ضرغام الدباغ
قرأنا وسمعنا أن بعض المراقبين وصفوا زيارة باراك اوباما للمنطقة بأنها كانت سفرة سياحية، ولكن واقع الحال يشير أن القليل من زيارات الرؤساء الأميركان كانت فاعلة ومؤثرة كهذه الزيارة، مما يدلُّ، وبكل تأكيد، أن الزيارة كان قد تم التخطيط والإعداد لها بصورة جيدة جداً، وكان يرافقه في زياراته مئات من المرافقين (حوالي 300) كان لها نتائجها وآثارها، سواء الواضح الجلي منها، أو تلك التي ما زالت طي الكتمان والإعداد.
تناولت زيارات الرئيس ملفات عديدة، فعدا تلك التي تختص بالعلاقات الفلسطينية / الإسرائيلية، فهناك محادثات هامة حول الشأن السوري جرت في الأردن، بل ربما احتلت الجانب الأكبر من المباحثات. فمن المؤكد أن قنوات أمريكية/ تركية تواصلت وعلى مستويات رفيعة بين المسؤولين الأتراك والأمريكان والإسرائيليين، حتى صدر الاعتذار الإسرائيلي، وقبول تركيا للاعتذار، ثم المبادرة التركية الكبيرة في الملف الكردي مما يعني الكثير استراتيجيا، وحتى على صعيد الخطط التكتيكية في الشرق الأوسط.
وزيارة الوزير كيري للعراق وإن كان قد جرى التخطيط لها، (بمعنى أنها لم تكن مفاجئة تماماً للجانب العراقي)، إلا أن تحديدها بهذا الوقت بالذات، جاءت متزامنة مع تحولات مهمة، وأخرى برسم الاستحقاق وفي المقدمة منها احتمالات نهاية وشيكة للنظام السوري، تمنح الزيارة أبعاداً جديدة، ومن المؤكد سيكون لها تداعياتها وتطورات مهمة. فما هو دور العراق فيها، وماذا تريد الولايات المتحدة من الحكومة العراقية وأي دور للعراق كحليف للولايات المتحدة، وماذا بوسعه أن يلعب في الصفحات المقبلة ..؟.
وما دمنا في الحديث عن الحكومة العراقية وقدراتها، فإن مجلس الوزراء المؤلف من 32 شخصية، إذ لا يتحقق نصاب للجلسات الحالية بحضور لا يتجاوز 17 شخصاً، فيما يبلغ عدد المستقيلون والمقاطعون 18 شخصاً، وقد انسحبت منها كتلاً مهمة احتجاجا على موضوعات مهمة وأساسية وليست سطحية عابرة، في مقدمتها الطغيان، والفردية، وتسييس القانون والقضاء، والكيد للخصوم السياسيين، والتصفيات الدموية، والسجون السرية، والفساد بأرقام فلكية وغيرها من الموضوعات البالغة الحساسية، فهل بوسع حكومة هذه ظروفها القيام بمستحقات التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية ..؟
الطلب العلني من الحكومة العراقية كان عدم السماح باستخدام العراق مقراً أو ممراً لقوات دعم إيرانية بدأت تتواجد في الساحة السورية وما يعنيه ذلك من معاني سياسية وقانونية خطيرة لا يمكن الاستهانة بها.
لا نعرف بماذا أجاب الطرف العراقي، ولكن الأمريكيين سربوا خرائط جوية تظهر الخط الذي تسلكه الطائرات الإيرانية العابرة للعراق دون توقف، وعملياً فهي لا تحتاج للتوقف أو الهبوط التكتيكي(Tactical Landing) لقرب المسافة بين الأراضي الإيرانية والسورية.
ربما أجاب المسؤولون العراقيون، وأدعوا عدم معرفتهم، أو عدم امتلاكهم لأجهزة متطورة ترصد عبور هذه الطائرات، وقد فاتهم ربما، أن هناك موقعاً في الأنترنيت يوفر بسهولة شديدة خرائط الأجواء في كل العالم بواسطة الأقمار الفضائية على مدار الساعة، والأمر لا يحتاج سوى لمسة في الأنترنيت، لتظهر على الشاشة كل شيئ يطير في أجواء العالم بأسره، وحتى الطائرات الصغيرة ذات المحرك الواحد.، مع معلومات تفصيلية: ملكية الطائرة، نوعها، السرعة، الارتفاع.
ومع يقيننا أن الأمريكان قد طالبوا الجانب العراقي بطلبات أخرى، وما قضية الطائرات الإيرانية العابرة إلا أبسطها وأخفها وزناً، ومن المؤكد أن الأمريكيين يعلمون بدقة تامة ليس فقط الشحنات الجوية، بل وحتى تلك الأرضية العابرة للحدود، ومحتواها من السلاح والعتاد والمقاتلين، واشتراك أعداد من العراقيين، وربما بإشراف حكومي، عدا الإعانات المالية الضخمة التي يقدمها العراق لإيران وسوريا.
الأمريكان يقرأون الموقف بصفحاته العديدة، وتتجمع لدى دوائر القرار معلومات ومعطيات كثيرة، منها عبر إمكاناتهم الخاصة من وسائل تقنية متطورة، من تنصت، أو استشعار عن بعد، وعبر علاقاتها مع الدول والمنظمات. لذلك فزاوية الرؤية لدى الأمريكيين عريضة جداً، وبتقديرنا، أن الطرف الأمريكي، وله في ذلك أساليبه، قد رصد الضعف البالغ للسلطة في العراق، لدرجة تقارب الشلل، وانعزال بلغ حتى عن أقرب حلفاءها. فالحكومة العراقية لم تنجح في طمأنه حليفها الأكبر، كما لم تفز بتأييد شعبها. في وقت يفترض المنطق وجود حكومة الوحدة الشعبية، والابتعاد عن العنف والتطرف الطائفي، فتلك موضوعات هي اليوم سريعة الالتهاب بصفة خاصة. والوزير الأمريكي سيقول للحكومة العراقية أنتم تتجاهلون شعبكم، وبدلاً من التفكير بالحلول، تطلقون التهديدات، وبدلاً من توسيع المشاركة، تختلفون مع أطراف العملية السياسية، فماذا ستفعلون إذن مع من يعارضكم معارضة شاملة؟ وكيف نستطيع سؤال رأيكم وأنتم لا تعرفون حل مشكلاتكم، وكيف ستساعدوننا وأنتم من يحتاج للمساعدة ..؟ وإذا واصلتم العمل على هذا المنوال فسيذهب كل ما فعلناه لكم هباء منثوراً، ولم يكن شيئاً بسيطاً ... أليس كذلك؟
الجانب الأمريكي لا يقبل أن يكون كالزوج المخدوع، يريد نظاماً عراقياً يلبي معطيات الاتفاقية الأمنية وغيرها، حكومة تستطيع التفاعل بمرونة مع المشكلات السياسية الداخلية، ليكون بالتالي حليفاً محترماً موثوقاً.
المنطقة زاخرة بغيوم ثقيلة والمخاطر جسيمة، والوضع الداخلي العراقي بلغ أقصى درجات التوتر، ولكن هل بوسع الحكومة العراقية النهوض بتلك المهات الداخلية والخارجية باقتدار؟ فكل شيء يوحي بالضعف، كما تحوم شكوك قوية حول الممارسات الحكومية على كافة الأصعدة، فيما يتواصل تراجع العراق وتعرضه للتفكك بفعل إرادات أجنبية، تفصل المواقف حسب مصالحها، أما المصالح العراقية فينظر لها بمنظار غير عراقي وليس هناك أدني اعتبار للمصالح العراقية، والنتيجة الحتمية هي المزيد من الضعف والتدهور في العراق، ليكون المطلب العاجل هو حكومة وحدة وطنية، وإلغاء الطائفية قواعد وممارسات، كسبيل للحمة العراقية.
يبدو لنا بكل بساطة أن برنامجاً كهذا هو بحاجة إلى عمل سياسي كبير، لن تحله زيارات لوزير خارجية أمريكية أو غيره، بل يتجاوز المبادرات، سواء الشخصية منها أو من أطراف العملية السياسية العراقية، فالثغرة في العراق كبيرة ولا يقومها إلا جهد عراقي سياسي شامل، ورؤية عميقة إلى قلب الأزمة العراقية التي طالت واستطالت منذ نيف وعشرة أعوام من التدهور المتواصل.
ينبغي إعادة النظر فيما تأسس بعد الاحتلال. نعم هذا هو المطلوب إن شئنا التحدث بصراحة، من أجل التوصل لحلول حقيقية لأزمة كبيرة مستحكمة لا يتم عبر علاجات سطحية، ولابد من إدراك أن صبر العراقيون قد نفذ، ولا تجوز المراهنة سوى على الحكمة والحرص على أن لا تطال ألسنة اللهب أرجاء العراق.
* يمكن ممارسة الحكم بقوانين ناقصة وموظفين أكفاء، ولكن بموظفين فاسدين وغير أكفاء لاتنفع أحسن القوانين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق