موقعنا الجديد، مع التقدير

موقعنا الجديد، مع التقدير
نأسف لإزعاجكم، انتقلنا إلى هنا رجاءً، يرجى الضغط على الصورة للانتقال إلى موقعنا الجديد

الثلاثاء، 26 مارس 2013

تأملات في غاندي

نواف شاذل طاقة
صدرت هذه المقالة في بريطانيا سنة 1949، وربما كانت آخر مقالة نقدية كتبها الروائي والناقد البريطاني جورج أورويل قبل وفاته بتاريخ 21 كانون الثاني 1950.
تتناول المقالة من خلال نظرة نقدية بعضا من أفكار الزعيم الهندي الراحل المهاتما غاندي والتي تتضمن، حسب بعض النقاد، "انطباعات أورويل المتناقضة" بشأن غاندي.
وفي الواقع، ما برح بعض من الافكار التي دعا إليها غاندي موضع تساؤل وجدل حتى يومنا هذا، وهي التساؤلات التي يثيرها أورويل في مقالته، ومن بينها،
 تساؤله بشأن حكمة ممارسة النضال اللاعنفي ضد حكومة مستبدة أو ضد سلطة احتلال في بلد يختفي فيه معارضو النظام في منتصف الليل ولايسمع عنهم أي شيء بعد ذلك، وهو التساؤل الذي لا بد أن يجول في ذهن القارئ العراقي عندما يتذكر آلاف العراقيين الذين اختفوا أو اختطفوا من ديارهم، وتعرضوا لأبشع أنواع التعذيب، ومن ثم قتلوا ورميت جثثهم في المزابل أو في الشوارع المقفرة..!!


المترجم
تأملات في غاندي
جورج أورويل
ترجمة: نواف شاذل طاقة
يتعين دائما اعتبار القديسين مذنبين حتى تثبت براءتهم، غير أن الاختبارات التي يقتضي تطبيقها عليهم، في طبيعة الحال، ليست واحدة في جميع الأحوال. ففي حالة غاندي، يشعر المرء بأن الأسئلة تميل نحو معرفة إلى أي حد كان الغرور قد حرك غاندي -لأنه يعي تماما بأنه إنسان متواضع، وأنه رجل عجوز عارٍ، يجلس على سجادة صلاة ويهز الإمبراطوريات بمحض سلطته الروحية- وإلى أي مدى فرط غاندي بمبادئه الشخصية عند  دخوله إلى معترك السياسة، ولا يمكن للسياسة بطبيعتها أن تُعزل عن أساليب القسر والاحتيال؟ وبغية تقديم جواب قاطع، يتعين على المرء دراسة افعال غاندي وكتاباته بدقة متناهية، إذ أن حياته كلها كانت نوعا من أنواع السفر المقدس يكون كل عمل فيه ذا أهمية كبرى. بيدّ أن هذه السيرة الذاتية الجزئية، التي تنتهي في عشرينات القرن الماضي، تقدم شهادة قوية لصالح غاندي، وتزداد أهميةً لأنها تغطي ما كان يمكن ان يطلق عليه اسم الجزء الضال من حياته، والذي يذكّر المرء أن في داخل القديس، أو شبه القديس، كان هناك شخص حاد الذكاء، ومقتدر، ممن كان بوسعه، لو شاءَ، أن يصبحَ محاميا باهر النجاح، أو موظفا إداريا كبيرا، أو ربما حتى رجل أعمال.
وأذكر أني قرأت الفصول الأولى للسيرة الذاتية أول ما ظهرت تقريبا على صفحات جريدة هندية سيئة الطباعة. وقد تركت لدي تلك الفصول انطباعا طيباً، فيما كان غاندي نفسه لم يترك لدي ذلك الانطباع في حينه. ولم تكن الانطباعات المرتبطة بغاندي- بدءا من ملابسه المصنوعة من النسيج المحلي، و "قواه الروحية"، ونزعته النباتية- تسترعي الجاذبية، كما كان واضحا أن برنامجه الذي يعود إلى القرون الوسطى غير قابل للتطبيق في بلد متخلف، يتضور جوعا، ومكتظ بالسكان. وبدا واضحا أيضا أن البريطانيين كانوا يستفيدون منه، أو ظنوا أنهم يستفيدون منه. وبالمعنى الدقيق للكلمة، وبوصفه رجلا وطنياً، فقد كان عدوا، ولكن بسبب الضغوط التي بذلها في كل أزمة من أجل منع حدوث أعمال عنف- والتي عنت، قدر تعلق الأمر بوجهة النظر البريطانية، منع حدوث أي عمل فاعل، مهما كان- فقد كان من الممكن اعتباره "رجلنا". داخليا، كان هذا الحال موضع اعتراف بشكل ساخر في بعض الاحيان. وقد كان موقف الاثرياء الهنود مشابها. لقد طالبهم غاندي باعلان التوبة، وبطبيعة الحال، فضلوه على الاشتراكيين والشيوعيين الذين، لو اتيحت لهم الفرصة، لكانوا أخذوا منهم أموالهم. بيدّ أن معرفة إمكانية الاعتماد على مثل هذه الحسابات على المدى البعيد تبقى أمرا مشكوكا فيه؛ إذ يقول غاندي نفسه، "في نهاية المطاف، لا يخدع المخادعون إلاّ أنفسهم"؛ ولكن، وعلى أية حال، فان اللطف الذي عومل به غاندي على الدوام تقريبا يرجع جزئيا إلى الشعور بأنه كان مفيدا. ولم يصبح المحافظون البريطانيون غاضبين عليه بحق إلا سنة 1942، وكان يوجه سلاحه اللاعنفي في حينه ضد غازٍ مختلف.
ولكن حتى في حينه، كان بوسعي أن ألاحظ أن المسؤولين البريطانيين الذين تحدثوا عنه بمزيج من التسلية وعدم الرضى، كانوا يحبونه بصدق ومعجبين به أيضا، وكأنه موضة. ولم يُلمح أي شخص على الإطلاق بأنه كان فاسدا، أو طموحا بأي شكل مبتذل، أو أن أي شيء قد فعله كان مدفوعا بالخوف أو الحقد. ويبدو غريزيا أن إطلاق حكم على غاندي يستدعي معايير عالية، ولهذا السبب فقد مرت بعض فضائله دون أن ينتبه إليها أحد. وعلى سبيل المثال، من الواضح حتى من خلال سيرته الذاتية بأن شجاعته الشخصية كانت ماثلة للعيان: لقد كانت طريقة موته فيما بعد تعبيرا عن تلك الشجاعة، إذ أن أي رجل مشهور يعلق أهمية ما على حياته كان يفترض به أن يحظى بما يكفي من الحراسة. ويبدو مرة أخرى أنه كان متحررا من هوس الارتياب، وهو الهوس الذي يقول عنه إي.إم. فورستر[1] في روايته "رحلة الى الهند"، وهو محق في قوله، بأنه يحدق بالرذيلة الهندية، كالرياء في الرذيلة البريطانية. ولا شك أنه على الرغم مما كان يتمتع به من الذكاء الكافي للتعرف على الكذب، فانه يبدو قد اعتقد، أينما كان ذلك ممكنا، بأن الآخرين يتصرفون بحسن نية وأنهم يمتلكون سجية أفضل يمكن التعامل معهم من خلالها. وعلى الرغم من انحداره من عائلة فقيرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وأنه بدأ حياته على نحو سلبي، وربما كان مظهره الشخصي متواضعا، لكنه لم يعانِ من الغيرة أو من الشعور بالنقص. أما الشعور بلون البشرة فقد واجهه أول مرة في أسوأ أشكاله في جنوب أفريقيا، ويبدو أنه قد فاجأه. وحتى عندما كان يحارب ما كان يُعد عمليا حرب لون البشرة، لم ينظر إلى الآخرين من خلال العرق أو المنزلة. لقد كان محافظ الولاية، ومليونير القطن، وحمّال من السلالة الدرفيدية يكاد أن يتضور جوعا، وجندي بريطاني، كلهم بشر على قدم المساواة، يتم التخاطب معهم بطريقة واحدة. ومن الجدير بالذكر أنه حتى في أسوأ الظروف الممكنة، كما حدث في جنوب أفريقيا عندما أكسبته صفته كبطل للجالية الهندية عداء الآخرين،  فان غاندي لم ينقصه الاصدقاء الاوروبيين.
ولا تعد السيرة الذاتية، التي كُتبت على شكل حلقات قصيرة كي تصدر تباعا في الصحيفة، عملا أدبيا مميزا، لكنها كانت مدعاة لمزيد من الاعجاب بسبب ألفة المواضيع التي تضمنتها. وتجدر الاشارة في هذا الصدد بأن غاندي بدأ حياته كطالب هندي شاب بطموحات اعتيادية ولم يتبن آراءه المتطرفة إلا عبر مراحل ، وفي بعض الأحيان، دون رغبة. ولعل من المثير معرفة أن ثمة اوقات مرت على غاندي ارتدى خلالها قبعة الرأس الأوروبية، وحصل على دروس بالرقص، ودرس اللغتين الفرنسية واللاتينية، وزار برج ايفيل، بل حتى حاول تعلم العزف على الكمان، وحدث كل ذلك في سياق فكرة الاندماج بالحضارة الأوروبية بأشمل صورة ممكنة. ولم يكن غاندي واحدا من أولئك القديسين الذين يتميزون بتقوى استثنائية منذ طفولتهم، ولم يكن أيضا من النوع الآخر الذي يهجر الدنيا بعد حياة ملؤها الفسوق المثير. بل يعرض غاندي في سيرته الذاتية اعترافا كاملا بآثامه عندما كان شابا، ولكن في الواقع لم يكن هناك الكثير مما يستدعي الاعتراف به. كما تظهر ثمة صورة في مقدمة الكتاب تتضمن مقتنيات غاندي عند وفاته. وكان بالامكان شراء كل ملابسه بنحو خمسة جنيهات، في حين بدت قيمة ذنوب غاندي، ذنوبه الجسدية على أقل تقدير، أنها تعادل قيمة ملابسه ذاتها إذا ما وضعت في كومة واحدة.  وشملت هذه الذنوب تناول بضع سيجارات، وتناوله ما يوازي بضع ملاعق من اللحم، وسرقة تافهة لبضعة (آناز)[2] من الخادمة، وزيارتين إلى بيوت الهوى (وخرج في كلا الزيارتين من البيت "دون فعل أي شيء")، وفي مرة أوشك أن يهرب من صاحبة المنزل الذي سكنه في بلايموث دون تسديد حسابه، وحالة واحدة تفجر غضبه فيها، وهذا كل ما تضمنته مجموعة الذنوب. ومنذ طفولته تقريبا، طغت على غاندي صفة الجدية العميقة، وتوجه أخلاقي أكثر من كونه دينيا، لكنه، وحتى بلوغه سن الثلاثين، لم يصل تماما إلى خيار واضح المعالم بشأن توجهاته المستقبلية. ولقد كان أول دخول له إلى أي شيء يمكن تسميته بالحياة العامة قد حدث من خلال نزعته النباتية. وبوسع المرء أن يشعر في جميع الأوقات أن وراء صفاته الأقل من الاعتيادية تكمن صلابة الطبقة الوسطى لاجداده من رجال الاعمال.  ويكاد يشعر المرء أنه حتى بعد تخليه عن طموحه الشخصي، لا بد أنه كان رجلا واسع الحيلة، ومحاميا نشطا، ومنظما سياسيا عنيدا، حريصا على تقليص الكلف، ومعالجا بارعا لعمل اللجان، ومتابعا لا يعرف الكلل عندما يتعلق الأمر بمتابعة الاشتراكات. وكانت شخصيته مزيجا غير اعتيادي من الصفات، ولكن لم يكن بوسعك أن تضع أصبعك على شيء يمكن أن تسميه سيئا، واعتقد أنه حتى ألد أعداء غاندي سيعترفون بأنه كان رجلا مثيرا للاهتمام وغير اعتيادي، وأن مجرد وجوده على قيد الحياة من شأنه أن يثري العالم. غير أني لم أكن أبدا على يقين تام،  بإن غاندي كان رجلا محبوبا، وأن تعاليمه يمكن أن تعني الكثير لاولئك الذين لا يقبلون بالمعتقدات الدينية التي نشأت عليها.
أضحى الحديث عن غاندي مؤخرا وكأنه ضرب من ضروب الموضة، وأنه لم يكن متعاطفا مع حركة الجناح اليساري في الغرب فحسب، لكنه كان جزءا مكملا لها. وزعم كل من الفوضويين ودعاة السلام، على وجه الخصوص، بأن غاندي ملك لهم، مكتفين بالإشارة إلى أنه كان معارضا للمركزية والعنف اللذين تمارسهما الدولة، فيما غضوا الطرف عن التوجهات الدنيوية الأخرى لمعتقداته المناهضة للطبائع البشرية. غير أني اعتقد بأن على المرء أن يدرك بأن تعاليم غاندي لا يمكن حصرها بالاعتقاد أن الانسان هو المقياس لجميع الاشياء وأن مهمتنا تكمن في جعل الحياة جديرة بالعيش على هذه الأرض، وهي الارض الوحيدة التي نمتلك. ولا تكتسب هذه المعتقدات فهما عقلانيا إلاّ عند الافتراض بأن الله موجود وأن عالم الاشياء الملموسة هو خيال يتعين الهروب منه. ومن الجدير بالملاحظة أن غاندي كان قد اعتبر قواعد السلوك المنضبطة التي فرضها على نفسه، رغم أنه قد لا يصر على كل تابع من تابعيه بالتقيد بكل تفاصيلها، لا غنى عنها إذا ما أراد المرء أن يخدم الله أو الانسانية. وعليه، ينبغي، بادئ ذي بدء، الامتناع عن أكل اللحوم، وعدم تناول أية منتجات حيوانية بأي شكل من الأشكال إذا ما تيسر ذلك. (وكان على غاندي أن يقبل شخصيا بحل وسط في هذا الخصوص، لاسباب تتعلق بصحته، قدر تعلق الأمر بتناول الحليب لكنه يبدو قد شعر بأن هذا الأمر يشكل ارتدادا كبيرا). كما يتعين عدم تعاطي الكحول والتبوغ، وعدم تناول التوابل والبهارات حتى لو كانت نباتية، حيث ينبغي عدم تناول الطعام لمجرد كونه طعاما بل بقصد الحفاظ على قوة الانسان  فقط. ثانياً، يتعين عدم إقامة أي اتصال جنسي، إذا كان ذلك ممكنا. وإذا ما كان لزاما على المرء أن يجري اتصالا جنسيا، فإن ذلك يجب أن يكون لهدف واحد يتلخص في انجاب الأطفال مع افتراض أن يكون هذا الاتصال بين فترات متباعدة. وكان غاندي شخصيا، قد أدى القسم، بموجب الديانة الهندوسية (براماهتشاريا)[3]، عندما كان في منتصف الثلاثينات من عمره، مما لا يعني مجرد التقيد بالعفة التامة بل القضاء على الرغبة الجنسية. ويبدو أنه من الصعوبة بمكان بلوغ هذا الشرط دون ممارسة نظام حمية خاص والاكثار من الصيام. وتقع مخاطر تناول الحليب في امكانية إثارته للغرائز الجنسية. وأخيرا، هناك النقطة الجوهرية لمن يتطلع للصلاح، إذ يتعين عليه ألاّ يقيم علاقات صداقة وثيقة وألاّ يطور علاقة حب خاصة بأي شكل من الأشكال.
ويقول غاندي، في هذا الصدد، بأن الصداقات الوثيقة خطرة، لأن "الأصدقاء يستجيبون لبعضهم البعض"، وإن الولاء للصديق قد يقود المرء إلى الوقوع في الخطيئة. ولا شك أن هذا القول صحيح. علاوة على ذلك، إذا ما أحب شخص ما الله، أو أحب الانسانية جمعاء، فليس للمرء حينها أن يمنح الأفضلية لشخص واحد. وهذا، مرة أخرى، قول صحيح، ويشير إلى النقطة التي يصبح عندها التوفيق بين المواقف الانسانية والدينية غير متاح. فبالنسبة للبشر الاعتياديين، الحب لا يعني أي شيء إنْ لم يكن ليعني حب البعض بدرجة أكبر من سواهم. من جانبها، تترك السيرة الذاتية القارئ دون يقين إن كان غاندي قد تصرف بطريقة غير مناسبة حيال زوجته وأطفاله، ولكنها تشير بوضوح، على أية حال، في أكثر من مناسبة بأنه كان مستعدا لترك زوجته أو ترك طفل ما يموت على أن يقدم لأي منهما الاغذية ذات المنشأ الحيواني التي وصفها الطبيب. غير أن الحقيقة تكمن بأن خطر الموت لم يحدث إطلاقا على أرض الواقع، فضلا عن أن غاندي، وهذا ما بوسع المرء أن يدركه،  أعطى المريض على الدوام، وبقدر كبير من الضغط الاخلاقي في الاتجاه المعاكس، خيار البقاء حيا على حساب ارتكاب الخطيئة: ويبقى، لو كان القرار عائدا له فقط، لكان قد حرّم تناول الاغذية ذات المنشأ الحيواني، بغض النظر عن المخاطر المترتبة على ذلك. ويقول غاندي، في هذا الصدد، يتعين وجود بعض الحدود لما سنفعله من أجل البقاء على قيد الحياة، وأن هذه الحدود تقع على هذه الجهة من حساء الدجاج. وقد يكون هذا السلوك نبيلا، لكن حسب اعتقادي، وقدر تعلق الأمر بما سيطلقه معظم الناس على هذا السلوك، فهو لا انساني. إن جوهر أن يكون المرء إنسانا يكمن في ألا يسعى إلى الكمال، وأن يكون مستعدا في بعض الأحيان لارتكاب الآثام من أجل الاخلاص، وألا يدفع  المرء بالزهد إلى الحد الذي تصبح معه إقامة علاقة الصداقة أمرا مستحيلا، وأن يكون المرء على استعداد، في نهاية المطاف، للقبول بالهزيمة والانكسار أمام الحياة، وهو الثمن الذي لا بديل عن تسديده مقابل اغداق الحب على شخص آخر. وما من أدنى شك بأن الكحول والتبغ وما إلى ذلك من أمور، هي أشياء ينبغي على القديس ان يتجنبها، لكن على البشر أيضا أن يتجنبوا القداسة. هناك ثمة رد حاسم وواضح على ما تقدم، لكن على المرء أن يكون حذرا بشأن تقديم هذا الرد. في هذا الزمن المبتلى بممارسي اليوغا، يسود الاعتقاد دون أي تردد بأن "عدم الارتباط" ليس أفضل من القبول الكامل بالحياة الدنيوية فحسب، بل لأن الانسان العادي لا يرفضه إلا لكونه صعبا جدا: بعبارة أخرى،  إن الانسان العادي هو قديس فاشل. بيدّ أن شكوكا تحوم حول صحة ما تقدم، إذ أن الكثير من الناس لا يرغبون صراحةً بأن يكونوا قديسين، ومن المحتمل أن يكون البعض ممن يحقق طموحه أو يتطلع لمرتبة القداسة لم يشعرعلى الاطلاق بالرغبة في أن يكون بشرا. وإذا ما كان بوسع المرء أن يتتبع الجذور النفسية لهذه الحالة، فبامكانه على ما اعتقد، أن يجد بأن الدافع الرئيسي الذي يقف وراء "عدم الارتباط" هو الرغبة في الهرب من آلام الحياة، وفي مقدمتها الهرب من الحب، الذي يبقى، إنْ كان جنسيا أم غير جنسي، عملا شاقا. لكنه ليس من المهم هنا الجدل إن كان النموذج الدنيوي الآخر أو الإنساني "أعلى" مرتبة. فالمسألة تكمن بأنهما غير منسجمين. على المرء أن يختار بين الله وبين الانسان، وإن كل "المتطرفين" و "التقدميين"، من أكثر الليبراليين تسامحا إلى أكثر الفوضويين تطرفا، قد اختاروا عمليا الانسان.
ومع ذلك، بالامكان فصل الدعوة السلمية لغاندي إلى حد ما عن تعاليمه الأخرى. لقد كان دافعها دينيا، لكنه زعم أيضا بأنها كانت طريقة محددة، أو وسيلة، قادرة على تحقيق النتائج السياسية المرجوة. ولم يكن سلوك غاندي مشابها لسلوك معظم دعاة السلام الغربيين. لقد نشأت (ساتياغراها) أول الأمر في جنوب أفريقيا، وكانت ضربا من ضروب الحرب غير العنفية، وطريقةً لدحر العدو من دون إلحاق الأذى به ومن دون الشعور بالكراهية أو إثارة مشاعر الكراهية. وقد انطوت على مسائل مثل العصيان المدني، والاضرابات، والاستلقاء على السكك الحديدية، وتحمل اتهامات الشرطة دون الهروب ودون الرد عليها، وأمور أخرى على هذه الشاكلة. ولقد اعترض غاندي على ترجمة الـ(ساتياغراها) بوصفها "المقاومة السلبية": ويبدو أن الكلمة تعني باللغة الغوجوراتية "الإصرار على الحق". لقد عمل غاندي في بداياته الأولى كحامل نقالة مرضى مع البريطانيين في حرب البوير، وكان مستعدا لفعل الأمر نفسه في حرب 1914-1918. وحتى بعد أن تبرأ من العنف بشكل كامل، فقد تمتع بما يكفي من النزاهة لأن يرى بأن من الضروري على المرء في الحرب أن ينحاز إلى أحد الجانبين. لكنه بالواقع لم يفعل ذلك، لأن حياته السياسية تمركزت على النضال من أجل تحقيق الاستقلال الوطني، وعليه لم يكن بوسعه أن ينحاز- وأن يتخذ مسارا عقيما ومخادعا والزعم بأنه في كل حرب يكون الطرفان متساويين تماما وأن فوز أحدهما لا يعني أي شيء. ولم يفعل كما فعل معظم دعاة السلام الغربيين، المتخصصين في تجنب الأسئلة المحرجة. وبخصوص الحرب الأخيرة، كان السؤال الذي كان على كل داعية سلام مسؤولية واضحة في الرد عليه: "وماذا عن اليهود؟ هل انت مستعد لرؤيتهم يبادون؟ وإذا كان الجواب بالنفي، ماذا تقترح من أجل انقاذهم دون اللجوء إلى الحرب؟ "عليّ أن اعترف بأني لم اسمع من أي داعية سلام غربي جوابا صادقا على هذا السؤال، رغم أني سمعت الكثير من التهرب، على شاكلة: ولكنك نوع "مختلف عن الآخرين". غير أن ما حدث فعلا هو أن سؤالا مشابها وجه إلى غاندي سنة 1938 وقد وردت إجابته في كتاب لويس فيشر (غاندي وستالين). ووفقا للسيد فيشر، فقد رأى غاندي بأن على اليهود الالمان أن يقوموا بانتحار جماعي، الأمر الذي كان من شأنه "أن يلفت انتباه العالم والشعب الالماني ضد العنف الذي مارسه هتلر". وبعد الحرب، برر غاندي موقفه بالقول: لقد قُتل اليهود في كل الاحوال، وربما ماتوا بأعداد هائلة. وقد يشعر المرء بأن مثل هذا السلوك قد أذهل حتى شخص بدفء واعجاب فيشر نفسه، لكن غاندي أبى إلا أن يكون صادقا مع نفسه. إن لم تكن مستعدا للتضحية بحياتك،  عليك أن تكون على الأغلب مستعدا لقبول موت البشر بطريقة أخرى. وفي سنة 1942، عندما حث على اتباع المقاومة اللاعنفية ضد الغزو الياباني، كان غاندي مستعدا للاعتراف بأن ذلك قد يكلف عدة ملايين من الارواح.
في الوقت نفسه، هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن غاندي الذي كان، على أية حال، قد ولد سنة 1869، لم يفهم طبيعة الاستبداد ورأى كل شيء من زاوية نضاله الشخصي ضد الحكومة البريطانية. إن النقطة المهمة في هذا الصدد لا تتصل كثيرا بحقيقة أن البريطانيين عاملوه على الدوام بتسامح، بقدر ما كانت تتعلق بقدرته الدائمة على السيطرة على وسائل الاعلام. وكما يبدو واضحا من عبارة وردت أعلاه، لقد آمن غاندي في "إثارة الرأي العام في العالم"، وهي الطريقة الوحيدة والمتاحة إذا أردت للعالم أن يستمع إليك. في هذا السياق، يصعب رؤية قدرة تطبيق منهج غاندي المذكور في بلد يختفي فيه معارضو النظام في منتصف الليل ولا يُسمع عنهم بعد ذلك أي شيء على الاطلاق. من دون صحافة حرة والحق في التجمع، سيكون من المستحيل ليس مجرد مناشدة الرأي العام الخارجي، بل تستحيل امكانية ظهور حركة جماهيرية إلى حيز الوجود، أو حتى تعريف خصمك بأهدافك. هل يوجد هناك غاندي في روسيا في هذا الوقت؟ وإن كان هناك، فما هي انجازاته؟ ولن يكون بوسع الجماهير الروسية ممارسة العصيان المدني إلا إذا حدث وأن قرر الجميع ممارسته في آن واحد، وحتى في تلك الحالة، وإذا ما حكمنا استنادا إلى تاريخ المجاعة في اوكرانيا، فإن الأمر سيان. لكن علينا أن نعترف بأن المقاومة اللاعنفية قد تكون مؤثرة ضد حكومة ما، أو ضد قوة احتلال: رغم ذلك، يبقى السؤال كيف يمكن للمرء أن يضع هذه المقاومة موضع التنفيذ دوليا؟ ويبدو أن خُطب غاندي العديدة المتناقضة بشأن الحرب الأخيرة تظهر بأنه قد شعر بصعوبة هذا الجانب.  وإذا ما وضعنا فلسفة الدعوة الى السلام موضع التنفيذ في السياسات الخارجية، فأنها أما أن تفقد معناها كدعوة للسلام أو أن تتحول إلى مداهنة. علاوة على ذلك، إن الافتراض، الذي خدم غاندي كثيرا وعلى نحو جيد في تعامله مع الأفراد، بأن من الممكن التعامل مع جميع البشر بشكل أو بآخر وأنهم سيستجيبون لبادرة سخية، يتطلب مراجعة جدية. إن هذا الافتراض لن يكون من الضروري صحيحا عندما تتعامل مع مجانين، على سبيل المثال. ويصبح السؤال حينئذ: من هو العاقل؟ هل كان هتلر عاقلا؟ وهل أنه من غير الممكن لثقافة بأكملها أن تكون مجنونة بموجب معايير ثقافة أخرى؟ وقدر تعلق الأمر بالقدرة على قياس مشاعر الامم بأجمعها، هل هناك صلة جلية بين الفعل السخي والاستجابة الودية؟ وهل يمكن اعتبار العرفان بالجميل عاملا في السياسات الدولية؟
إن هذه الاسئلة وسواها من الاسئلة المشابهة تحتاج إلى نقاش عاجل خلال السنوات القليلة المتبقية لنا قبل أن يقوم أحدهم بالضغط على الزر وتبدأ الصواريخ بالتطاير. ويبدو أن قدرة الحضارة على تحمل حرب شاملة أخرى موضع شك كبير، كما يبدو أيضا، على الأقل، أن المخرج ممكن أن يتحقق من خلال منهج لا عنفي. وتكمن فضيلة غاندي بأنه كان مستعدا لأن ينظر بصدق في مثل هذا السؤال الذي أثرته أعلاه؛ وفي الواقع، ربما يكون قد ناقش معظم هذه الأسئلة بشكل أو بآخر في مقالات، لا تعد ولا تحصى، نشرتها له الصحف. إن المرء ليشعر أن هناك الكثير مما لم يفهمه غاندي، ولكنه لا يشعر بأن غاندي كان يخاف من الكلام أو من التفكير. ولم اتمكن ابدا من الشعور بالكثير من الود تجاه غاندي، لكني لست واثقا بأنه، كمفكر سياسي، كان مخطئا بشأن المواضيع الجوهرية، ولا أشعر أيضا بأن حياته ذهبت سُدىً. ومن الغرابة بمكان أنه عند اغتياله، تحدث الكثير من أشد المعجبين به بمرارة عنه قائلين أنه عاش ما يكفي من الوقت لرؤية ما بناه في حياته ينهار، لان الهند كانت قد دخلت في حرب أهلية وهي الحرب التي كانت دائما متوقعة بوصفها واحدة من النتائج الجانبية لنقل السلطة. بيدّ أن غاندي لم يمض حياته في محاولة التخفيف من وطأة الصراع بين الهندوس والمسلمين. لقد كان هدفه السياسي الأساسي، إيجاد نهاية سلمية للحكم البريطاني، وهو الأمر الذي تحقق في نهاية المطاف. وكالمعتاد فان الحقائق ذات الصلة تتقاطع مع بعضها البعض. فمن جهة، خرج البريطانيون من الهند دون أن يحاربوا، بل حتى أنهم غادورا البلاد على نحو قلة من المراقبين توقعوه قبل سنة واحدة من حدوثه. ومن جهة أخرى، فان الانسحاب قد تم على يد حكومة عمالية، وانه من المؤكد بأن حكومة محافظة، لا سيما حكومة يترأسها تشرشل، كانت قد تصرفت على نحو مختلف. لكن، لو كان قد نشأ في بريطانيا رأي عام مؤثر متعاطف مع استقلال الهند بحلول سنة 1945، فكم من ذلك التعاطف كان سيُعزى الى نفوذ غاندي الشخصي؟ وإذا ما انتهى المطاف بين بريطانيا والهند إلى علاقة لائقة وودية، كما هو متوقع، فهل سيُعزى ذلك جزئيا إلى غاندي، وهل سيُفهم بأنه وبحفاظه على نضاله بإصرار، ومن دون كراهية، فقد عمد إلى تطهير الأجواء السياسية؟ إن مجرد التفكير باثارة مثل هذه الاسئلة من شأنه أن يعكس منزلته. وقد يشعر المرء، كما أشعر أنا، بنوع من النفور الجمالي ازاء غاندي، وقد يرفض المرء الادعاءات بالقدسية التي اسبغت نيابة عنه (علما أن غاندي لم يطلق أي زعم  من هذا النوع على الإطلاق)، وقد يرفض المرء ايضا القدسية كمفهوم مثالي، مما يجعله يشعر بأن الاهداف الجوهرية لغاندي كانت غير انسانية ورجعية: لكن النظر اليه كسياسي فقط، وبالمقارنة مع الشخصيات السياسية الرائدة لعصرنا هذا، كم هي نظيفة تلك الرائحة التي نجح غاندي في تركها وراءه!
***
 [1]  روائي وكاتب بريطاني توفي سنة 1970 (المترجم).
[2]  العملة المحلية الهندية السابقة التي كانت تستخدم في الهند وبورما (المترجم)
[3]  براماهتشاريا Bramahcharya وهي احدى المراحل الاربعة للحياة في مفهوم النظام الاجتماعي للديانة الهندوسية. (المترجم)

ليست هناك تعليقات:

تنويه من المحرر

تنويه من المحرر
وجهات نظر موقع شخصي تماماً لا يمثل أي جهة أو حزب أو منظمة، ولا ينتمي إلا للعراق وأمته العربية والإسلامية، وهو محمي بالقانون وبميثاق الشرف الصحفي ولايسمح بإعادة النشر إلا بشرط ذكر المصدر.. الكتاب يتحملون مسؤولية مقالاتهم، والناشر غير مسؤول عنها..