القس لوسيان جميل
المقدمة: اعزائي القراء! على الرغم من ان هذا المقال لا يحمل عنوان المقال السابق: عن القومية العربية مجددا، الا انه في الواقع فرع منه وتتمة له، الأمر الذي يعمق ذلك المقال ويجعله اكثر غنى. اما اهمية مثل هذا المقال فتأتي من كون الكثيرين من ابناء الشعب العراقي ومن غير العراقي، سواء كانوا من الأغلبية ام كانوا من الأقليات الطائفية والقومية، يتكلمون عن القومية كلاما سياسيا فيه كثير من الالتباس والتضليل ومن قلة الانصاف، وذلك لأمر في نفس يعقوب.
وبما ان الكلام عن القومية يقترن بالتباس كبير بين القومية والوطنية، فقد رأينا ان يكون هذا المقال بعنوان: بين الوطنية والقومية، لكي يستطيع القوميون، كما يسمونهم، او من يحملون الهوية العربية، بمراحلها الراهنة، ان يميزوا بين عروبتهم ووطنيتهم، ولا يخلطوا بينهما خلطا عشوائيا ولا يفصلوا بينهما، حيث يتوجب التمييز فقط، كما فعل كثير من ابناء العراق، كما عرفناهم، بعد الاحتلال، ويفعلون الى حد هذا اليوم، سواء كان ذلك عن جهل ام عن عمد، وكما يفعل الاعلام المتأمرك المعادي للوطنية وللقومية في آن معا، مفضلين التسميات التي يريدها للعراق السيد الأمريكي، والعلَم الذي يريده له هذا المحتل الغاشم، والنظام السياسي الذي يتوافق مع مصالحه العدوانية.
بين الهوية الوطنية والهوية العربية: عندما وضعنا فقرة بين الهوية الوطنية والهوية العربية، كان ذلك من اجل ان نجد العلاقة بين هاتين المفردتين، على ضوء المقال السابق: عن القومية العربية مجددا. علما بأننا بهذه الفقرة لا ننوي استبعاد المعاني الأخرى الكثيرة التي يمكن ان تقال في موضوع الهوية العربية، مثل بعد الدين وبعد التجانس الحضاري وبعد التاريخ المشترك، وغير ذلك مما يدخل في تعريف القومية والهوية العربية والوطنية معا، ومن ذلك السكن المشترك والطوعي في رقعة جغرافية معينة: هي الوطن العربي هنا، بمفهومه الواسع الذي تكلمنا عنه في المقال السابق، والذي يضم كل الذين كانوا قاطنين في الماضي البعيد في الجزيرة العربية مثل لآشوريين والأكديين والكلدان وغيرهم، ممن هاجروا من تلك الجزيرة الى ارض الجوار الخصبة: وادي الرافدين والهلال الخصيب، ومن الذين كونوا حضارات مهمة في زمانها، سادت ثم بادت واندثرت، وانقسم مواطنو تلك الامبراطوريات الى انتماءات جديدة ومتعددة.
من هنا نرى ان العروبة حالة اجتماعية ثابتة، على اساسها تشكلت المراحل التالية: الأمم الدينية: اي الأمم الآشورية والبابلية خاصة، ومن بعدها الأمة العربية الاسلامية التي قضت على التوسع الفارسي في المنطقة العربية. وهنا لا نتردد في ان ننظر الى جميع هذه الأمم الدينية بعين النظرة التي ننظر بها الى الأوطان، حيث كانت المفردتان تتساويان تقريبا.
اما الأوطان الحالية المنبثقة عن الأمم الدينية السابقة، شرقية كانت ام غربية، فهي عبارة عن صورة حضارية وسياسية جديدة، ربما ليس بتمزقها، ولكن بكونها لم تعد امما ثيوقراطية، كما كانت الأمم قديما، بل بكونها امما انتقلت من النظام الديني الثيوقراطي الى النظام الديمقراطي المبني على عقل الانسان وعلى خياراته الحرة، بأعمق معاني الحرية.
بناء على ذلك باستطاعتنا ان نقول ان الوطن هو امة مصغرة يكاد ان يكون صورة لأمته الدينية القديمة، لولا انه يتميز عنها بخصوصيات اقتبسها من وضعه الجديد، ومن ذلك انه يتميز عن امته القديمة بديمقراطيته، بمعنى حكم الشعب، بغض النظر عما يسمى التعددية السياسية Pluralité politique.
غير ان حكم الشعب الديمقراطي هذا، لا يعني استبعاد الفضائل الانسانية عن المجال السياسي والاجتماعي، كالحق والخير والعدل والمحبة والمساواة وحب السلام وغير ذلك، كما تفعل العلمانية الغربية، طالما نعرف ان الله يكون حاضرا في هذه الفضائل المشتركة بين البشر، وانما يعني فقط استبعاد طرق تطبيق هذه الفضائل، عندما يظهر للإنسان ان طرق تطبيق تلك الفضائل اصبحت قديمة لا تتلاءم مع مستجدات الانسان، او لا تتلاءم مع حياة الانسان المعاصر المعرضة للتغيير المستمر، الأمر الذي يدعى تأوينا وتحديثا. وعليه، وبناء على هذا الطرح الذي ليس جديدا ابدا، يمكننا ان نقول ان اية خيارات سياسية او اجتماعية لا تكون خيارات انسانية وناجحة، الا بعد ان تُدخل الفضائل الانسانية ذوات الصبغة الالهية في حساباتها، وذلك عن طريق المؤمنين انفسهم، بمساعدة روحية وعقلانية من الأديان، وبحوار مع اصحاب الشأن المتلقين للتوجيهات الروحية، ومساعدة المصلحين وحاملي مبادئ الحق والخير والجمال في نفوسهم، في حين كان اهتمام الأديان في عهد الأمم الدينية اهتماما بالأمة نفسها وبكل ما يحفظ وحدتها وسيادتها وازدهارها، قبل اهتمامهم بالإنسان نفسه الا بقدر العمل على اندماج هذا الانسان الكامل بأمته الدينية. اما الآن فإلى القراء الكرام بعض الأمثلة التوضيحية التي ترمز الى طبيعة العلاقة بين الأمة وبين الوطن.
1 – مثال المرآة وقطعها الصغيرة: لكي نفهم العلاقة بين الهوية الوطنية وهوية العروبة، رأينا ابتداء ان نقدم للقارئ الكريم مثال المرآة الكبيرة وقطعها الصغيرة، من اجل فهم افضل للعلاقة المذكورة، حيث تشترك جميع قطع المرآة الصغيرة بعد ان تكسرت وانفصلت عن المرآة الأم بصفة المرآة الكبيرة الجوهرية، كما يقال في الفلسفة، وفي كثير من الاعتبارات اللاهوتية. وبذا تستحق جميع القطع الصغيرة تعريفا اساسيا وجوهريا واحدا، هو تعريف المرآة، على الرغم من التباين في حجمها وشكلها. فالمرآة هو الاسم لكل قطعة من القطع المذكورة، وهو تعريفها او تحديدها، وهو هويتها، كما ان هذا التعريف- او الهوية - كان ينطبق على المرآة عندما كانت قطعة واحدة كبيرة، مع افتراضنا ان الحجم هنا لا يرتدي اهمية جوهرية.
ويقينا ان القارئ العزيز فهم مغزى التشبيه قبل ان نقدنه له. ولكن مع هذا نقول ان قطعة المرآة الكبيرة تمثل الأمة العربية، سواء عندما كانت قبائل متفرقة او عندما صارت امة دينية منظمة وجامعة لكل قبائلها، قبل ان تتفكك وتنقسم الى قطع صغيرة. اما الوطن فهو شبيه بأية قطعة من القطع الصغيرة بعد انكسارها وتفتتها، هذه القطع التي تحمل كل واحدة منها صفات القطعة الكبرى تقريبا، وتحمل التعريف عينه في اساسياته، في حين تحمل هوية كل قطعة بمفردها الخصوصيات التي تميزها عن الهويات الصغيرة الأخرى، هذه الخصوصيات غير الأساسية التي هي عرضة للتغيير مع مرور الزمن وتغير الحضارة.
2- الخبز المقدس وماء زمزم المبارك: اما التشبيه الثاني فأستعيره من رمز مسيحي قد نجد ما يماثله في جميع الأديان، وان بصور متباينة. فنحن في المسيحية عندنا طقس رمزي تمارسه جميع الكنائس تقريبا نسميه سر القربان، او علامة القربان المقدسة Le Saint Sacrement.
والقربان هو قطعة خبز طبيعية، ولكن من خلال طقس انثروبولوجي روحي معين تستحيل قطعة الخبز هذه، بعين المؤمنين، الى رمز لشخص السيد المسيح، بكونه صار طعاما روحيا يُشبع المؤمنين، كما صار مخلصا لهم من عبودية امتهم اليهودية القديمة وأفكارها البالية.
غير ان ما يهمني الان في هذا المثل هو ان قطعة الخبز الواحدة هذه، يمكن ان تكسر وتقسم لكي يشترك بها مؤمنون كثيرون. فهل يتبدل اسم الخبز المقدس هذا، يا ترى، عند كسره وتقطيعه الى قطع اصغر؟ الجواب ان كل قطعة تبقى محتفظة بصفات العلامة والرمز المقدس، ما دامت قطعة الخبز هذه محتفظة بهويتها وباسمها: الخبز. فخبز القربان هذا يتحول الى رمز: هذا الرمز الذي لا يتغير بسبب حجمه وشكل مادته العرضي، وذلك لأن المحبة التي يمثلها الرمز لا تقاس بحجم المادة المستخدمة التي تحمل الرمز.
غير اني، وأنا اكتب الكلمات اعلاه عن القربان قفز الى فكري مثال آخر من الأمة العربية الاسلامية، كثير الشبه بمثال القربان في المسيحية، كون المثالين يأتيان من عالم الرموز الروحية. اما هذا المثال فهو مثال "ماء بئر زمزم" .
فهذا المثال يقول ان هذا الماء المقدس او المبارك هو ماء واحد ويؤخذ من بئر واحدة، لكن ملايين من البشر تشرب منه تبركا وتقربا إلى الله.
اما الآن فبقي ان نقول ان هناك تماثلا كبيرا بين الأوطان الصغيرة المنبثقة عن الأمة الواحدة والمشتركة معها في هويتها، وبين القربان المسيحي الواحد وماء بئر زمزم الواحد الذَين يقسَمان بين ملايين البشر. انه هنا حكم الرموز حقا. ولكن يبقى من حقنا ان نسأل في ختام هذه الفقرة ونقول: ترى أيمكن ان يؤول حال الأوطان الصغيرة الى الفرقة التي نراها اليوم، في حين تدعو جميع رموزها انثروبولوجيا الى المشاركة والوحدة؟
3- مثال اللوحة الفنية ونسخها: في هذا المثال يمكننا ان نشبه اللوحة الفنية بالأمة الدينية، فيما يمكننا ان نشبه اللوحات الكثيرة المستنسخة بالأوطان، حيث تصير النسخة الأولى الموديل الذي يلهم الفنانين لرسم لوحاتهم المتعددة والتي تحفظ جميعها كثيرا من الملامح الأساسية للموديل، او النموذج، مع زيادة او نقصان في سمات اللوحات المستنسخة، حسب رغبة الرسام وكفاءته.
وهكذا نلاحظ ان الأوطان المتعددة المنبثقة من أمة واحدة لا نعدها اوطانا حقيقية الا بعد ان نجد فيها الملامح الأساسية لنموذجها الأول (الموديل)، مع حتمية وجود فوارق عديدة بين كل وطن وأمته النموذج، وبين وطن وآخر من الأوطان المنبثقة عن الأمة النموذج الأصلية.
اما الآن فإذا افترضنا ان هذه اللوحات مرسومة على الواح زجاجية، ومن ثم اتى انسان خبيث ومسح الرسوم وأبقى الألواح الزجاجية المستنسخة عن النموذج الأول وحدها، فماذا يحصل يا ترى؟ ان ما يحصل هو ان تفقد اللوحات " حقيقتها " كلها ولا يبقى منها غير الألواح الزجاجية التي لا تساوي قيمتها اكثر من قيمة الزجاج نفسه. اما عندما يضع الانسان الخبيث رسوما اخرى بديلة للرسم الأصلي، فتكون الكارثة " اعظم " ، لأن الانسان الخبيث لم يكتف بمسح هوية اللوحات وإزالة تعريفها ومعناها، لكنه زورها ايضا، وهو الأمر الذي حصل عندنا في العراق بعد الاحتلال. وهكذا تفقد الأوطان معناها الحقيقي وتفقد هويتها اذا تم مسح بعض ابعادها، او مسحها كلها، او تم تزوير ومسخ هذه الابعاد.
4- مثال من مفهومي البشري والإنساني: تعلمنا البنيوية ان في الانسان بنيتين متلازمتين، تقع احداهما بين بنى الانسان التحتية وتقع الأخرى بين بنى الانسان العليا. فالإنسان الفرد البشري او الجسدي ( من بسرا اللحم ) هو المكان المادي والوعاء الذي فيه تنتظم جميع الأبعاد بشكل بنيوي غاية في التنسيق. اما هذا الانسان فيكون بمثابة حامل للشخص الانساني الذي يقع ضمن البنى العليا، ويكون محمولا من قبل الفرد individu البشري المادي. وبهذا المعنى يكون الفرد البشري هو المخدوم الثابت، بينما يكون الشخص الانساني هو الخادم المتحرك الواقع تحت نظام الصيرورة. علما بأن الذات الانسانية التي تقع بين البنى العليا والمنظومة تصير حلقة وصل بين وجود الفرد (المنظومة) وأبعاده المتعددة.
اما خلاصة التحليل السابق فتدعونا الى مقارنة تماثلية، ليس فقط بين شبيهين، ولكن بين حقيقتين مشتقتين انثروبولوجيا من بعضها البعض وهما: حقيقة الفرد البشري كما وصفناه بعلاقته مع الشخص الانساني، وحقيقة المجتمع بماديته المعتمدة على الأفراد والأمم والشعوب، كل منها كحامل " لشخص " الفرد او لشخصية أمة معينة وشعب معين، سواء عندما كانت هذه الأمة ( الشعب ) مجرد عشائر وأقوام ام كانت أمة دينية عربية اسلامية، لم تتردد ان تحوي بين ظهرانيها كل الأشخاص والطوائف التي لم تتمكن من الدخول في دين الأمة، وأخيرا عندما صارت الأمة اوطانا متعددة تشترك جميعها في خصائص الأمة بقدر ما يبقى ابناء الوطن اوفياء لأمتهم ومعتزين بها، هذا الاعتزاز الذي يعني محبة الأمة والوطن، ويعني التمسك بالسيادة وبكل تراث وغنى الأمة، سواء كانت في حالة قوة ام ضعف.
سمات الشخص الانساني وشخص المجتمع: وقد يظهر تطور هوية الفرد البشري، ومعه تطور الشخص الانساني على " وجه " هذا الانسان بحسب النظرة الاولى، الا ان عملية تحول الفرد البشري الى شخص انساني عملية باطنية تشمل جميع بنى structuresالانسان السفلى والعليا: الجسد- العقل- الارادة – المشاعر الخ... علما بأن هوية الانسان الحقيقية هي هوية داخلية خفية اكثر منها هوية خارجية سطحية.
ولكن هل يمكن مسخ هذه الهوية وتحويل الانسان الى كتلة من اللحم والعظام، كما حدث مع اللوحات الفنية في المثل في الفقرات اعلاه؟ يقينا يمكن ذلك وبدرجات متفاوتة، وهذا هو سر الانسان الكبير: سر عظمته وسر شقائه وتفاهته في الوقت عينه. علما بان عملية المَسخ هذه يمكن ان تحدث للمجتمعات وللأمم وللأوطان ايضا، بحسب عين الأسس والقوانين التي تحدث فيها عملية مسخ هوية الفرد الانساني: اي شخصه. وهنا دعوة قصيرة للتأمل بما حدث عندنا وفي البلدان العربية التي سمي ما حدث فيها بالربيع العربي، مع الأسف.
الخاتمـة: عندما رفض السيد المسيح شريعة الطلاق اليهودية تقدم اليه تلاميذه وقالوا له: اذا كان الأمر هكذا فخير للإنسان ان لا يتزوج. فقال لهم يسوع: لا يفهم هذا الكلام (يعني سر الوحدة والحب) الا من أعطي له. هنا اقول لأعزائي القراء بأن ما كتبته لهم في هذا المقال لم اكتبه استنادا الى عقلي وحده، لكني كتبته بوحي من مشاعري ومن ايماني ايضا، بنعمة الله وحمده. وبعد هذا اذا وجد كثيرون لا يستطيعون او لا يريدون فهم هذا الكلام من كل الأديان والطوائف والهويات فذاك من سوء حظهم بالتأكيد. اما من جانبي فلا املك سوى ان اردد ما قاله يسوع في انجيله: لا يفهم هذا الكلام الا من اعطي له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق