في ثاني أوراقه الإيرانية، يعرض الأستاذ الدكتور عبدالستار الراوي الظروف التي رافقت صعود وانهيار نجم أول رئيس للجمهورية في إيران بعد العام 1979، أبو الحسن بني صدر، الذي انتهى به المطاف لاجئاً سياسياً في فرنسا، هارباً من جحيم نظام خميني الدموي، في العام 1981.
انها ورقة تاريخية جديرة بالاهتمام، تجدونها حصرياً على (وجهات نظر).
خيانة الامل
جمهورية بني صدر الاولى
جمهورية بني صدر الاولى
الأحلام الكبرى للشعب بالحرية وبالغد الواعد وبالحياة العادلة، لإقامة المجتمع السعيد، التقى الجميع حول مقولات الثورة، وهتفت لها وأيدتها القوى الوطنية الإيرانية من اليمين إلى اليسار، باركها الإسلامي والماركسي والليبرالي والقومي تعبيراً واقعياً عن معاناة الجماهير الإيرانية وأمانيها، تلك الجماهير التي شقت الطريق بنفسها، وقادت عملية التغيير في الحادي عشر من فبراير 1979.. وتصدر المشهد آية الله العظمى السيد الخميني وإلى جواره الدكتور أبو الحسن بني صدر، الذي اتخذه الخميني ولداً، عادا معاً من باريس إلى أرض الوطن.. وحين أصبح الأول قائداً للثورة بعد أن توَّجه أنصاره ولياً مرشداً، فيما انتخب الثاني بإجماع الشعب رئيساً للبلاد، وعندما شرعا السير على خط المستقبل اتفقا على الحرية والحاكمية الشعبية.. ولكن بعد حين اختلفا: الخميني يبحث عن مملكة الله بقيادة رجل الدين، وبني صدر يسعى لإقامة مدينة الإنسان في ظل قوانين العقل والحرية.. فافترقا، بعد أن انقلب الأب الروحي على ولده.. ولم يكن بوسع بني صدر الذي هدر دمه اللاهوت.. إلا الفرار بجلده.. خوفاً من بطش النظام.. وأعلن أسفه على الثورة وعلى أيامها، وعلى صفحات كتابه (خيانة الأمل) افتض بني صدر أسرار الخميني التي كانت غائبة عن الإعلام الدولي كلياً، وأكد ذلك في لقائه المباشر مع قناة الجزيرة.. يقول الرئيس الإيراني الأسبق: يمكن إيجاز خيانة الأمل بالوقائع الخمس الآتية:
أولاً: الخديعة الكبرى المتمثلة بانقلاب الخميني على الوعد الذي قطعه وهو يعلن أمام العالم أثناء وجوده في باريس: "إن الولاية لجمهور الشعب''، وليس لرجال الدين، ومسودة الدستور الإيراني الأولى بقلم حبيبي كتبت على أساس أن الولاية لجمهور الشعب، وليس لحساب الفقيه.. نقض الخميني العهد وتجاهل الوعد، فأقام مملكته حسب هواه وعززها بدستور لاهوتي جعل من الفقيه إلها آخر.
ثانيا: مسرحية الرهائن:
يقول الرئيس الأسبق بني صدر، (بعد خطف الرهائن مباشرة ذهبت إلى لقاء الخميني وانتقدته على هذا التصرف السئ، وقلت له: كيف باستطاعتكم القول إن خطف بعض الأمريكيين كرهائن هو عمل أكبر من ثورة الشعب؟.. وقلت له أيضاً: ليس من الشجاعة أخذ سفارة في بلدكم وأخذ الأمريكيين كرهائن، الحجة كانت يومها احتجازهم بضعة أيام وعندما تسلمون شاه إيران نسلمكم الرهائن، كان هذا الاتفاق مع الأمريكيين، وقبلت ذلك يومها والتقيت يومها وزير الخارجية لذلك السبب، وبعدما أصبحت رئيسا جاءني أحدهم لزيارتي وأعطاني شريطاً مسجلاً، كان السيد بهشتي يتكلم مع المقربين له في الفيلم والقصة أن عملية الرهائن كانت موجهة ضد الرئيس بني صدر وضد الرئيس كارتر، ذهبت لإطلاع الخميني على ذلك وأخبرته عن قصة رئيس مجلس القضاء الأعلى الذي عيَّنه وقد كان على حق بأن قضية الرهائن كانت لتقوية سلطة رجال الدين أكثر فأكثر لهذا السبب استخدموا الرهائن).
إن دراسات أمريكية حديثة تؤكد أن موضوع خطف الرهائن مسرحية أمريكية نفذت في إيران، حصل ذلك لخدمة مصالح الفريقين، الملالي في إيران، والحزب الجمهوري الامريكي.
والنتيجة كانت وصول الجمهوريين إلى السلطة، وقيل إن الخطة كانت من إعداد (هنري كيسنجر) ولم تكن بالتأكيد من إعداد الطلبة الثوار، لم نجد طالباً واحداً يحدثنا عن مخطط العملية حتى الآن!
ثالثا: الشيطان الأكبر: تم عقد العديد من اللقاءات السرية مع ممثلي الولايات المتحدة، وعهد إلى (رضا بسنديدة) وهو ابن شقيق الخميني، إجراء واحد من هذه اللقاءات في (مدريد) مع مسؤولين أمريكيين، ثم عاد إلى إيران وطلب مقابلة بني صدر، وقال له إنه كان في (مدريد) وطلب الأمريكيون لقاءه، وأعطوه اقتراحات. وقال لبني صدر: إذا قبلتها سوف يلبي (ريجان) جميع طلبات إيران بمجرد وصولهم إلى البيت الابيض!!
رابعاً: فضيحة إيران غيت: يقول بني صدر: (في اجتماع المجلس العسكري أعلمنا وزير الدفاع أننا بصدد شراء أسلحة من إسرائيل، عجباً كيف يعقل ذلك؟! سألته: من سمح لك بذلك؟ أجابني: الإمام الخميني: قلت: هذا مستحيل!! قال: إنني لا أجرؤ على عمل ذلك وحدي، سارعت للقاء الخميني، وسألته: هل سمحت بذلك؟ أجابني: نعم، إن الإسلام يسمح بذلك، وأضاف قائلاً: إن الحرب هي الحرب، صعقت لذلك صحيح أن الحرب هي الحرب، ولكن أعتقد أن حربنا نظيفة، الجهاد وهو أن تقنع الآخرين بوقف الحرب، والتوق إلى السلام، نعم، هذا الذي يجب عمله هو ليس الذهاب... ليس الذهاب إلى إسرائيل وشراء أسلحة منها لمحاربة العرب، لا، لن أرضى بذلك أبداً، حينها قال لي: إنك ضد الحرب وكان عليك أن تقودها لأنك في موقع الرئاسة).
خامسا: الحرب مع العراق: يقول بني صدر:
1 ـ (لقد أصبت بمرض على جبهة القتال لأنني لم أتحمل هذه الحرب الغبية، حاولت كثيرا إيقافها، والشاهد على ذلك أنه بعد مؤتمر عدم الانحياز كانت الحرب ستتوقف لأنني وافقت على مشروع لأربعة وزراء خارجية جاءوا إلى إيران بعد موافقة صدام حسين على ذلك ولكن رجال الدين في إيران كانوا يريدون استمرار الحرب).
2 ـ (بعد فشل مفاوضات ياسر عرفات مع صدام حسين، كانت هناك محاولات أخرى لوقف الحرب منها ما قام به الدكتور موسى الموسوي أرسله صدام حسين، قال لنا يومها مبعوث صدام: ها قد انتصرت الثورة الإسلامية وتخلصتم من الشاه دعونا نشيد السلام بين "العراق وإيران".. قلت للخميني: لنقبل اقتراحاته، لكنه رفض المفاوضات من أجل السلام، قائلا: لا إن نظام صدام حسين محكوم عليه بالسقوط، وسيسقط خلال ستة أشهر على الأكثر، ولكي نعفو عنه أرسل مبعوثه هذا)!!!.
كان الحسن بني صدر الذي أختير أول رئيس للجمهورية، حسب قول السيد الخميني، مفكر الثورة وابنه الروحي المقرب.. وحينما حاول الخروج من تحت عباءة الإمام المرشد تم إسقاطه وهروبه إلى باريس إذ مازال يعيش في منفاه حتى الآن. ففي الثانى والعشرين من يونيو (1981) صدق الخمينى على قرار البرلمان الإيراني بعزل أبو الحسن بنى صدر من منصبه كرئيس للجمهورية، بدأت الحكاية في مظاهر التنافس الذى احتدم بين حزب الجمهورية الإسلامية الذى أحكم هيمنته بالكامل على المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعلى أجهزة الإعلام، مستندا إلى قوة رجال الدين والمساجد والتنظيمات الدينية المسلحة، مثل الحرس الثوري وحزب الله ـ وبين رئيس الجمهورية أبو الحسن بنى صدر، الذى عول بصفة أساس على دعم عدد من القوى والتيارات السياسية المعارضة لحزب الجمهورية، وخاصة منظمة مجاهدى خلق.. وبعض قطاعات من الجيش والجماهير الشعبية التي أيدته ومنحته صوتها في انتخابات الرئاسة، ومعتمداً على جريدته الثورة الإسلامية للترويج لأفكاره، ولقد ظل هذا التنافس يحتدم حيناً ويخبو حيناً آخر إلى أن شهدت العشرون يوماً الأولى من يونيو عام 1981 آخر موجاته وأكثرها ضراوة وهى التى انتهت بعزل بنى صدر من رئاسة الجمهورية فبعد هدنة قصيرة، عاد الصراع على السلطة في إيران، إلى احتدام السجالات بين الطرفين الديني والمدني، ومما عمق أسباب الخلاف وعمل لتصعيده رئيس مجلس القضاء الأعلى، آية الله الدكتور بهشتي، الطامح إلى رئاسة، ورفيقيه هاشمى رفسنجاني وعلي خامنئي الذين كانوا يعارضون بني صدر بشدة. وواجه بني صدر منذ البداية جواً مناهضاً له في البرلمان وفي الصحافة والوسط الديني، بحيث رفض البرلمان مرشحيه لمنصب رئيس الوزراء، وفرض عليه محمد علي رجائي، المحسوب على التيار الديني. كما أن بني صدر كان يواجه أزمة بعد أزمة يومياً، ولكنه كان لمدة طويلة وخلال الـ15 شهراً التي حكم فيها يحظى بثقة الخميني ودعمه، لكنه ضاق بمنهجه الليبرالي المستقل وبملاحظاته النقدية على رجال الدين وتذمره الدائم من تدخلهم في سياسة الدولة، لهذه الاسباب وما قبلها قرر الخميني (الإستغناء عن بني صدر) بعد أن كان بمثابة إبنه الروحي، وكثيرا ما أشاد بموهبته في إدارة عجلة الحرب .. لكنه تناسى ذلك كله ، بعد أن بات يشكل خطرا على مستقبل ولاية الفقيه، وقد آزره على قراره رغبة رجال الدين أنفسهم ، فوجه مساعديه وأنصاره على طرح مشروع عدم كفاءة وأهلية بني صدر في البرلمان. هكذا تم عزل أول رئيس جمهورية لإيران الذي يعيش اليوم لاجئاً سياسياً في باريس .
وكان الخميني قد مهد لقراره عبر تصريحه الغاضب الذي أدلى به في 27 مايو 1981 وهو يلقي باللائمة على بني صدر، الذى كان يشكو من حكومة رجائي التي سلبته سلطاته، فقد حذر الخميني: (أن كل من يحاول اكتساب سلطات أكثر مما يخوله له الدستور، سوف يفقد تأييده ـ و ـ أن الذين يوجهون الانتقادات إلى الحكومة، يجب أن يعودوا إلى أوروبا أو الولايات المتحدة، أو أى مكان آخر يريدون التوجه إليه)..
فيما جاء رد فعل بني صدر على كلمة الخميني عكسياً، إذ ألقى خطاباً في القاعدة الجوية بشيراز قال فيه: (سوف أواصل الدفاع عن حرية البلاد واستقلالها، على الرغم من تصاعد الهجوم علي من رجال الدين والتهديدات المستمرة بمحاكمتي)، لم ينشر هذا الخطاب سوى صحيفة ميزان ـ
الليبرالية، في حين امتنعت وسائل الإعلام الأخرى عن الإشارة إليه ومنذ ذلك الحين، بدأت عملية حصار بني صدر وتضييق الخناق عليه، إذ انتهت المرحلة الأولى من هذا الحصار، بإقصائه عن منصب القائد العام للقوات المسلحة، لتبدأ مرحلة ثانية وأخيرة، انتهت بإقصائه عن رئاسة الجمهورية
في المرحلة الأولى: توالت خطوات عدة متتابعة:
ففي الأول من يونيو وجهت لجنة التحكيم الثلاثية (التى كان منوطاً بها بحث الخلاف بين بنى صدر وخصومه) الاتهام الرسمى للرئيس ـ بالعمل لنشر الانقسام السياسى داخل البلاد ـ وسجلت اللجنة على بني صدر، مخالفات دستورية صريحة عدة تتعارض مع توجيهات الأمام الخمينى، وفي حين ذكرت اللجنة أن صحيفة الثورة الإسلامية الناطقة باسم بنى صدر، تضم مقالات وتصريحات لا تنسجم مع النظام القائم، فأنها نفت أن يكون بنى صدر تعرض لأية حملات غير قانونية ـ ـ وكانت الخطوة التالية هى إلقاء السلطات الإيرانية القبض على (ما نوتشر مسعودي) أحد مساعدى بنى صدر، بتهم عديدة، مثل تهريب الأموال والأشخاص واستغلال النفوذ، وتقاضي رشاوى، وإطلاق سراح بعض المسجونين السياسيين من أعداء الثورة، وعندما رفض بني صدر الموافقة على ترشيحات رئيس الوزراء رجائى بشغل بعض المناصب الوزارية الشاغرة، شغل رجائي أحدها من دون الموافقة الرسمية لبني صدر. وفي السابع من يونيو، أصدرت محكمة الثورة في طهران، قراراً بإغلاق صحفيتي ـ الثورة الإسلامية ـ الناطقة باسم بنى صدر وميزان الليبرالية الناطقة باسم رئيس الوزراء السابق بازركان، وأربع صحف ومجلات أخرى لأجل غير مسمى، بذريعة نشر مقالات ساعدت على خلق جو من التوتر وعدم احترام تعليمات الأمام الخميني، التى تدعو إلى تجنب تدهور الموقف في إيران، وصاحب هذا القرار خروج مظاهرات ضخمة قام بها عشرات الآلاف من (حراس الثورة) ومليشيا حزب الله وقوات التعبئة، رددوا خلالها شعارات معادية لبنى صدر (من دون ذكر اسمه)ـ كما حملوا لافتات كتب عليها (الموت لمن يعادى بهشتى) زعيم حزب الجمهورية الإسلامية ورئيس الجهاز القضائى، وأحد خصوم بنى صدر الرئيسين ويمكن القول أن رد الفعل الذى أبداه بنى صدر إزاء هذه التطورات كلها، وخاصة إغلاق صحفيته، ساعد على إعطاء المسوغ للعناصر المتشددة، بل للخمينى نفسه، لتطويق بني صدر بإخماد صوته الإعلامي، فبادر بني صدر في الرد على إجراء المرشد بإصدار بيان شديد اللهجة خاطب فيه الشعب الإيراني، مؤكداً عدم شرعية قرار تعطيل الصحيفة، وأعلن: ها أنذا ألبي نداءكم الذى تناشدونني فيه الصمود، وسأعمل لأن تصلكم رسائلى بالسبل كافة، بما في ذلك أجهزة التسجيل والمنشورات.. إن الشىء المهم ليس تصفية رئيس الجمهورية، وإنما هو أن وحش القمع والاستبداد ما يزال يريد الهيمنة عليكم).. أثارت نبرة بني صدر التعبوية المفعمة بالتحدي مشاعر الغضب لدى صاحب الأمر، فجاء رد الفعل سريعاً وعاصفاً، سجلته ذاكرة اليوم التالي، إذ شهدت العاصمة أعمال عنف مسلح انقسم فيها المتظاهرون إلى معسكرين: بين مؤيدي الرئيس بنى صدر وبين الجماعات الموالية للفقيه إذ اشتبك المتظاهرون في قلب طهران بالسلاح الأبيض وبالرصاص عند هذا الحد، أعلن الخمينى بحزم قاطع (أنه لن يتردد في أن يقطع أيدى من تسول له نفسه الأضرار بمصالح الشعب الإيرانى والجمهورية الإسلامية)، وكانت هذه الكلمات بمنزلة الضوء الأخضر أمام مليشيات الفقيه، بعد أن وضع الخميني في دائرة الإتهام، بعد مرور أقل من أربع وعشرين ساعة، أصدر الخمينى قراره بإقصاء الرئيس بنى صدر من منصب القائد العام للقوات المسلحة، وهو المنصب الذى عين فيه فيما بعد الجنرال (ولي الله فلاحي) رئيس الأركان العامة للجيش، وكان عزل بنى صدر من منصبه هذا في الحقيقة هو الخطوة التى مهدت للمرحلة الأخيرة والنهائية في حصاره، وانتهت بعزله من الرئاسة. وكما قال بنى صدر في ذلك الحين إن المرحلة النهائية من الانقلاب التدريجي الذى أعده الفقيه، يأخذ طريقه الآن نحو التنفيذ بهدف إقالته من منصب الرئاسة واغتياله ـ ولذلك لم يكن غريباً أن يختفي بني صدر فعلياً منذ إقصائه من منصب القائد العام الجيش، وأخذت المعركة شكل هجوم من جانب واحد فلوح بهشتي بـ(أن بنى صدر قد يقدم للمحاكمة لانتهاكه الدستور) واجتاحت جماعات مليشيات حزب الله شوارع طهران، مطالبة بإعدام بني صدر، ثم فرضت قوات الحرس الإسلامى حصاراً محكماً حول مقر الرئاسة وفي الوقت الذى بدأت فيه إجراءات البرلمان ضد بنى صدر، شنت السلطات حملة واسعة النطاق للبحث عن الرئيس، وبيدو أن السماح لأحد أنصار بني صدر بإلقاء بيان صادر عنه في جلسة البرلمان في يونيو1981، دعا فيه إلى مقاومة الطغيان، ثم دعوة الخمينى لبني صدر بالتوجه إلى الإذاعة والتليفزيون لإعلان التوبة!! كشرط لعودة المياه إلى مجاريها، كان الدافع الحقيقي هو إغراء بني صدر للخروج من مكمنه بغية إلقاء القبض عليه على الظهور، هذه الخيوط كلها التي نسجت دراما إسقاط بني صدر، بدأت من اللحظة التي قرر فيها بني صدر استخدام صلاحياته الدستورية كرئيس حقيقي وليس دمية بين أيدي رجال الدين، أن أن يكون مجرد رئيس فخري لإيران.. في ظل هذه الأجواء المتوترة.. قاد هاشمي رافسنجاني جلسة عاصفة لمجلس الشورى (البرلمان) ليعلن في ختامها، (إن بنى صدر يتعين عليه أن يعد نفسه لمواجهة الاتهامات التى أقرها المجلس بأغلبية 145 نائباً من بين 183 نائباً حضروا الجلسة)، كما وافق البرلمان في الجلسة نفسها على قانون يحدد إجراءات عزل رئيس الدولة.. ثم أصدر المدعى العام الإيرانى من فوره أوامره إلى سلطات الأمن، بمنع بني صدر من مغادرة البلاد، معلنا أن الرئيس ـ مفقود ـ وأن الحكومة والقضاء الإيرانيين، لا يعلمان شيئاً عن مكانه ووسط الشائعات التى أخذت تنتشر في إيران عن مكان الرئيس، أو الجهات التى هرب إليها ـ اتهمت أغلبية النواب الإيرانيين، بني صدر بأنه يتحمل مسؤولية المصاعب كلها التى تعرضت لها إيران، بما في ذلك عدم جاهزية الجيش في حربه مع العراق، والمتاعب الاقتصادية، والثورة المضادة وردد الكثيرون ـ أن بني صدر، جاسوس للمخابرات الأمريكية يجب ألا يهرب.
وفي يوم الأحد 21 يونيو 1981 وافق البرلمان الإيراني بأغلبية 177 صوتاً ضد صوت واحد، وامتناع 12 عن التصويت ـ على قرار عدم صلاحية بني صدر السياسية لرئاسة الجمهورية للرئيس بنى صدر. فيما أصدر النائب العام قرارا يقضي بالقبض على بنى صدر.
وفي اليوم التالى ـ 22 يونيو ـ صدق السيد الخمينى على قرار العزل، وحاول في الوقت نفسه أن ينال من شخصية بنى صدر والحط من شأنه، فزعم، أنه لم يكن يفكر إلا في نفسه، وليس في الإسلام ـ ـ وأنه يفتقر إلى الحكمة السياسية!!
أدرك بني صدر أن الموت الأحمر يترصده، والخميني سيسعى في إثره حياً وميتاً، فآثر أن يختفي عن الأنظار، وبقي مختبئاً لمدة ستة أسابيع، وفي 10 يوليو 1981 قام بحلق شاربه وارتدى الزي الرسمي للقوات الجوية الإيرانية وركب على متن طائرة بوينج 707 يقودها الطيـّار العقيد بهزاد موعضي، وسلكت الطائرة طريقاً محاذياً للحدود التركية قبل أن تتجه نحو المجال الجوي التركي إذ أن الطائرات الإيرانية لا يمكن أن تطاردها، ثم طار أبو الحسن بني الصدر من تركيا إلى كاتشان في فرنسا برفقة مسعود رجوي، رئيس منظمة مجاهدي خلق.
وفي الأيام التي تلت هروب بني صدر خارج البلاد، زج في السجون بالمئات من أنصار بني صدر، وجرى في الفترة نفسها إعدام عدد من أصحابه المقرّبين، ومنهم، (حسين نواب، رشيد صدر الحفاظي، منوشهر مسعودي). وكان آية الله العظمى حسين علي المنتظري هو واحد من القلائل في الحكومة الذين دعموا أبو الحسن بني صدر، وكيفما كان فإن حسين علي المنتظري تم تجـريده من سلطته في وقت لاحق وفرضت عليه الإقامة الجبرية لسنوات طويلة وبقي تحت الرقابة الأمنية حتى الموت.
وهكذا انتهت قصة بنى صدر، وعزل من جانب أولئك الذين تحالف معهم، وعمل تحت قيادتهم، ورفع شعاراتهم، وقبل دستورهم، وقد انتهت قصته لأنه تصور أنه بإمكانه ـ وقد أصبح رئيساً للجمهورية أن ينفذ بقوة مركزه الدستوري معادلة الإسلام والحرية.. وأن يقيم دولة الحقوق العادلة، ولكن رجال الدين لم يكونوا من الضعف أو الغفلة ليقبلوا بمشروعه الذي يجردهم من سلاحهم اللاهوتي، ولم يكن هو من القوة أو النباهة ليفرض عليهم ذلك.
مرحلة جديدة: تتبلور فيها القوة اللاهوتية المتجبرة، في مداومة الإقصاء والتهميش لكل صوت يخرج على مملكة الفقيه، فبعد أن ذهب بنى صدر ـ أو (السرطان) ـ الذى تخلصت منه إيران على حد قول رافسنجانى رئيس البرلمان الإيراني آنذاك. منذ تلك اللحظة التي أطيح بها بالرئيس الشرعي للبلاد، أحكم رجال الدين زمام الحكم، ولم يعد من منافس للطبقة الأولى التي تتربع على هرم السلطة المقدسة، أصبحوا مطلقي التصرف في شؤون إيران، وإعادة ترتيب أوضاعها، وتولي مجلس الرئاسة المؤقت ـ(والذى تكون من محمد رجائى رئيس الوزراء، وآية الله بهشتى وزير العدل وهاشمى رافسنجانى رئيس البرلمان)ـ مهمة إدارة شؤون البلاد، لحين انتخاب الرئيس الجديد، وفي الوقت الذى كان يجرى فيه الإعداد لانتخابات الرئاسة أسرع رجال الدين لملء المناصب الشاغرة في الحكومة والقوات المسلحة بأنصارهم الموثوق فيهم وأسفرت انتخابات الرئاسة التى أجريت في 4 يوليو 1981 ـ عن فوز محمد على رجائى.
بدأت بهذا القرار مرحلة جديدة في الثورة الإيرانية، مرحلة تنفرد فيها القيادات الدينية المتشددة بحكم إيران، مستبعدة من المشاركة في السلطة، ليس فقط القوى اليسارية والليبرالية التى أسهمت في الثورة، وإنما أيضا العناصر المدنية المستنيرة كافة التى قبلت بسيطرة رجال الدين، وعملت تحت عباءتهم. وإذا كان تاريخ الثورات يسجل دائماً هذه الحقيقة أي تحول قوى الثورة، بمجرد نجاحها في إسقاط النظام القديم، إلى صراع بيني بين فصائلها ومراكزها القيادية صراعاً قد يفوق في ضراوته الصراع مع النظام القديم من أجل وراثة الثورة، والفوز بنصيب الأسد من ثمار نجاحها مع تكرار هذه الحقيقة، فإن مدلول ذلك الصراع ومغزاه بالنسبة لكل ثورة، هو دائما مدلول شديد الخصوصية، يعكس فلسفة الثورة وتفردها، ومثلما يصعب أن نجد مشابهات لها ـ تتعدى الإطار الشكلى ـ بين تلك السلسلة الطويلة من الصراعات، منذ الصراع بين الجيروند واليعاقبة أيام الثورة الفرنسية، أو بين البلشفيك والمنشفيك في الثورة السوفيتية، فإن الصعوبة تصدق أيضاً على الثورة الإيرانية التى يمتلك فيها الصراع على السلطة الآن، خصائص فريدة ومثيرة، وفي ضوء حقيقة أن إقصاء بنى صدر عن السلطة في إيران، يمثل تحولاً درامياً في مسار هذا الصراع،.. ولن تكون صفحة بني صدر التي طوتها الخمينية من كتاب الثورة سوى صفحة واحدة من صفحات ستعمل حاكمية السيد خامنئي بالنوازع الدكتاتورية ذاتها على طيها أيضا..
الدكتور عبدالستار الراوي
هناك تعليق واحد:
استاذنا الفاضل الدكتور عبد الستار الراوي المحترم. حياكم الله و بوركت جهودكم في إنعاش ذاكرتنا و عقولنا بهذا العرض التاريخي الجميل و الغني بالمضامين الفكرية و السياسية في موضوع من أكثر المواضيع سخونةً و تماساً بواقعنا و بما جرى و يجري في عراقنا. في هذه الحلقة من السلسلة هناك قول تمنيت أن أتشرف بمناقشته معكم لازالة بعض الاشكال الذي تولد لدي بخصوصه. لقد قلتم في بداية مقالتكم هذه: .. و عندما شرعا السير على خط المستقبل اتفقا على الحرية والحاكمية الشعبية.. ولكن بعد حين اختلفا: الخميني يبحث عن مملكة الله بقيادة رجل الدين، وبني صدر يسعى لإقامة مدينة الإنسان في ظل قوانين العقل والحرية.. فافترقا، بعد أن انقلب الأب الروحي على ولده. فهل كان حقاً يبحث الخميني عن مملكة الله أم إنه كان يبحث عن مملكة الكهنوت التي تدعي تمثيل الله (كذباً أو صدقاً) على الارض. و هل هناك تعارض أو إختلاف بين مملكة الله و مدينة الانسان في ظل قوانين العقل و الحرية. بالتأكيد هناك تعارض بين مملكة الكهنوت كشكل يدعي تمثيل مملكة الله و مملكة قوانين العقل و الحرية ، لكن أظن أن هناك فرقاً بين عمومية عبارة مملكة الله و خصوصية شكل معين يدعي تطبيقها أو تمثيلها. إن إضافة عبارة بقيادة رجال الدين إلى كلمة مملكة الله ربما لم يعطي الاثر الكافي في الفرز بين عموم عبارة مملكة الله و خصوصية شكل معين من أشكالها بقيادة رجال الدين بما يجعل المعنى أكثر تحديداً و أكثر وضوحاً لأهميته و شدة حساسيته. من وجهة نظري المتواضعة أن مملكة الله تستوعب مدينة الانسان المسترشدة بقوانين العقل و الحرية. و أن الاسلام المحمدي بما أعلنه من قيم أساسية في المقدمة منها أن الانسان هو خليفة الله على الارض و أن الملائكة أمرت بالسجود له و أن مفتاح الدخول للاسلام شهادة أن لا إله إلا الله كتأكيد على إنفصال الله عن خلقه و تساوي بني أدم أجمعين في الصلة به كعباد له و فيما ملكهم من قدرات فطرية. و أن كل من إصطفى منهم من أنبياء و رسل إنما حصر مهمتم في ايصال رسائله لهم و في تربيتهم و تزكيتهم لتجنب زيغهم و حشدهم للضمان الجماعي لحقوقهم و حرياتهم بوجه الظلمة و المستغلين و المستعبدين. إن مملكة الكهنوت في الوقت الذي تعلي القول عن حيازتها الحصرية لتمثيل إرادة الله على الارض و التذكير بكلامه المنزل و الطقوس العبادية التي أمر بها ، هي تثير مشكلة في إنها ستناقض عملياً مضمون الشهادة التي هي هي مفتاح الدخول إلى الدين و التي تؤكد كلماتها على نفي أي تسلط بشري على البشر و ان السلطة هي لله وحده و التي تتجسد سياسياً في حاكمية الشعب المسترشدة بمجموعة قيم اخلاقية أساسية. هنا نجد أن تراث و ادبيات الاخوان المسلمين و نشاطهم الفكري هو الانسب و الاقرب لجوهر الفكرة الاسلامية و لكن هؤلاء قضى على رصيدهم في هذا المجال براغماتيتهم و إنتهازيتهم و إنفتاحهم الشديد للتعامل مع الاجنبي. محبتي و تقديري لكم يا استاذنا العزيز و دمتم و دام عطائكم
إرسال تعليق