ضرغام الدباغ
لكل خطب في الحياة وجوه عدة ولا سيما في حياة الشخصيات السياسية المرشحة لتبؤ المناصب القيادية، لذلك تعمد الدول المتقدمة إلى إحالة أي مسألة يبدو أن لها أكثر من صفحة إلى مجموعة من العلماء والاختصاصيين، ومن بين هؤلاء حتماً علماء الاجتماع والنفس، ليبينوا ثم ليقرروا أبعاد الجانب الذي لا يبدو ظاهراً من المسألة.
والحق فإني، مع معرفتي التي أعتقد أنها جيدة بمفردات كثيرة من تاريخ سورية السياسي الحديث، إلا أنني لا أخفي على القراء أنني قد احترت كثيراً بتحليل شخصية الرئيس السوري كشخص قيادي، لا سيما عند ظاهرة التغافل، أهو جاهل حقاً لهذه الدرجة، أم أنه يتجاهل ..؟ وهل هو شخص طارئ على الموقع القيادي، أم يتجاهل خطراً هائلاً يحيق به وبالبلاد، تجاهلاً يبدو غير منطقياً وبالتالي غير مفهوماً لدى الرئيس السوري بشار الأسد، ترى هل يدرك مسؤوليته فيما تشهده البلاد، أم أنه فقد السيطرة على الموقف وصار صورة باهتة لا تعني عملياً الشيئ الكثير.
ومن الأمور التي باتت معلومة أن هناك تخصصاً بعنوان علم النفس للقيادات Leadership Psychology ويعود تاريخ علم النفس القيادة إلى أيام الفيلسوف اليوناني أفلاطون (427-327 ق. م) الذي اكتشف سمات القيادة، ولاحقاً في كتابات العالم النمساوي سيغموند فرويد (1856-1939م) وعلماء النفس الذين تبنوا النظريات السلوكية. وأحسب أن هناك الكثير جداً من الأعمال العلمية في هذا المجال الهام، وكلها تضيف لنا مؤشراً آخر أن علم السياسة اليوم قد غدا علماً واسع الاتجاهات، بل وينطوي على تخصصات عديدة في الجانب النظري، وفي جانب الممارسة سواء تلك التي على صعيد الدول والقيادات، أو على صعيد العلاقات بين الدول.
إن خبرة وتجارب الأمم هي مطروحة للاستفادة منها للحكام والمحكومين على حد السواء، ولذلك نشاهد أن الدول التي تمتلك أنظمة محكمة تدقق في تاريخ مرشحيها للمناصب القيادية، وتبحث حتى في أمور قد نعدها نحن ثانوية، دول لها أنظمة ديمقراطية عريقة، ولكن بلوغ شخصية ما للمناصب الكبرى السيادية، شأن يتجاوز قيمة الشخص نفسه وأسمه، إلى الحرص وصيانة الموقع الكبير من احتمالات غير محسوبة في تلك اللحظة الراهنة.
فمن المهم جداً تاريخ الشخصية في العمل خلال وظائف عامة، وأن تكون مجربة بدقة تامة، وإلا فكيف سيحوز على الثقة المطلوبة للتسلق إلى هذه المرتبة الرفيعة. أما إذا كانت الأمور تجري كما في بلداننا، فليرحمنا الله برحمته الواسعة، وهكذا تسلط علينا قادة لمجرد أنهم يجيدون فن المناورة والتآمر، واستخدام موارد الشعب ضد مصالح الشعب، ربما هم كأفراد عاديون ليسوا بتلك الدرجة من السوء، ولكن السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
الرئيس بشار من مواليد 1966، فوالده كان يتربع في المناصب العليا لسنوات ثلاثة قبل ولادته، وفي سن الرابعة بلغ نجم صعود والده بفضل القبضة الحديدية، وتجاهل قواعد النزال والتنافس (الشبه ديمقراطي) حتى ضمن المؤسسة الحزبية التي بلغ من خلالها للمراتب التي بلغها، وبفضلها فقط بلغ إلى منصب الرئاسة، وبفضل لافتات بالغ في طرحها آنذاك، في إزاحة القيادة (المناورة والمتسلطة)، وطرحه خطاً قومياً رافعاً شعار التضامن العربي، حتى أعتقد عامة الناس أن فجراً ربما سيحمل نسائم حياة جديدة آت. وفي أول مناسبة (المؤتمر القطري الخامس للحزب في سورية/ 1974) فوجئ المؤتمرون بطرح شعار قائد المسيرة على المؤتمر لينالها الرئيس بسهولة، وكيف لا فقد كان لتوَّه قد نحر الحزب بقياداته القومية والقطرية. وهكذا أصبح قائداً للمسيرة، بمباركة المؤتمر القطري الخامس، وبعدها اعتاد على تجاهل الحزب وشرعية الحزب، إذ لم يخف من طرح اللقب والمؤيدون له أنهم يريدون مماثلة كيم إيل سونغ قائد النظام الكوري الشمالي، وهكذا ترعرع بشار في ظل محاكاة تجربة ممزوجة بالنكهة الشرقية الطغيانية تحيل البشر إلى روبوتات آلية.
قائد المسيرة حمل لواء العروبة ومضى يتدافع ويتنابز مع أكثر العروبيين عروبة، بل ومن أجل بلوغ أهدافه الباطنية تعاطى حتى اليسار، وفي سورية مثل يتداوله السياسيون بتندر، هناك من يعطي الإشارة يساراً ولكنه يتجه في الواقع لليمين، وهكذا صار قائد المسيرة رجل الغرب الخفي، والأمر ينطوي على خفايا تبدو غير واضحة لليوم، متى بدأ التنسيق، ولكن من المؤكد القول أنه دخل لبنان في سبعينات القرن الماضي برخصة، وفعل ما فعل.
ولم يكن الأمر خلافات في صفوف الثوار، بل خطة مدروسة، فما فعله الرجل منذ دخوله وحتى خروجه من لبنان (تم كذلك بإيعاز في العقد الأول من القرن الحالي) لم يكن هدفه سوى تصفية للقوى الوطنية وإضعاف لها، وتدمير الدولة اللبنانية، وخلق الكتل والشلل والكل يتجسس على الكل، وشاعت الوشاية والتميمة وكتابة التقارير، فالكل يقبض والكل يداهن ويراعي، وتحول لبنان من بلد مشهود له بالترتيب والتنظيم، والتفهم والتفاهم، وإتقان للعبة الديمقراطية، يختلفون نهاراً ويسهرون الليل معاً، تحول إلى وسط تهيمن عليه العلاقات المافيوية، والصلات السرية، وألعاب المخابرات، من اغتيالات وتفجيرات، وتدمير ممنهج للدولة، لكي لا يبقى في لبنان شخص أو مؤسسة تقوى على رفع صوتها، فأدرك الغرب أنه زرع جينة لتخدمه، لينتهي من خطر المقاومة الفلسطينية، ولكن الوصفة السورية تغولت في لبنان فلم تعد هناك قوة تقتلعه.
ويصف سياسي سوري معارض منجزات القمع والتصفيات: أن النظام الأسدي قد قضى على مدى خمسة عقود من السنين على أية حياة سياسية طبيعية، ونشر وعمم ثقافة الخوف والتخوين حتى صارت لغة سياسية سائدة. فكل مخالف في الرأي هو خائن أو عميل، وبالتالي يستتبع القمع والسجن وحتى التصفية. إنها مدرسة في السياسة تقوم على تجفيف المجتمع من السياسة الوطنية، في مقابل إنعاش البنى الأهلية، وفتح شهيتها الغرائزية بمحفزات كثيرة، حتى صار الفساد والإفساد أسلوبا في إدارة المجتمع والضبط السياسي.
من كان المستفيد من كل ذلك ...؟
من المؤكد أن الشعب السوري لم يستفد من ذلك، بل وصدر هذه الظواهر المرضية إلى الجوار ما أستطاع إلى ذلك سبيلاً. فلا القضية الفلسطينية، ولا أية قضية أخرى، سوى تمسك النظام العائلي والأسري بالحكم وفعل كل شيئ يزيد من شدة قبضته للبلاد، كل شيئ في خدمة هذا الهدف ولا شيئ غير هذا الهدف. زمرة فاسدة حتى النخاع، استهانت بكل القيم والاعتبارات، من أجل المكوث في السلطة، فتفننوا في خلق دوائر تحيط بهم، من منتفعين وباحثين عن السلطة والنفوذ والمال، بأخلاق مافيوية بأمتياز، واقتلعوا من الجذور كل حركة سياسية يمكن أن تقود الشعب، وحولوهم إلى أبواق مأجورة يفوح الفساد منهم ومن كتاباتهم وأفعالهم.
الرئيس الأب مارس هذه السياسة بذكاء ودهاء، وخدمه في ذلك، السنوات الطويلة التي عمل فيها في السياسة، وفي إعداد التنظيمات، وعقد التحالفات وفضها، وتغير المواقف، من 1963، إلى 1966، إلى ما سميت بالأزمة الأولى 1968، ثم الأزمة الثانية التي انتهت بما أطلق عليها حركة تشرين التصحيحية، فتقرب من الرئاسة بأن جعل نفسه رئيساً للوزراء، ثم استولى على الرئاسة باستفتاء، والأمانة العامة للحزب القومية والقطرية، وتقلب بعقد التحالفات العربية، واشتد عوده وخبرته.
ولكن سرعان ما بدأ كل ذلك يتمزق، بعيد دخول لبنان، والصراع مع الحركة الوطنية والقومية والتقدمية، وبعد حرب 1982 ، ووهنت قوى الأسد الأب بفعل الشيخوخة وأمراض لحقت به، ضعفت قبضته على حاشيته، وساعدت على نشوب الصراعات الداخلية، واشتداد الفساد بما أخرجه من السيطرة، بعد أن أصبح معلوماً ضلوع القيادات العسكرية والأمنية والأقارب بتهريب المخدرات والسيارات، وكل ما خف وزنه وغلا ثمنه، والاتجار بالممنوعات، وتعاطي العمولات والرشاوي، وتحولت البلاد حتى قبل وفاة الرئيس الأب إلى فوضى من العلاقات والأنشطة، وفي مثل هذه الأجواء تستحيل العملية المزدوجة، وذات التأثيرات المتبادلة :
آ. التنمية الاقتصادية.
ب. التنمية السياسية.
وعندما أورث الأب الحكم والبلاد إلى الأبن، كان النظام في أضعف مراحله بسبب شيخوخة الرئيس الأب، وسريان خلافات ضمن العائلة طامعة في الوراثه بين الأولاد والأصهار، وأبناء الخال والعم، وبين عناصر تعتبر نفسها من عظام الرقبة، وتعتقد بالتالي أنها لها الفضل في بناء النظام وحمايته، وبالتالي أورث معه أمراض وفساد الدولة في آخر لقطة من حكمه الذي تواصل لثلاثين عاماً.
وكان من الجلي تماماً أن الابن لا يمتلك خبرة الأب، ولا قوته شكيمته، فالأب كان قد ترعرع في الحزب منذ أواخر الأربعينات، وعندما أصبح ضابطاً، ساهم في التنظيمات العسكرية بدرجات قيادية، واشترك في انقلابات، وتسلم وظائف عسكرية وسياسية، فلم يلد مدللاً في فمه معلقة ذهب، فالأبن لا يمتلك كل هذه الصفات، كما أورث الأب ابنه آلة حكم معقدة يصعب إدارتها، فالأب كان قد دخل في تحالفات مضرة بسورية وبالأمة العربية، في لبنان، ومع إيران، وساعدها في الحرب ضد بلد عربي جار، قاتل جيشاً هو ظهيره الاستراتيجي، وقد أنقذ دمشق ذات يوم، ولكنه رغم ذلك كان أدهى من أن يضع نفسه رهين تلك العلاقة، التي ستلتهم الرئيس الابن حتى ليغدو خيطاً باهتاً في سجادة إيرانية تحاك من الدوائر الفارسية خدمة لمصالحها القومية، تتخذ من الدين والطائفة محركاً، وجامعة في خطتهم، ولافتة يهرول تحتها كل من يبحث عن دور في الألعاب الطائفية، بل أصبحت إزاحة هذا النظام أشبه باستعادة استقلال سورية.
الرئيس الابن كان منذ البداية لا يمتلك القدرة على أن يقف باقتدار وأن يمثل شيئاً يذكر، وحتى التحديث الذي كان يتأمل بعض المتفائلون، باعتباره شاباً يمثل طموحات الشباب، وله علاقة بالديجتال والكومبيوتر وتطلعات العصر، ولكن آمال الناس خابت أيما خيبة، فالرئيس الشاب يدرك في قرارة نفسه أنه استولى على موقع كبير بغير استحقاق، فمضى يبحث عن المستحقات، فلم يكن أمامه سوى أن يرتمي في منهاج يتوسل فيها أية قوى قد تساعده في الاحتفاظ بما وصل إليه بغير حق، غدا فيه فقرة لا أكثر، في برنامج توسع إيراني، فارتضى لنفسه هذا المقام الواطئ مقابل كرسي كبير صار عبئاً عليه، والإيرانيون قبلوا به ليس لأنه يقرب لهم طائفياً، فهذه لافتة فقط، والأصل في المسألة هو أن إيران بدورها متهالكة تتوسل أي حلقة توسع، مثل لها هذا النظام المتهالك خير حليف في زمن أصبحت إيران مكروهة في محيطها، فراحت تبحث عنه وكل شيء مباح يوصلها للبحر المتوسط..
واليوم وفي ضوء وحجم القضية السورية، يستبعد تمام الاستبعاد أن يكون الرئيس السوري ممسك بأطراف القضية وتداخلاتها الكثيرة، ولعل الأمر لم يعد بوسع أن ينكره حتى المتصدين للدفاع عن النظام، فالرئيس لا يمتلك من أمره شيئاً، لا نقول هذا دفاعاً عنه، ولكن الخطب قد تجاوزه بكثير، فلم يعد يقرر شيئاً، لأن لم يعد في جعبته شيء، وبتقديري، القرارات الهامة لا تتخذ في القصر الجمهوري بدمشق، فأي دبلوماسي يمتلك القليل من الرؤية الدقيقة، يلحظ في تصريحات الوزير الروسي لافروف أنه يمثل جنرال الخارجية والدفاع والداخلية معاً، ولا يخفي إطلاعه على دقائق ما يدور، وما سيدور بل ما ينبغي أن يدور أيضاً، ووزير الخارجية الإيراني تخونه العبارات فيصرح نصاً "لقد قررت الجمهورية الإسلامية بقاء الرئيس الأسد حتى عام 2014"، فالرئيس لم يعد يمثل مصالح سورية ولا بأي مقدار، بما في ذلك المصالح الطائفية الفئوية، فماذا تبقى من الخيوط الواهية بيد الرئيس غير أن يبدو رمادي الوجه، زائغ النظرات متلعثم العبارات، لا يعرف بماذا يرد على أسئلة صحافية، فماذا سيقول غداً عندما يمثل للحساب. رئيس فقد القدرة على أن يقرر شيئاً حتى صنف غدائه وعشائه.
نحن نعلم، بل متأكدون، أن أعداء الأمة، سيستغلون إحالة مسؤولين من أقطارنا العربية في سوريا ومن أي قطر عربي آخر إلى محكمة الجنايات الدولية، ومع معرفتنا بأن المحكمة الدولية سوف لن تعاقبهم العقوبة التي يستحقونها، وستعاملهم بطريقة لا يستحقونها.
نعم ... لا يفرحنا رؤية رؤساء ومسؤولين عرب في قفص الاتهام بتهم القتل والاغتصاب والسرقة، ولكن مالعمل ونحن عاجزون من الاقتصاص من هؤلاء، ومن غير الإنصاف إنشاء سجون ومحاكم وهؤلاء طلقاء أحرار فليس هناك مجرمون يفوقونهم إجراماً، لذلك نؤيد إحالة الرؤساء نزولاً إلى المجرمين من عسكريين ومدنيين وكل من الذين ولغ بدماء شعوبهم، ضباطاً أقسموا على الدفاع عن الوطن في البر والجو والبحر، ولكنهم أداروا أسلحتهم وصوبوها بخسة إلى شعوبهم وقصفوا مدناً بطريقة عشوائية وبأسلحة دمار وقتل لا يجوز تصويبها للمدن والتجمعات السكنية، لذلك أوافق وأدعو وأطالب بإحالتهم إلى القضاء الدولي.
ولو كان مقدوراً لي أن أوجه النصح للرئيس السوري، لشعرت بالحيرة حقاً، فقد زج بنفسه في سلسلة مآزق تاريخية يصعب الخروج منها، فليس هناك في التاريخ السياسي للدول أمثلة كثيرة على ما فعله، بزجه البلاد في أتون علاقات وضعت استقلال البلاد في موضع التساؤل، اهتزت فيه ثوابت البلاد، وألحق تخريباً لا مثيل له ببلد كان يأمل منه الخير رغم أنه وصل السلطة بطريقة غير شرعية، سأقول له بآخر ذرة من الحكمة والإشفاق: اعتذر للشعب وأرحل بأسرع ما تستطيع، غادر المسرح وما فيه، فلن يحدث خراب أكثر مما خربت أنت وعصابتك.
ليست هناك أي مبادرة شرعية سوى أن تعاد السلطة الشرعية إلى الشعب فقط، ليست هناك شخصيات مقدسة، ليس هناك من هو بعيد عن الحساب، ليس بدوافع الانتقام والثأر، بل من أجل إحقاق الحقوق، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، الشعب السوري سيحسم هذه التناقضات، ويصنع غداً لا ينطوي على العقد النفسية، لتكن عبرة، هي عبرة لمن يعتبر.. عبرة لمن يعملون بأنصاف القناعة.. عبرة لمن يعتقد أن الأمور ستسير بتلقائية.. عبرة لرئيس يدمر بلده وقد أسقط بيده، لا يعرف يومه من غده، فقد اختلطت عليه الأشياء، ولكن هذه أشياء ستنتهي اليوم أو غداً، ولكنها ستنتهي لا محالة، وبتسلسل قد يتجاوز كل ما نتوقعه من سيناريوهات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق