صلاح المختار
في هذا المقال سأخرج قليلا عن مجالي التقليدي ، رغم انني اكتبه من اجل ( مجالي ) لان المطلوب هو تسليط الاضواء ، بكافة الوانها ودرجات اطياف الالوان ، على مسرح العمليات الاكبر والحقيقي وليس فقط على معركة صاخبة ربما تكون وسيلة ابعاد نظرنا عن المعركة الاخطر ، من اجل معرفة حقيقة المعارك الحالية والسابقة والمستقبلية والاهداف المخفية لها والوسائل التمويهية المستخدمة لاخفاء تلك الاهداف ، فما لم نعرف حقيقة ما يخفيه العدو او الاعداء المشتركين ، او يقولوه ولكن بصورة مموهة او مبتورة او ناقصة او ملغزة ، فسوف نبقى نتخبط في دياجير ظلام مفروض ومتعمد ومن ثم سنخسر حتى المعارك التي نضمن الانتصار فيها .
ان ام معاركنا الحالية التي ابتدأت في حرب عام 1991 ، وكل معارك العالم الاساسية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي هي ، في المقام الاول ، معارك مخابرات بمعناها الاوسع ، والذي تستخدم في اللغة الانكليزية كلمة ذكاء Intelligence لوصفها ليس بمعناها الفني الضيق اي العمل الامني Security ، لان معركتنا تحدد مساراتها ونتائجها امكانية كل طرف على التفوق على الاخرين بالمعلومات اساسا ، ومرة اخرى لابد من التوضيح : ليس المعلومات بمعناها الامني ، اي تجميع معلومات عن افراد او امم بشكل عام لكشف اسرارها ، بل المعلومات كمنظومة جبارة لاعادة تشكيل ادمغتنا فتتغير طرق تفكيرنا وخياراتنا عبر غسيل جماعي لادمغة الناس على مستوى الكرة الارضية ، ويلعب ابتكار وسائل سرية او مموهة لتدمير الخصم نفسيا وثقافيا وتربويا دورا حاسما قبل الاقدام على تدميره عسكريا ، وربما يكفي التدمير النفسي والفكري والتربوي لتحقيق النصر بلا استخدام القوة العسكرية مثلما حصل في اوربا الشرقية .
في اللحظة التي تزرع فيها الشك والاضطراب والتناقض وعدم اليقين بمعتقدات وقيم العدو ، شعبا او فئة او فردا ، تبدأ رحلة انتصارك وهزيمته ، فحروب عصرنا هي حروب معتقدات يمثل كل منها مصالح معينة معروفة ، وبما ان المعتقدات ثمرة تربية واعداد الاف السنين ، وعلى الاقل مئات السنين ، والفرد ما ان يلد حتى يبدا بتلقي دروس عملية تزرع مفاهيمه وقيمه ونوازعه الاجتماعية والفكرية وتحدد ميوله النفسية ...الخ ، لذلك فان الانتصار الساحق وبأقل الاثمان مشروط بمعرفة بنية وعي الطرف الاخر المنبثق من منظومة قيمية ومعتقدية وتحديد طرق التأثير عليه وفيه ، وهنا تبرز قيمة ودور الذكاء .
أيهما اهم الايديولوجيا ام الهوية ؟
لنبدأ من فكرة لابد من تسليط الاضواء عليها لانها تكاد ان تكون مهملة مع انها حيوية في فهم خصائص صراعنا الحالي ، وهي ان الصراع الامريكي السوفيتي كان صراع قوتين متناقضتين ايديولوجيا ، والتناقض الايديولوجي هذا هو تناقض ايديولوجيات دنيوية صرفة ، فالراسمالية نظام اقتصادي اجتماعي مناقض لنظام اخر هو الاخر نظام اقتصادي اجتماعي ، اي النظام الاشتراكي ( الشيوعي ) ، ورغم ان النظام الثاني كان يضفي على نفسه صفات اخلاقية معروفة كانهاء الظلم والاستغلال ، الا ان هذه الايديولوجية عمرها قصير جدا وبدا في نهاية القرن التاسع عشر ، وهي لذلك عبارة عن موجة فكرية كان يمكن ان تكتسب بعض عناصر الديمومة والرسوخ لو ان النظم الشيوعية في اوربا الشرقية مثلتها حقا ولم تنحرف عنها .
ان ما يدوم ويترسخ في وجدان الناس وضمائرهم لعدة عقود يتحول بمرور الزمن الى منظومات قيم وتقاليد متوارثة ، واكتمال هذا التراكم الكمي للقيم وتحوله الى نقلة نوعية في وعي الناس يحتاج لمئات بل لالاف السنين ، وعندما تتحقق النقلة النوعية في بنية الوعي الاجتماعي يصبح طبيعة ثانية من المستحيل تغييرها بقرار سلطوي حتى لو استخدمت اشد شكال العنف المادي . والقيم والتقاليد ( الشيوعية ) في نظم اوربا الشرقية لم تمر عليها سوى سبعة عقود تقريبا وهي فترة كافية لخلق موجة توتر وعي جديد طاغية لكنها ليست كافية لبلورة تقاليد نفسية وقيمية متوارثة جيلا بعد جيل ، بتعبير اخر انه كان وعيا طارئا وانيا ولم يكن وعيا متبلورا ومتجذرا ، الامر الذي جعل الفساد يضرب احزاب وانظمة اوربا الشرقية ويبعدها عن العقيدة الماركسية – اللينينية ، وكانت النتجية تقوضها من الداخل بعد مناوشات وصراعات معروفة .
ولعل المثال الاكثر بؤسا لحقيقة ان الطبيب حينما يبدأ بعلاج انسان ثم يتوقف في منتصف الطريق فان المرض يستفحل ويصبح قاتلا ، وهذا ما رأيناه في مصير اغلب الاحزاب الشيوعية العربية المأساوي ، فهذه الاحزاب التي كانت طليعة الصدام مع الاستعمار القديم والامبريالية الامريكية والاداة الاكثر صلابة وطاعة للمخابرات السوفيتية انتقلت بلا تردد وبدون مرحلة انتقالية طويلة يعاد فيها تشكيل الوعي الانساني الى خدمة المخابرات الامريكية مباشرة وصارت من دعاة العولمة واللبرلة والطائفية والقبلية ...الخ لان الوعي الطائفي والديني والقبلي متكون ومتبلور واقدم من ثقافة ماركسية لقنوا اياها خلال بضعة اعوام ، وطلقت ( طلاقا بائنا ) عقيدتها ، واصبح قسما كبير جدا من المناضلين الشيوعيين العرب اداوت للاحتلال الامريكي ، كما حصل للحزب الشيوعي العراقي الذي تميز اغلب مثقفوه بعد الاحتلال باصابتهم بجرثومة الامركة تماما كما اصابتهم فورة التمركس ورأينا اشدهم تطرفا عندما كان شيوعيا اشدهم تطرفا في دعم وتبرير غزوات امريكا التي كانت امبريالية واستعمارية واصبح انتماءه الطائفي والعرقي محركا لا يقاوم !
ان جذر هذه المأساة لايكمن في المصالح الانانية والنزعات الانتهازية ، فتلك ليست سوى مظهر لازمة اعمق هي ازمة بنية وعيهم الاجتماعي ، فبنية وعي هؤلاء الماركسي كان مجرد قشرة خارجية تخفي تحتها كافة اشكال القيم والعقائد والمؤثرات السابقة للوطنية والامة من طائفية وعرقية ومناطقية وقبلية ...الخ .
اذن في الصراع الشيوعي الرأسمالي كانت امريكا تواجه انظمة شيوعية ليس لديها قيم وتقاليد راسخة وعقيدة راسخة ومتكونة بنيويا وهي حقيقة اثبتها واقع الحال ، اما الان وبعد التخلص من العقبة السوفيتية وتحول الشوعية الصينية الى نظام طغى عليه مفهوم المصلحة القومية ، فان امريكا تواجه عالما اخرا لا تستطيع السيطرة عليه وتحقيق حلمها الاعز والاقدم وهو امركة العالم لانها بمواجهة عالم متكون القيم والتقاليد وهو محصن ذاتيا ضد الغزوات الفكرية والنفسية حتى لو كان مكشوفا عسكريا واقتصاديا وامنيا ، فالامركة مستحيلة الا اذا غيرت التكوينات النفسية والثقافية والقيمية في العالم خصوصا في اممه العريقة ذات الحضارات القديمة والراسخة القيم والتقاليد والعقائد الدينية ، مثل الامم العربية والصينية والفارسية ، وغيرها وعراقة تلك الامم المتمثلة بهويتها القومية مستقلة عن شعوبها لانها بنية وعي هذه الشعوب ولذلك فمعركة الامركة ليست مثل معركة دحر نظام طارئ زمنيا كالنظام الشيوعي بل هي اصعب بكثير واخطر اكثر .
ان تقاليد وقيم وثقافات العالم الاكثر تغلغلا ورسوخا في نفوس الناس قومية ودينية ، فالتربية الدينية مقدسة ولا تمس ومن يمسها يحكم على نفسه بالعزلة والادانة ، والتربية القومية مقدسة ايضا وهي تضع قيم الوطنية مقابل الخيانة وتميز بقوة وحزم بين قدسية الوطنية وعار الخيانة ، والشعوب توارثت تلك التربية الدينية والقومية مئات والاف السنين ، ولهذا فان امريكا تواجه عقبات اخطر بكثير من التحدي الشيوعي السابق فهي تواجه الانسان بجمعيته الواعية واللاواعية ممثلة بالامة والقومية والدين ، ولا تواجه فقط نظما يمكن اسقاطها ولكن اسقاطها لا يزيل عقبة المكونات العقائدية والنفسية الراسخة بعكس نظم اوربا الشرقية التي ما ان انهار النظام الشيوعي حتى ارتدت الى عصر الانحلال وتفكك الهوية والسبب انها شعوب بلا حضارات قديمة توفر لها الهوية المتجذرة .
ومما يزيد ازمة امريكا الكونية منذ انهار الاتحاد السوفيتي هي انها تواجه مشكلة اساسية تحبط مسعاها لامركة العالم وهي انها ليست امة بل امة في طور النشوء والتكون وعمرها اقل من 300 عام ، لذلك فانها بلا هوية تمنحها عقيدة او عقائد راسخة وتوفر لها مكونات نفسية وثقافية مشتركة ، ومكوناتها البشرية مازالت تحتفظ باصولها القومية والدينية والثقافية والفكرية والقيمية رغم التناقضات الهائلة بين تلك المكونات ، واصل تماسك امريكا الرئيس وربما الوحيد هو سلسلة رشوات الرخاء والفرص في شركة كبرى تجتذب من ليس لديه فرص عمل فينخرط فيها ويندمج بدوامة وعيها التجاري الصرف . لذلك فان ابناء تلك ( الدولة ) ما ان يواجهوا مصاعب الموت وعذابات معاناة الفقر وزوال الرخاء والاستهلاك حتى ينقلبوا على (امتهم ) ويبدأوا بالهجرة منها بنفس الحماس الذي اجبرهم على الهجرة اليها .
امريكا هي بالضبط الشركة العملاقة الغنية والمتقدمة الوسائل على غيرها ، لكنها المفككة داخليا والمجمعة او للدقة الملصوقة بغراء مصلحي فقط ، لذلك فانها وهي تواجه امما وشعوبا متماسكة ومتكونة نفسيا وقيميا وثقافيا واجتماعيا منذ مئات والاف السنين ويصعب اخضاعها بالقوة تقف امام تحد لم يسبق لها مواجهة مثله ، وتجربة العراق شاهد على ذلك اذ رغم تدمير العراق ونسف مقومات الحياة الانسانية فيه فان الانسان العراقي الاصيل مازال انسانا عراقيا ويقاوم من اجل قيمه وعقائده وهويته ، وحاله لو اصاب امريكا 1% منه لتفككت خلال اقل من عام ، اذن امريكا هذه تواجه مأزقا خطيرا جدا وهو انها تقاتل شعوبا متكونة ومحصنة بهوية وليس بمصالح شكرة تجارية ، لهذا عليها العثور على حل فعال لمأزقها .
ماذا على امريكا ان تفعل من اجل الانتصار على الانسان المعتق والمعجون بمكونات العقائد البنيوية ؟ عليها لاجل الانتصار في معركة القيم والعقائد الدينية والقومية ان تحطم تلك القيم والعقائد اولا وقبل كل شيء لانها القلعة الحصينة لتلك الشعوب ، لذلك يجب ان تستخدم اسلحة من نوع اخر مختلف تماما عن اسلحة حروبها مع الشيوعية ، وان تتوقع فترات زمنية طويلة نسبيا لتحقيق بعض الاهداف ، واول ما يجب ان تستهدفه امريكا هو منظومة القيم والعقائد الراسخة لانها تشكل حصون الانسان الاكثر قوة ومقاومة للغزو الفكري والنفسي، فاذا حطمت الحصون النفسية والعقائدية والقيمية للشعوب المستهدفة فان غزوها يصبح ممكنا .
ماهي الاسلحة الجديدة التي يجب ان تنجح في تحييد الدين وقيمه وقدسيته ؟ وما هي الاسلحة التي تستطيع القضاء على ، او اضعاف فكرة ان الخيانة الوطنية عار وشنار وجعلها مجرد وجهة نظر في عصر الانفلات القيمي ؟ الجواب السهل هو تغيير قناعات الناس الدينية والقومية . ولئن كان الجواب سهلا فان امكانية تطبيقه تبدو صعبة ان لم تكن مستحيلة ، وهنا تبدا رحلة استخدام الطرق الخلفية للوصول الى الهدف الستراتيجي الامريكي – الصهيوني – الايراني المشترك . وهنا يطرح سؤال منطقي وهو : ما هي الطرق الخلفية التي تستخدمها امريكا لتحقيق النجاح في اضعاف القيم الدينية والقومية بصفتها اهم العقبات التي تمنع هيمنتها على العالم ؟
يتبع ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق