مثنى عبداللههطلت علينا المبادرات السلمية للساسة العراقيين للتغطية على مجزرة شهر تموز/ يوليو المنصرم، التي راح ضحيتها 1057 شخصا، وأصيب فيها 2363 حسب احصائيات الامم المتحدة.
فمن مبادرة "السلم الاجتماعي في العراق" لنائب الرئيس، الى مبادرة نائب رئيس الوزراء وقبلهما عشرات حفلات العناق والمبادرات ووثائق الشرف التي وضعت عليها مئات التواقيع ثم جفت بدون فعل، لكن الدم العراقي لم يجف على أديم هذه الارض المبتلاة باللصوص ومافيات القتل العشوائي.
بيانات وتصريحات وأرقام تعلن عن مقارنات بين كمية دمائنا النازفة في هذا الشهر والذي قبله وفي هذه السنة وما قبلها، حتى بتنا مجرد احصائيات وخطوط بيانية تقفز مرتفعة من دون انخفاض، كي تقول الامم المتحدة بأنها تعمل على الارض، وأن لها وجودا فاعلا في هذا البلد، لكن من يعرف عدد أيتامنا وأراملنا ومعاقينا والافواه المفتوحة بعد قطع الارزاق والاعناق، بسبب تلك الوقائع؟ لا أحد، لانها عصية على الجمع والاحصاء بعد أن أصبحت موجودة في كل بيت عراقي، بل ان الجهات التي تصدر تلك الاحصائيات هي التي كانت شريكا أساسيا في صنع هذا الواقع منذ لحظة الغزو والاحتلال، ثم من خلال أضفائها الشرعية القانونية على حكومة تقتل شعبنا يوميا، لذلك هم يكتفون بتقديم الدعوة (العاجلة الى القادة السياسيين في العراق الى التحرك لاتخاذ إجراءات فورية وحاسمة لوقف سفك الدماء الذي لا معنى له) حسب بيانهم الاخير، الذي لا يخلو من الكذب والنفاق السياسي على حساب القيم الانسانية التي يتغنون بها.
فهل بعد اليوم يوجد انسان عاقل لا يعرف أن هؤلاء القادة السياسيين هم الذين يقتلون شعبنا فكيف يتحركون لايقاف سفك الدماء؟ أليست دماء وأموال وأعراض الشعوب هي أمانة في عنق الحاكم وعليه حقنها وصونها والحفاظ عليها، حسب شرعة الامم المتحدة وحقوق الانسان والديمقراطيات الغربية؟ أذن لماذا تستخف هذه المنظمة بدمائنا وتجامل أقزام المحتل؟ أنظروا الى ما قامت به السلطة التي تراهن عليها الامم المتحدة بعد مجزرة شهر يوليو الماضي، الذي اعتبر الاكثر دموية منذ بداية الغزو.
الطاغية يأمر قيادة عمليات بغداد بتنفيذ عمليات دهم وتفتيش في مناطق حزام بغداد للبحث عن المطلوبين وشن عمليات استباقية في تلك المناطق التي تعد منطلقا للارهابيين، حسب تعبيره.
فهل يعلم المبعوث الخاص للامين العام للامم المتحدة في العراق جورجي بوستن بأن هذه المناطق تتعرض لحملة ابادة بشرية منذ العام 2003، بدأتها القوات الامريكية واستمرت بها السلطة حتى اليوم؟ ان لم يكن يعلم فعليه الذهاب الى تلك المناطق ليرى بأم عينيه انه لا توجد عائلة الا وفقدت معيلها، قتلا أو اعتقالا أو تغييبا، وأن القاطنين هناك باتوا نساء وأطفالا فقط حتى أصبح العنصر الذكوري نادرا فيها، وأن بساتينها التي كانت سلة بغداد الغذائية اندثرت بعد ان جرفتها القوات الامريكية والعـــراقية، وباتت مقرات عسكرية للالوية والافواج التي تغير يوميا على مالكيها، ولم يعد فيها زرع يمكن ان يسد رمق انسان أو حيوان فنفقت مواشيها.
أليس هذا الفعل نوع من أنواع ابادة الجنس البشري؟ ولماذا يوصف سكنتها بأنهم ارهابيون دون الاخرين، أليس في ذلك حكم مسبق على أناس أبرياء تعطي السلطة ذريعة للاخرين من الميليشيات للقصاص منهم، بعد ان تم تصويرهم على أنهم سبب التفجيرات التي تطال الوطن؟ ان الجواب على هذين السؤالين بسيط جدا وهو أن السلطات الحالية سواء من أحزاب الاسلام السياسي الشيعي أو السني بات أهتمامها الاول هو الجغرافية الطائفية، لان النظام السياسي منقسم على نفسه وبيئته الطبيعية هي البيئات المضطربة الطاردة لتكامل مشروع الدولة وسيادة القانون والسلم، لذلك لابد من خلق جغرافية طائفية تسمى معادية وأخرى تسمى موالية يقابله هبوط للمؤسسات الوطنية.
ان تفاقم العوامل الاجتماعية بصورة لا تطاق يؤدي الى خلق وضع لا تحتمله الطبقات الدنيا في المجتمع، وبالتالي لن تستطيع الدوائر العليا مواصلة الحكم حتى لو استخدمت كل قواها العسكرية والشرطية والمخابراتية، فالتــــركيز على الروح الحربية في ايجاد الحلول واستبدال العدالة بالسجون، عواقبها ستكون خسائر وتأثيرات سلبية في صفوف الابرياء وهذا هو الحاصل في العراق، فبعد ملايين الشهداء والمعتقلين والمهجرين والمغيبين لازالت التفجيرات وحفلات القتل الجماعي في ازدياد مطرد، مما يعني فشل خيار السلطة في اعتبار القسوة هي العدالة، بل عليها أن تتوقع أن خيار العنف ضدها سيكون هو عدالة المضطهدين، خاصة عندما تسقط القطرة الاخيرة التي يفيض بعدها كأس الغضب الشعبي، الذي لن تخدعه المبادرات وولائم العناق بين ساسة فاشلين ومسؤولين لا يملكون أي قدر من متطلبات المسؤولية.
أقرأوا ما صرح به المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية كي تعرفوا في أيدي مَن وضع مصير العراق، انه يقول (ان السبب الرئيسي لزيادة الضحايا يعود الى أن التفجيرات تقع في الاهداف الاكثر سهولة التي يصعب حمايتها من قبل الاجهزة الامنية)، أي أنه يعتقد أن هذه الاهداف لو كانت محمية لما وقعت فيها التفجيرات، وهو بهذا الفهم الساذج يظن أن أحلال الامن يأتي بمسك الازقة والحارات والمدن والمؤسسات الكبيرة والصغيرة من قبل الاجهزة الامنية، وصولا الى وضع شرطي أمن قرب باب كل عراقي، لكن هل يمكن أن يجيبنا هذا المسؤول الامني عن سبب التفجيرات التي حصلت في أكثر الاماكن حماية أمنية، مثل الوزارات والمؤسسات الحكومية المهمة، وهل تلك أهداف سهلة ايضا؟ وماذا يقول في اقتحام سجني التاجي وأبو غريب المحاطين بثلاثة أطواق أمنية، هل هي أيضا أهداف سهلة على حد وصفه؟ اننا نقدم نصيحة مجانية الى كل القادة الامنيين كي يضعوا خطة اقتحام السجنين في مناهج كلية الاركان العراقية، كي يدرسوها ويتعلموا براعة التخطيط والتنفيذ، ويتخلصوا من أمية الوعي الامني الذي بات يكلف شعبنا الاف الضحايا شهريا، فالامن ليس قوة مدججة بالسلاح تمسك الارض، ولا سيطرات تسألك من أين أتيت والى أين أنت ذاهب وتعيق حركة المواطنين في حر لاهب، ولا سجونا سرية وعلنية ومحققين مرتشين واعدامات بالجملة.
لذلك لا غرابة عندما يقول عضو لجنة الامن والدفاع في البرلمان العراقي شوان محمد طه بان الجيش أصلا لا يستطيع حماية نفسه فكيف يحمي المواطنين، وأن قائد عمليات بغداد أكد له انه ليس لديه جيش مؤهل حتى للواجبات البسيطة لانه غير مدرب وغير مؤهل، وبالتالي يستطيع القول إنه لا يوجد جيش عراقي.
اذن هل هو ضحك على الذقون عندما يدعو الطاغية على مائدة الافطار قادة 18 فرقة عسكرية ويبارك لهم انجازاتهم الامنية؟ وأين ذهبت مليارات التسليح والتدريب داخل العراق وخارجه، خاصة في مدارس حلف الناتو العسكرية؟ ان الامن ليس صناعة خطة أمنية للامساك بهذا الجزء أو تلك المؤسسة، بل هو نتيجة منطقية تتحقق من مقدمات أساسية هي الوحدة المجتمعية والتناغم السياسي والقاعدة الاقتصادية المتينة ومقبولية الحاكم، لكننا نعاني اليوم من انهيارات في كل هذه الاسس، لأن النظام السياسي الحالي يساعد على ذلك، والقيادات العراقية قيادات أزمة تعتاش وتنتج وتستنسخ الازمات، وستظل حريصة على اعادة تدوير السلطة لصالحها، ان لم يغيير العراقيون هذه المعادلة.
أيها العراقيون لا تطلقوا النار على اقدامكم مرة اخرى فتعثروا بنفس الحجر، وتبقى دماؤكم أرقاما صماء في جداول الاحصائيات الدولية .
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق