موقعنا الجديد، مع التقدير

موقعنا الجديد، مع التقدير
نأسف لإزعاجكم، انتقلنا إلى هنا رجاءً، يرجى الضغط على الصورة للانتقال إلى موقعنا الجديد

الأربعاء، 27 مارس 2013

عاصمة الثقافة تحارب مثقفيها


نواف شاذل طاقة
بدأت في بغداد في الثالث والعشرين من الشهر الجاري فعاليات مهرجان بغداد عاصمةً للثقافة العربية حيث ستنظم وزارة الثقافة العراقية في هذه المناسبة فعاليات ثقافية وفنية على مدى سنة كاملة. 
ويرجع أصل فكرة العواصم الثقافية إلى مبادرة  مشتركة كانت قد أطلقتها سنة 1985 وزيرة الثقافة اليونانية السابقة الممثلة ميلينا ميركوري بالاشتراك مع وزير الثقافة الفرنسي الاسبق المفكر جاك لانغ. وكان الهدف من المبادرة التقريب بين المدن الأوروبية وتسليط الضوء على ثراء وتعددية الثقافة الأوروبية والتعريف بالتاريخ والقيّم الأوروبية المشتركة.
وقد تلقفت الفكرة فيما بعد منظمات دولية عديدة حتى وصلت إلينا.

ويأتي اختيار العراق عاصمة للثقافة العربية بعد 10 سنوات من مقاطعة وعزلة عاشتها بغداد بسبب ارتباط حكوماتها بالاحتلال الأجنبي للعراق سنة 2003، وقبول هذه الحكومات بدستور حرمها من هويتها العربية. وهكذا، لم يكن مستغربا أن يشعر المسؤولون في وزارة الثقافة بغبطتهم لاختيار بغداد عاصمة للثقافة العربية. والواضح أيضا بأن المسؤولين في المنطقة الخضراء يعتقدون أن هذا الاختيار سوف يغسل تاريخهم الاسود، ويفتح صفحة جديدة في علاقتهم مع الأشقاء العرب.  
ووسط لغط وجدل واسع في الأوساط الثقافية العراقية والعربية حول حكمة قرار اعتبار بغداد عاصمة للثقافة العربية، رأى البعض أن من الضروري لبغداد أن تعود إلى أحضان الأمة العربية بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم فيها، وأن يُعترف بها مجددا كمحطة هامة للثقافة العربية وواحدة من مناراتها. وفي الوقت الذي لا يختلف فيه اثنان على الرغبة باسترجاع هذه العاصمة المسبية عزتها ومجدها وهويتها العربية، فقد اكتسب الحدث طابعا سياسيا واضحا. ووسط تباين هذه الآراء، لا بد من الوقوف على الدور الذي تمارسه الجهة المشرفة على نشاطات هذا الحدث الهام، وكيف ينظر قادة المنطقة الخضراء إلى المثقفين في العراق.   
بخصوص وزارة الثقافة العراقية، ومقارنة مع التجربة الأوروبية في تنظيم العواصم الثقافية، فقد حرصت أوروبا على حشد أكبر عدد ممكن من كبار مثقفيها وأوسعهم شهرة لانجاح المهمة، والواضح أنها اختارت أبرز العناوين الثقافية في بلادها لتحقيق هذه الغرض. وهكذا انطلقت هذه المبادرة في أوروبا من جانب شخصيتين ثقافيتين أوروبيتين معترف بانجازاتهما الفكرية في مجال الثقافة والفن. أما في العراق، فالمعروف بأن وزير الثقافة العراقي، على خلاف زميلته اليونانية ونظيره الفرنسي، بعيد كل البعد عن الحياة الثقافية فماضيه وخبرته المهنية تنحصران في أغلبها في عمله كنقيب أمن سابق في مديرية الأمن العامة في بغداد. أما وكيل وزارة الثقافة، فقد فرّ من العراق قبل أشهر من الحدث وأعلن من على شاشات فضائيات عربية عديدة أنه غادر البلاد بعد تعرضه للتهديد بالقتل من جانب أعلى جهة حكومية في المنطقة الخضراء. وفي غضون ذلك، فقد انيطت مهمة الاشراف على فعاليات "بغداد عاصمة للثقافة العربية" بوكيل آخر لوزارة الثقافة ينتمي إلى حزب أصر على حذف أية إشارة إلى العروبة في دستور البلاد، في وقت يعلن زعماؤه ليل نهار عن رغبتهم في الانفصال عن العراق لكنهم يقولون أن "الظرف الدولي لا يسمح بذلك". 
وبمعزل عن هذا الواقع المؤسف لوزارة الثقافة، يرى بعض العراقيين بأن معاول التهديم الموجودة على رأس الوزارات العراقية، ومنها وزارة الثقافة، يجب ألا تؤثر سلبا على تنظيم هذه الحدث الهام، وهو رأي يتعين التوقف عنده. ولمعرفة مدى جدية هذا الرأي، لا بد من التعرف على الطريقة التي يعامل بها مثقفو العراق، بما في ذلك كبار شعرائه وأدبائه وفنانيه، والموقف من الأدب والفن إجمالا في العراق، ففي نهاية المطاف، سيقع نجاح هذا الحدث الهام على عاتق المثقفين العراقيين، فهم الفنار الذي سيهدي المثقفين في اصقاع العالم إلى حقيقة الثراء الثقافي في العراق وعظمة تاريخ هذه البلاد العريقة.   
غير أن واقع الأمر في مجال الأدب والشعر في العراق يروي حكاية مؤلمة أخرى، إذ لم تشهد البلاد عصرا أهين فيه الأدب والشعر أسوأ من هذا العهد، حيث تعرض غالبية الشعراء والأدباء العراقيين الكبار إلى الاضطهاد والتهميش والتضييق فغادر منهم من غادر البلاد،  فيما اضطر آخرون إلى الاعتكاف في دورهم ولم نعد نسمع منهم شعرا ولا قوافيا. والسؤال الذي يرد إلى ذهن أي باحث عن الثقافة: هل احتفت بغداد عاصمة الثقافة بكبار شعرائها وأدبائها؟  وأين هم كبار شعراء العراق اليوم؟ ولماذا غادر العراق كبار شعرائها وأدبائها وفنانيها ونحاتيها ورساميها ومغنيها؟ ولماذا اعتكف آخرون في ديارهم؟ ولماذا تحتفي الصحف والفضائيات العربية في كل مكان، عدا العراق، بقصائد وأعمال ادبية ونقدية واسهامات فكرية ومعارض فنية للعديد من الادباء والمثقفين العراقيين، فيما توصد بغداد الأبواب عليهم، وتمنعهم من التنفس؟ ولماذا غَيّبت وزارة الثقافة العراقية عن هذا الحدث رواد الحركة الأدبية في داخل العراق وخارجه من جيل الخمسينات والستينات والسبعينات وحتى الثمانينات؟ وأين القائمون على تنظيم هذا الحدث من دعوة رائدات الادب العراقي المقيمات معظمهن خارج العراق اليوم خوفا من البطش والتضييق اللذين تمارسهما حكومات المنطقة الخضراء؟ ولماذا لم يسمح للهيئات والنقابات المعنية في الأدب داخل العراق بأن تكون ضمن اللجنة المشرفة على هذا الحدث الهام؟ ولماذا تتعمد حكومة المنطقة الخضراء التعتيم على الإرث الرائع لرواد الأدب والشعر العربي الكبار الذين غادروا عالمنا هذا لمجرد اختلافها معهم في المواقف السياسية؟  حول هذه الاسئلة، يُلخص أحد الكتاب المقربين من المنطقة الخضراء الموقف في مقال نُشر مؤخرا بالقول: "إن الثقافة مصطلح عنصري" وهي الخطر الأكبر الذي يواجه المجتمع العراقي؛ وعليه يرى الكاتب بأن كلمة "ثقافة" اختيرت لتكون مصطلحا نقيضا للدين. ويتساءل هذا الكاتب الذي يكاد يعبر عن صوت الأحزاب الظلامية التي تحكم البلاد قائلا: "وهل كانت الثقافة العربية يوما ما أنظف من أزبال العراق في بغداد وغير بغداد؟". 
وإن كان الأدباء والشعراء العراقيون قد عانوا الأمرّين في العراق، فإن حال الفنانين التشكيليين، ليس أفضل بل ربما أسوأ. لقد شهدت بغداد حملة هوجاء ضد فنانيها وضد أعمالهم الفنية التي خلدت تاريخ العراق وحضارته، وكان قادة هذه العاصمة، التي تسعى لان تكون منارة للثقافة، سباقين في حملة تحطيم تماثيلها مبتدئين بتمثال مؤسس بغداد أبو جعفر المنصور. كما غابت عن بغداد تماثيل رائعة أخرى مثل تمثال رئيس الوزراء العراقي الاسبق عبد المحسن السعدون، ونصب المسيرة للنحات الكبير خالد الرحال، الذي يرمز إلى مسيرة الحضارة في العراق، ونصب اللقاء للفنان الكبير علاء بشير الذي يرمز إلى الوحدة الوطنية، ونصب ساحة النسور للفنان الراحل ميران السعدي، الذي يرمز إلى القوة والطموح لدى العراقيين، وغيرها الكثير من  نصب وتماثيل العراق التي روت تاريخه المجيد. وقد نتجت عن حملة الكراهية هذه أن لملم كبار نحاتي ورسامي العراق أمتعتهم وهاموا في دول المهجر، وتوفي البعض منهم هناك وهو يحلم بالعودة إلى العراق. 
وفي مجال الفن السينمائي والمسرحي، وبينما يتشدق المسؤولون في بغداد بأن مبالغ فلكية خصصت للاحتفالات بهذه المناسبة، يؤكد النقاد والفنانون بأن هذه المبالغ ذهبت إلى شركات خاصة لتتسرب فيما بعد إلى جيوب الفاسدين القريبين من أوساط المنطقة الخضراء شأنها شأن بقية العقود الوهمية التي يشهدها العراق منذ عشر سنوات. وفي الوقت الذي تهدر فيه أموال العراق، ما زالت المسارح العراقية خاوية على عروشها، بعد أن كانت من المسارح الرائدة في الوطن العربي طيلة السنوات الستين التي سبقت الاحتلال، حتى أن مسرحي الرشيد وبغداد ما برحا يتطلعا إلى من يداوي التصدعات والشقوق التي تعاني منها جدرانهما، في وقت تشكو فيه السينما العراقية التي قدمت للعراقيين أعمالا فنية لا تنسى، من افتقارها إلى كاميرا واحدة متطورة. ويكفي معرفة أن السنوات العشر الماضية لم تشهد أي عمل سينمائي يستحق الذكر، بل لم تشهد أي عمل فني لائق على الاطلاق سينمائيا كان أم غيره، في وقت تجاوزت ميزانية العراق المائة مليار دولار سنويا!   
إن تحول المدن إلى عواصم ثقافية لا يتحقق بقرارات سياسية من جانب أنظمة فاسدة، بل من خلال الاعتراف بالارث الثقافي للبلاد وتنوعه واحترام أدبائه وشعرائه ونحاتيه ورساميه ومسرحييه وسينمائييه ومغنيه، وفي مقدمتهم أولئك الذين غيبهم الموت. كما أن العاصمة التي لا ترعى كبار مثقفيها، ولا تحتفي بنتاجهم الثقافي، ولا تحفل بمصيرهم، بل تطاردهم وتتبارى في طمس نتاجاتهم الادبية لن تكون عاصمة للثقافة بل عاصمة للجهالة والتخلف.

ليست هناك تعليقات:

تنويه من المحرر

تنويه من المحرر
وجهات نظر موقع شخصي تماماً لا يمثل أي جهة أو حزب أو منظمة، ولا ينتمي إلا للعراق وأمته العربية والإسلامية، وهو محمي بالقانون وبميثاق الشرف الصحفي ولايسمح بإعادة النشر إلا بشرط ذكر المصدر.. الكتاب يتحملون مسؤولية مقالاتهم، والناشر غير مسؤول عنها..