتي رغبة هذه الشعوب بالسلام عن مصلحة مادية: خوفا على الأرواح والممتلكات وطمعا بفائدة مادية تحصل عليها جراء السلام، كما حدث عندنا في العراق عندما جوع الأعداء شعبنا العراقي ومن بعد ذلك أخذوا منه كل ما يريدون بحجة الخلاص من الجوع والحرمان، دون الالتفات الى الضرر الناتج للعراق بسبب موقفهم هذا. وهكذا نرى هؤلاء الناس وكأن لسان حالهم يقول: أنا ! وليكن من بعدي الطوفان.
2 – المضللون بوهم السلام كثابت: الجماعات الثانية التي تشدد على ثابت السلام نراها بين الذين يعتقدون أن المبادئ الأخلاقية السليمة تدعوا الناس إلى السلام، دون قيد أو شرط، سواء كان هؤلاء الناس ظالمين أم مظلومين. غير أن هذه الفئة المسالمة المؤدلجة بأيديولوجية الوهم تجهل أن دعوتها أقوياء العالم إلى السلام لا تؤثر قليلا أو كثيرا في هؤلاء الأقوياء، ولا تزحزحهم عن أهدافهم الشريرة وعدوانهم قيد أنملة. أما خيارات مثل هؤلاء المسالمين فتستند الى وهم ناتج عن حالة نفسية معينة، في اغلب الأحيان، او عن حالة صوفية سطحية لا دخل لها بالسلام أصلا، أو عن فهم لاهوتي خاطئ ومؤدلج للدين، الأمر الذي يظهر عند المسيحيين خاصة. وهكذا يتحول الإيمان عند هؤلاء المتصوفة المزعومين الى ما سماه كارل ماركس بأفيون الشعوب، هذا القول الذي لا يصح في الحقيقة إلا على هذا الطراز من الداعين الى السلام، من الذين تصبح الدعوة الى السلام المطلق عندهم، من الثوابت التي لا تمس.
3 – حالة المظلَلَين السلمية: ويقينا أننا عندما نتكلم عن المضلَلَين هنا نقصد بهم من ليس تمسكهم بالدعوة الى السلام حالة ذاتية ناتجة عن أي مسبب داخلي، لكننا نعني بالمضللين هنا من يقع عليهم التضليل الخبيث المصطنع بدهاء، من قبل جهات سياسية سيئة النية والقصد، او من قبل جهات دينية تضع نفسها، من حيث تدري ومن حيث لا تدري، الى جانب المعتدين الدوليين. أما هؤلاء المضللين ( بفتح اللام ) فنراهم يتفانون في مدح السلام كالببغاوات، وكأن السلام وفي كل حالاته قضية هامة وخاصة عندهم. وهكذا لا يقع هؤلاء المضللون في حبائل التضليل الخبيث فقط لكنهم يقعون ضحية لما يسمى، في علم النفس، بآلية الحيل الدفاعية، وأسميه شخصيا بالوهم الأنثروبولوجي أيضا، هذا الوهم الذي قد نكتب عنه مقالا خاصا في يوم من الأيام.
4 – حالة ضحايا أقوياء العالم: إن هذه الحالة تحدث في أيامنا بشكل مكثف، ولاسيما عندما تكون هناك حرب باردة او حارة بين الامبرياليين المعتدين وبين الشعوب الضعيفة. ففي هذه الحالة يستخدم الامبرياليون الأشرار الإعلام المضلل بشكل ملحوظ ، من اجل تيئيس الضعفاء من قدرتهم على المقاومة، كما يستعملون الوسائل التي بدأ العالم يسميهـا بالشيطنة Diabolisation ، من اجل النيل من عناصر القوة عند الخصم، حيث تطال الشيطنة كل شيء نبيل عند الضعفاء، بما في ذلك تضحية الضعفاء بحياتهم وحتى بسلامتهم الشخصية والوطنية، في سبيل النصر على الظالمين. اما المظللين ( بكسر اللام ) انفسهم فيشكلون فوجا كبيرا من علماء النفس ودهاقنة المخابرات الخبثاء والسياسيين الكبار وفوج من المنتفعين من السياسة من الذين يقدمون خدماتهم للمحتلين لقاء ما يدفع لهم من أجر. ويقينا أننا لا نخطئ إذا حسبنا جماعات " المجتمع المدني " من بين هؤلاء المضللين اللذين يخدمون أهداف المحتلين العدوانية.
وهنا! نقولها مرة أخرى، يحاول المضللون السياسيون وأذنابهم ان يقنعوا المعتدى عليهم بأن طريق السلام هو الأفضل لهم وللعالم، مع أننا نعرف أن المحتلين في العراق وفي فلسطين مثلا، سدوا كل الطرق، العنيفة منها والسلمية، بوجه الذين لا يطلبون غير حقهم الطبيعي والشرعي: السيادة الكاملة والتخلص الكامل من الاحتلال في العراق وفي فلسطين. ثم الم يكن إصرار النازيين في البيت الأبيض، والذي يسميه العراقيون بالبيت الأسود، على احتلال العراق، على الرغم من المظاهرات الحاشدة التي خرجت في كل أنحاء العالم لردع العدوان، دليلا كافيا على أن المعتدين أقوياء العالم لا يفهمون غير لغة القوة، وأن لا شيء آخر يردعهم غير القوة؟ حقا! يبدو أن العنف والقوة قدر لا مفر منه امام الضعفاء ماديا، ما دام عالم الأقوياء لا يثق إلا بالقوة الغاشمة ولا يعرف شريعة غير شريعة الغاب.
أما أن المضللين السياسيين وأتباعهم بكلل صنوفهم الدينية والمدنية، ومنهم رجال كنيسة وما يسمى بمنظمات المجتمع المدني المخادعة، يأتون الآن وينادون بالسلام والمصالحة، بعد ان أطبق المحتل أنيابه على العراق وغير العراق، فتلك لعمري أقصى خدمة يقدمها هؤلاء المضللين للمعتدين المحتلين، بدعوة من وقع عليهم الاحتلال الى السكينة والسلام، هذا السلام الذي هو أقصى أمنيات المحتلين في زمن النهايات، أي في الزمن الذي فيه يعتقد المجرمون أنهم أنجزوا مهمة عدوانهم، ولم يبقى لهم سوى ان يتمتعوا بثمار عدوانهم، دون ان يقلق راحتهم أحد، هذا الزمن المعروف عند كل المعتدين في العالم، من الذين يحاولون بعد انجاز الجريمة ان يخلعوا ثوب الذئاب ويلبسوا ثوب الحملان؟ فهل سوف ينجحون في ذلك؟ ان تحليلنا للأمور يقول: ما كل مرة تسلم الجرة.
5 – طوبى لفاعلي السلام فانهم بنو الله يدعون: هذه العبارة قارئي العزيز مستلة مما يسمى موعظة يسوع على الجبل. ففي هذه الموعظة على الجبل تطويبات عديدة متماثلة من حيث انها تمدح الفضائل الانسانية التي تجعل مجتمع العالم مجتمعا انسانيا سعيدا، ومنها التطويبة التي تقول: طوبى لفاعلي السلام فانهم بني الله يدعون. فاذا كان السيد المسيح يقول هذا الكلام الرائع، واذا كانت انسانية الانسان، قبل ان يفسدها المفسدون تقول كذلك ايضا، فمعنى ذلك ان هذه المقولة هي حقا صحيحة ولا غبار عليها. غير اننا هنا نردف ونقول: نعم طوبى لفاعلي السلام فانهم بنو الله يدعون، ولكن لن يكون ابناء الله حقا، اولئك الجبناء الذين يدعون الى الاستسلام للقدر وللقوة الغاشمة الشريرة، ولن يكون ابنا لله من يشبه ذلك الجنرال الذي دمر مدينة وارشو في الحرب العالمية، ثم ابرق الى رؤسائه قائلا: السلام يخيم على مدينة وارشو. فذلك الجنرال بالحقيقة، لم يعمل ولم يحقق السلام، وانما حقق الخراب حسب، ولذلك نقول بان ذلك الجنرال وأمثاله لا يستحقون التطويب والتمجيد، بل الزجر والاحتقار.
من هنا نقول ان من يريد السلام حقا لا يفرضه على الآخرين، بل يعمل به هو نفسه اولا، لكي يغري الآخرين على طلب السلام، الأمر الذي لم يفعله السيد بوش ولا السيد بلير ولا غيرهم من الكبار والصغار الذين اعتدوا على العراق، وأحلوا الفوضى فيه عوضا عن السلام، مما لم يؤثر على السلام في العراق وحده، بل أثر سلبا على السلام في مناطقنا العربية كلها، وفي العالم بأسره. وعليه فان المتأمل بما يجري اليوم في مناطقنا جراء اعتماد الأشرار العالميين على القوة الغاشمة، وجراء تمسكهم بمصالحم قبل تمسكهم بقوانين السلام وأخلاقياته، يفهم ان ما يجري انما يجري بحسب المقولة التي تقول: اذا اردت السلام فأعدد للحرب، في حين ان السلام الحقيقي لا يقوم الا على مقولة أخرى تقول: اذا اردت السلام فأعدد للسلام الحقيقي، وليس فقط للسلام المبني على توازن القوى، هذا السلام الحقيقي الذي يقوم على الحق والعدل بين ابناء الوطن الواحد وبين الدول والشعوب.
يتبع...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق