نزار السامرائي
لو أن كل المحافظات التي تشهد الحراك الشعبي في الوقت الحاضر، اتخذت قرارا متزامنا بشأن منع الجيش والشرطة الاتحادية أو قيادات القوات المرتبطة بمكتب القائد العام للقوات المسلحة، من البقاء داخل حدودها كمحافظات ومدن، ولو أن مجالس المحافظات تصرفت على وفق ما يعطيه لها قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم لعام 2008، ولو أن مجالس المحافظات مارست حقوقها المنصوص عليها في القانون المذكور كاملة وخاصة ما يتعلق منها باختيار القيادات الأمنية،
ولو أن لغة المناورة والنفاق السياسي التي يمارسها بعض أعضاء مجالس المحافظات، جريا وراء فرص الثراء السريع من السحت الحرام ووجدت من يتصدى لها بصوت عال ويفضح روادها الباحثين عن خطوط خلفية مضمونة مع حكومة نوري المالكي، لو تحقق كل ذلك لما سقط شهداء جمعة لا تراجع، ولما سقط شهيدا الموصل، ولما تجرأت القوات الأمنية المستقدمة من بغداد أو من أماكن أخرى، أن تدخل مدنا استعصت على الأمريكان لتروع أهلها وتعبث بها، وتمارس مع المواطنين إرهاب دولة يحمل كل صفات الرذيلة، ولتنشر الهلع في نفوس الأطفال والخوف عند النسوة اللاتي لا يخشين من جبروت السلطان وجوره، بقدر ما يخشين على أنفسهن وعرضهن من الانتهاك من أن تدوسه أرجل مدلاة تحت رؤوس هي الأحق أن تداس وتوطئ بالأقدام، يخشين من الاعتقال في زنازين جلادين وقتلة محترفين لا يترددون للحظة واحدة عن فعل كل منكر في بلد بات المنكر فيه معروفا والمعروف منكرا.
لقد كان غياب الشعور الجماعي بالمسؤولية الأخلاقية والقانونية لدى بعض أعضاء مجالس المحافظات بالتصدي لنزوات وزارة الداخلية وحكومة المالكي، هو الذي أضعف مركز تلك المجالس في مناطق الثورة الشعبية الملتهبة، بحيث جعلها عاجزة عن مجرد استبدال قائد شرطة جلاد ومنحرف أو مرتش أو خارج عن الإرادة الشعبية، حتى تحول إلى أداة رخيصة بيد المالكي يحركها ضد أهلها بل ضد الجهات التي ظنت فيه خيرا وسكتت على وضعه في موقعه.
لقد استكانت مجالس المحافظات لإملاءات المالكي الذي وجد في ذلك الخنوع فرصة للاستئساد على أهلها في ظاهرة لافتة للنظر، بحيث أغرت نوري المالكي أن يحشر نفسه ويدس أنفه في كل صغيرة وكبيرة في شؤون محافظات العرب السنة خاصة، وهو الأمر الذي لا يستطيعه مع منطقة كردستان أبدا كما أكدت محاولته تحريك قوات دجلة ولكنه بقي عاجزا يبتلع ما لحق به من عار التجربة، ولا يريده مع محافظات الجنوب والفرات الأوسط والتي حاول فيها أكثر من مرة ولكنه ارتد على أدباره أمام إصرار مجالس المحافظات على حقها في اختيار موظفي المحافظة الكبار، كل هذا حاوله المالكي لحسابات غير خافية على المراقب الحصيف، مما يجسد سلوكا منحرفا في جانب وطائفيا مقيتا في جانب آخر، ولو أن أعضاء مجالس هذه المحافظات فكروا ولو لمرة واحدة في مصالح محافظاتهم بدلا من اللهاث وراء مصالحهم الأنانية الضيقة، لكانت لهم وقفات مؤشرة في ضمائر أهلهم وأقاربهم وأبناء محافظاتهم، ولتمكنوا من منع أجهزة القمع وقوات العمليات التابعة لمكتب القائد العام للقوات المسلحة من الدخول إلى مدنهم التي ستحميها حينذاك أسوار عالية من العزة والكرامة الوطنية وإباء رجالها الأشداء، ويحميها القانون وتتمترس وراء هامات الرجال الذين أذاقوا المحتلين الأمريكان بداية الاحتلال عار هزيمة هي الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة منذ خروجها من حدودها الجغرافية.
الخطوة التي اتخذها مجلس محافظة نينوى مؤخرا بإخراج قوات الجيش والشرطة الاتحادية وإيكال مسؤولية حفظ الأمن إلى الشرطة المحلية خطوة مهمة فيها تحد كبير وفيها احتمالات مواجهة مؤكدة مع حكومة المالكي، وهي خطوة لازمة من أجل تجنيب المحافظة أية احتكاكات قد تتسبب بسقوط المزيد من الضحايا، مع ما يترتب على وضع كهذا من تداعيات سياسية وأمنية لا يمكن التكهن بالمدى الذي تصل إليه فيما لو حصلت، ولكنها خطوة متأخرة كثيرا وكان يجب أن تتخذ بعد انتخابات مجالس المحافظات لعام 2009، لتقطع يد المالكي عن التدخل في شؤون هي من اختصاص المحافظة وفقا لدستور 2005 والذي كان المالكي أحد كتبته، وهنا لا بد من طرح السؤال التالي، هل أن أحكام الدستور قابلة للتجزئة على هذه الصورة المخزية والمزرية، ولماذا يتمسك المالكي بأن يختار بنفسه قادة الشرطة في محافظات بعينها ويفرضهم على المحافظ ومجلس المحافظة وعلى أبناء المحافظة، ألا يعد ذلك سلوكا طائفيا بالتطبيق العملي أم أن الطائفية مجرد شعارات ترفع؟
وبقدر ما كانت خطوة مجلس محافظة نينوى مهمة لكنها ليست كافية أبدا، فضلا عن أنها جاءت متأخرة جدا إلى الوقت الذي تمكن المالكي من الزحف على تفاصيل إجراءاته اليومية والدخول على خط الحذف والإضافة لما يشاء من تدابير، فالمطلوب إزاء ظرف كهذا، وقفة جادة وموحدة من المجلس وبالتنسيق مع المحافظ، للدفاع عنها بكل الوسائل وتحويلها إلى ممارسة ميدانية تفرض نفسها على الأرض بكل الوسائل المتاحة ولعل استمرار الحراك الشعبي ما يدعم التوجهات الخيرة إن وجدت، فهذا اختبار لصراع الإرادات ومحاولات لي الأذرع، فالمالكي وزمرة السوء التي تحيط به ستحاول بكل ما تملك من أدوات ومن أساليب مراوغة، أن تحبطها في مهدها وتلتف عليها عن طريق وعود غامضة أو تهديدات باستخدام أجهزة القمع أو بالإغراءات بصفقات وعمولات توضع على موائد ضعاف النفوس ممن يمكن شراؤهم بالثمن البخس.
بالمقابل فإن على بقية مجالس المحافظات التي تعرضت في السنوات القليلة الماضية لسطو منظم على إرادتها واستباحة همجية لحرية قرارها في إطار سياسة المكاييل المزدوجة التي اعتمدها نوري المالكي، أن توحد موقفها وتنسق قراراتها بما يجعل منها كتلة واحدة تصعّب على المالكي أية إمكانية للاستفراد بها تباعا، وليس هناك أدنى شك في أن حكومة المالكي حينما تصطدم بعقبات متشابهة في ملف واحد، ستجد أن من الصعوبة عليها بمكان أن تتحدى جميع الأطراف في وقت واحد، فالسياسة التي اعتمدها المالكي كانت استنساخا للسياسة البريطانية القديمة وهي سياسة فرق تسد.
وقطعا ليس من حق المحافظين أو مجالس المحافظات أن تقدم تنازلات مما هو ليس من حقها، فالأمر لا يتعلق بالكرامة الشخصية لهذا المسؤول أو ذاك، بقدر ما يرتبط بمصائر المواطنين الذين لهم الحق الكامل أن يطمئنوا إلى أن أمنهم لن تستبيحه قوات تمارس قمعا وإرهاب دولة مصحوبين باعتداءات على المعتقدات والرموز الدينية وبمحاولات إذلال منهجية لجزء من الشعب العراقي الذي كانت قواعد الدستور الذي قيل إنه شرع لصالحه، تنص على مساواة المواطنين جميعا أمام القانون، وإن لم يتم ضمان هذه المبادئ المقدسة فإن السلم الأهلي لا يمكن ضمانه إلى ما لانهاية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق