القس لوسيان جميل
المقدمة:
ما أود ان أقوله، قرائي الكرام، من البدء لحضرتكم هو أنني لا أنوي ان اقدم لكم مقالا لاهوتيا عن الايمان المسيحي، ولا عن اي ايمان آخر، كما لن اجري مقارنة بين ايمان وإيمان، ولن اتحمس لإيمان دون غيره، لأنه لا يوجد سبب لهذه المقارنة ولا لهذا الحماس، كما لا توجد مناسبة لكتابة مثل هذا المقال، في هذه المواقع التي اكتب فيها، والتي هي غير متخصصة بمثل هذه المواضيع الدينية واللاهوتية الخاصة. فما انوي بالحقيقة ان أقدمه لكم هو مقال عن الايمان بشكل عام، لا يستند الى عقيدة غيبية ولا الى نص من نصوص اي كتاب مقدس، ولا الى اي لاهوت تقليدي غيبي وغير علمي، على الرغم من اني احترم كل لاهوت وأنظر نظرة قدسية خاصة الى اي كتاب مقدس، لأن جميع الكتب المقدسة لها مكانتها الخاصة عندي، كما لها الكلام العلمي المناسب في منهجيتي اللاهوتية العلمية المستندة الى علوم الانسان، وليس الى اية افكار غيبية.
ففي الحقيقة ما اود ان اعمله هو الكتابة عن ظاهرة الايمان من وجهة نظر علمية استقرائية، يستطيع ان يفهمها كل انسان مثقف بسهولة، ويميز بالتالي الايمان من عدمه، بسبب المنهجية العلمية التي اتبعها، والتي تستند الى علوم الانسان بشكل عام، والى الأنثروبولوجيا بشكل خاص، حيث ترى منهجيتي وبالإثباتات، ان لا تناقض بين ان تكون حقيقة ما، مثل حقيقة الايمان، حقيقة مقدسة، وتكون في الوقت عينه حقيقة علمية انسانية يعود تفسيرها الحقيقي الى علوم الانسان، ومنها الأنثروبولوجيا.
الايمان حقيقة انثروبولوجية:
وفي الواقع، إذا ما نظرنا الى الايمان نظرة علمية، بنيوية وتحليلية، سندرك ان فعل الايمان هذا فعل انساني مقدس، لأن هذا الفعل هو فعل معرفة بموضوع مقدس، هو الخير المطلق، اي هو الله والأمور الالهية بتعبير آخر. غير ان هذا الفعل الايماني المقدس صادر عن قوى انسانية انثروبولوجية، اي انه صادر عن الوجدان الذي هو من القوى الذاتية، والذي عنه تصدر الأفعال التي تعود الى المشاعر بكافة انواعها، ومنها المشاعر المقدسة التي تختص بمعرفة الخير المطلق، اينما يوجد، اي التي تختص بمعرفة الله والأمور الالهية، هذه الأمور التي ما كانت تصبح معروفة لجميع البشر، لولا طبيعتها الانسانية الأنثروبولوجية.
فالقوى الايمانية الأنثروبولوجية اذن، وليس غيرها، هي المختصة بطبيعة الأمور الايمانية: الله وسائر الأمور الالهية، حيث لا يحتاج الانسان لكي يؤمن، اي كشف الهي خاص، سوى الكشف الانساني المقدس الذي يأتي عن طريق طبيعة الانسان الأنثروبولوجية، هذه الطبيعة التي يرى العلم انها المسئولة عن معرفة الخير المطلوب في كل مرحلة من مراحل التغيير الحضاري الذي حدث ويحدث على ضوء، ومن وحي الخير المطلق الثابت وندائه، اي على ضوء الحق والخير والجمال، مع قبولنا الفلسفي بأن يقال ايضا ان الله هو وراء كل وجود وحركة وحق وخير وجمال، شرط ان يفهم من ذلك اننا نتكلم عن الله كعلة اولى لها طبيعتها الخاصة، وليس كعلة ثانوية، لها طبيعتها الخاصة وقواعد عملها كذلك، ومنها انها المسئول المباشر عن اية حركة وأي فعل.
بين الايمان واللاهوت:
غير ان الايمان الذي هو فعل انساني والهي معا، والذي ينتج عن المشاعر، يختلف عن اللاهوت الذي هو علم الايمان او علم الله، والذي ينتج عن العقل المنطقي والمنهجي. ولهذا نسمي الايمان فضيلة او ملكة ايمانية، بينما نسمي ما يصدر عن العقل علما ولاهوتا. وبناء عليه فان ما يحتاجه الانسان هو الايمان الذي يقربه من الله خطوة بعد خطوة، اكثر من حاجته الى اللاهوت، اللهم إلا اذا كان اللاهوت ينفع الانسان من باب التعبير عن المشاعر الايمانية ومن باب طمأنه القلب والوجدان على ما يحس به من مشاعر، علما بأن التمييز بين الايمان واللاهوت تمييزا تاما يأتي لمنع الخلط والمساواة بينهما، لأن هذا الخلط يضر بالإيمان وباللاهوت معا.
قريبا من العلم:
وهنا، ولكي اكون صريحا وشفافا، وكدليل آخر على علمية حقيقة الايمان وطبيعته الأنثروبولوجية، ارى نفسي في طرحي هذا، قريبا من ماسلو ونظريته المسماة باسمه، والمبنية على فكرة ارتقاء الانسان نحو اكتماله الروحي والجسدي، من خلال ارتقاء وتصاعد حاجته الحضارية مرتبة بعد أخرى، ابتداء من الحاجات الفسيولوجية ووصولا الى اكثر الحاجات روحانية ورقيا، مع اني كنت قد وضعت اسس هذه الرؤية الأنثروبولوجية قبل ان اعرف عالم النفس ماسلو هذا.
فبناء على ما تقدم اقول لقرائي الكرام، وبصراحة ايضا، بأنهم لن يجدونني تابعا لماسلو بشكل كامل، حتى وان كنت اظهَر وكأني اقتبست امورا جوهرية من هذا العالم المشهور، لاسيما وأني لا اختلف عن ماسلو فيما يعود الى تفاصيل سلمه حسب، ولكن اختلف ايضا عنه في اني اضع الله في قمة كل حقبة من الحقب التي يتكلم عنها ماسلو، ولا اضعه فقط في قمة آخر حقبة من الحقب التي تمثل تحقيق الذات والاحتياجات الروحانية فقط، في حين نعلم جميعا بأن ماسلو لا يتطرق الى حاجة اسمها الله اصلا، كما لا يتكلم ماسلو عن القواعد والقوانين الجدلية، ومنها القفزات الحضارية والقفزات الايمانية المقدسة المصاحبة لها، والتي سنتكلم عنها فيما يلي.
1 - في الحقب البدائية: ففي الحقب البدائية كان الانسان بأمس الحاجة الى الأمور الحياتية، بشكل عام، مثل الطعام والملبس والمسكن والجنس وغير ذلك. وبما ان هذه الأمور كلها لم تكن سهلة المنال في ذلك الزمان، كان الانسان القديم يؤمن بأن الآلهة المختلفة قادرة على ان تمنح له حاجاته البدائية هذه، اذا قدم العبادة لهذه الآلهة وأتم ارادتها. وعليه نرى علميا ان الحاجة البدائية الحياتية، في هذه المرحلة تحديدا، لا تكون فقط حاجة محبوبة ومطلوبة، لكنها تصبح حاجة مقدسة ايضا. أي ان هذه الحاجة البدائية، مع الالهة التي ترمز اليها، كانت قد اصبحت موضوع ايمان ورجاء ومحبة.
2 - في الحقبة الاجتماعية: اما في هذه الحقبة الثانية فان الانسان يكون " بحاجـة " ماسة الى أخيه الانسان الآخر، لكي يستطيع ان يعيش بمعيته بتكامل وأمان واطمئنان. وهكذا نفهم لاهوتيا كيف تنشأ فكرة الاله الواحد الأحد الغيور الذي لا يقبل ان يشاركه في قدسيته اله آخر. فالحاجة الى الواحد تعني الحاجة الى الأمة الواحدة الموحدة. وبما ان الحاجة الى الأمة الدينية التي يقودها الله لم تكن متاحة موضوعيا وبديهيا، وبما ان تلك الحاجة كانت في ذلك الزمان حاجة مطلقة لا يمكن الاستغناء عنها، لسد فقر الانسان وعجزه، فقد تحولت حاجة الاله الواحد تلك، من حاجة محبوبة ومطلوبة الى حاجة مقدسة يطلبها الانسان بكل جواره.
3 – الحقب التي تركز على الشخص: عندما قطعت أمة بني اسرائيل شوطها وأكمل الهها الواحد مهمته بنجاح، شاخت هذه الأمة وضعفت ولم يبق لديها ما تعطيه للمؤمنين بإلهها، ظهرت في افق تلك الأمة علامات الانتقال الى صورة جديدة لله، لا يكون فيها الله وظيفة في حياة أمة، بل يكون وظيفة في حياة كل شخص بشري بمفرده، بما يشير الى ان الشخص الانساني اصبح المقصود والمستهدف من قبل صورة الله الجديدة وليس الأمة. وهكذا مثلا، فقدت أمة بني اسرائيل الدينية والقومية، مع مجيء يسوع المسيح، مكانتها الدينية كمثال ونموذج، لكي يكون الشخص الانساني بديلا للأمة الدينية، حيث صار الله اله الانسان عوضا عن ان يكون اله الأمة، كما صار يسوع الانسان رمزا ونموذجا للأخوة البشرية، وصار بصفته النموذجية والمثالية الوسيط بين الله والبشر، عوضا عن ان تكون الأمة هي النموذج والوسيط بين الله والبشر. وهكذا ايضا انتهت الحضارة الدينية القديمة لتبدأ حضارة بنوة البشر لله وإخوتهم الشاملة والكرامة المطلوبة لكل انسان. فتحققت بذلك ما يسمى بحرية ابناء الله، وانتهى الاستلاب الذي كانت الأمة قد فرضته على رعاياها. كما صار الانسان يحترم من اجل ذاته، وليس من اجل امته.
تفاوت قيمة افعال الايمان:
بما ان الايمان يصدر عن القوى الأنثروبولوجية يكون من الطبيعي ان تكون افعال الايمان وشدتها ناتجة عن ملكة ( فضيلة ) الايمان التي تأتي الانسان من خلال عامل الوراثة، وعامل البيئة الاجتماعية والدينية، وعامل المجهود الشخصي المبذول في سبيل تقوية فضيلة الايمان هذه عند الانسان. وبما اننا نعرف بأنه لا يوجد شخصان بشريان متساويان في كل شيء، ولاسيما في درجة المشاعر، فان الايمان يكون متفاوتا عند الانسان بحسب نسبة تفاوت شدة المشاعر الايمانية عنده، حيث يصبح بالإمكان اصلاح خلل المشاعر وضعفها بتمارين روحية ودينية وإنسانية خاصة قد يصل تأثير بعضها حتى الجانب الوراثي، فضلا عن الجانب الذي يعود الى البيئة او يعود خاصة الى المجهود الشخصي.
بين الايمان والانتماء:
هنا قد يميل المحلل الى ان يرى تناقضا بين فعل الانتماء وفعل الايمان، غير ان الحقيقة ليست تماما بهذا الشكل، لأن الانتماء لا يتعارض مع الايمان، وإنما يدل عليه، اذ ان الانتماء يكون قويا بنسبة قوة الايمان نفسه. اللهم إلا اذا كان الانتماء عند الانسان ناتجا عن عوامل اخرى غير الايمان. ومع ذلك على اي لاهوتي ان يميز تمييزا كاملا بين الايمان والانتماء تفاديا للالتباس.
بين الايمان واللاهوت:
قد يخلط المرء احيانا بين الايمان واللاهوت ويساوي بينهما، سواء كان هذا الخلط يأتي عن جهل ام يأتي عن عمد. غير ان الحقيقة العلمية تقول بأن الايمان يتميز عن اللاهوت تمييزا كاملا، وان كانا متحدين اتحادا بنيويا مع بعضهما، ولا يستغني احدها عن الآخر ابدا. فالقوى الوجدانية تختص بمعرفة وجه الله في مرحلة حضارية معينة، حيث يتم حوار الانسان مع هذا الوجه، من اجل ان يبني حياته كلها على هذا الوجه، في حين تقوم القوى العقلية بالكلام اللاهوتي عن الوجه الالهي الذي عرفه الانسان من خلال وجدانه وإيمانه، حيث نستطيع ان نقول بأن اللاهوت العقلاني يأتي لطمأنة قلب الانسان ووجدانه على ما يشعر به في داخله، كما نستطيع ان نؤكد بأن اي خلط بين الايمان واللاهوت يشوه الايمان واللاهوت معا.
علامات الايمان:
في هذه الفقرة، لابد لنا من ان نتكلم عن بعض علامات الايمان الكثيرة، لكي نستطيع ان نميز بين ما هو من الايمان الحقيقي وبين ما ليس اكثر من كاريكاتير او جثة ميتة لا يجوز ان تغش احدا. ففي الحقيقة ان من يدرس قوى الانسان الخفية، بكونها قوى ذاتية وجدانية وروحية، سوف يعرف ان لكل واحدة من هذه القوى علاماتها الخاصة بها، وذلك لأن الشجرة تعرف من ثمارها. فإذا كان الانسان صندوقا مغلقا لا يرى الانسان الآخر ما في داخله، إلا ان الرائحة التي تنبعث من هذا الصندوق تشي بما فيه. ففي الواقع كثير من الأمور تكشف عما في داخل الانسان: العلامات التي تظهر على وجه الانسان هذا، في كل حالة من حالات انفعالاته، وما يسربه لسانه من خفايا يعيشها، وما تكشفه مواقفه العديدة وخياراته من اسرار شخصيته، كل ذلك يؤدي الى انتشار وتطاير عبق الايمان في كل الاتجاهات، ويصبح علامات مهمة لوجود الايمان عند المؤمن، مع بقاء حاشية معينة لأسرار الانسان الشخصية.
حيوية الايمان:
مما لا شك فيه ان الحيوية والديناميكية التي نشاهدها عند الانسان المؤمن علامة من علامات وجود الايمان في حياة ذلك المؤمن، والتي لا يمكن اخفاؤها. فضلا عن مسحة الفرح والحماس التي نشاهدها على محيى هذا المؤمن. غير اننا يمكننا ان نضيف الى ما ذكرناه علامات أخرى كثيرة ومهمة تدل كلها على وجود الايمان في حياة المؤمنين وتساعد المراقب على التمييز بين الايمان وخلافه. من هذه الفضائل والعلامات نذكر: فضيلة التواضع والرصانة والغيرية واستقامة الحياة والاستقرار النفسي والصبر على الشدائد والتضحية بالغالي والنفيس من اجل ربح روحي كثير، والقبول بالخسارة من اجل قضية ايمانية حقيقية. علاوة على هذه العلامات كلها نرى ان الايمان الحقيقي يظهر من خلال يقين المعرفة الحبية الوجدانية والمعرفة اللاهوتية ايضا، كما يظهر من خلال قوة الايمان ومشاعر الأمل ودفء المحبة: محبة الله والإنسان الآخر، واحترام كرامة كل انسان وحقوقه، مع استعداد دائم للسلام الحقيقي والتضحية بالمصلحة الخاصة من اجل فائدة المجموع. علما بأن مقدار شدة وقوة هذه العلامات يدل على شدة وقوة ايمان المؤمن.
اما اذا ضعفت تلك العلامات عند الانسان او انعدمت، فلا تنفع كثيرا طول صلواته وكثرة صيامه وتعبده، ودفاعه عن عقائده وعن طقوسه وعن ممارساته الدينية وعن لاهوته، لأن كل هذه الأمور المذكورة لا يمكن ان تكون اكثر من عامل مساعد على زيادة الايمان، هذا اذا لم تكن مجرد " بديل" لأعمال الايمان او تكون اعمال تصدر عن خوف من الله يشبه خوف العبيد من أسيادهم، او تصدر عن مصلحة ومساومة على منفعة: اعطيك فرائض وصلوات تعطيني مرادي، هذا عندما لا تكون مجرد رياء وخوف من كلام الناس وتملقا لرجال الدين وقضاء فريضة بغاية اراحة الضمير او بدافع العادة المتبعة في المنطقة.
الايمان مسيرة متواصلة نحو هدف:
بعد ان تكلمنا عن بعض اعمال الايمان وميزناها عن اعمال أخرى لها مظهر الايمان، بقي لنا ان نتكلم عن جوهر الايمان وعن طبيعته الحقيقية وعن كيفية معرفة هذه الطبيعة. فقد كان البشر ينسبون فيما مضى كل معرفة وكل عمل صعب وغامض الى العلة الأولى ( الله ) بشكل مباشر وينسون دور العلة الثانية الذي هو في الواقع اهم من حيث المعرفة العلمية من دور العلة الأولى. اما اليوم، بحسب منهجيتنا اللاهوتية الأنثروبولوجية فنفضل ان نتكلم عن الايمان، بناء على ما نعرفه عن هذه الحقيقة وعن غيرها، بشكل علمي، حيث ستكون النتيجة واحدة اذا اهملنا من حساباتنا العلة الأولى او اذا اخذناها بعين الاعتبار، لأن العلة الأولى لا تدخل في باب التفسير العلمي، بل في باب الفلسفة حسب.
وهكذا، وبحسب هذه النظرة اللاهوتية الجديدة والعلمية نرى ان من يحرك الايمان عند الانسان ومن يعطي المعرفة الايمانية ( المعرفة بإلهنا كما يظهر في العالم ) هي ثوابت الحق والخير والجمال الثلاثة التي لا نجدها في السماء ولا في مخيلتنا، بل نجدها محفورة في طبيعة الانسان نفسها، وفي صلب الحياة. علما بأننا لا نمانع، من باب التوفيق أن يقال بأن الله السماوي وضع هذه الثوابت في الانسان، مثلما يقال ان الله وضع الضمير وسائر القوى الأخرى في حياة الانسان. غير ان المهم لدينا نحن هو ان هذه الثوابت موجودة في الطبيعة وهي تحرك الانسان نحو المعرفة الايمانية بحسب قواعد محددة بدأنا نعرفها منذ ان سادت علوم الانسان بين البشر. فمن يحرك الانسان هو هذا الثابت الثلاثي الأبعاد والذي يمكن النظر اليه وكأنه ثابت واحد، هو ثابت الخير الذي يسعى اليه الانسان تلقائيا، بحسب ميل الانسان الطبيعي. غير ان ثابت الخير هذا وفروعه لا يتجلى للإنسان دفعة واحدة وإنما يتجلى على حسب مراحل حضارية تكلمنا عنها في الصفحات السابقة بإيجاز، حيث رأينا ان كل حقبة، وبشكل تصاعدي، تكشف وجها من اوجه الهنا، يتناسب مع تلك الحقبة ويخدمها ويساعدها على التطور في حياتها الانسانية الروحية. اما التصاعد الايماني في حياة الفرد فيكون تصاعدا مستمرا لا انقطاع فيه، حتى وان وجدت فيه حالات من الركود والتوقف لا بل من التقهقر الى الوراء احيانا.
وهكذا نعرف الايمان بأنه المعرفة الأنثروبولوجية الوجدانية الحبية بالهدف الذي ينقل الانسان والمجتمع من عهدهما القديم الى عهدهما الجديد، هذه المعرفة التي ترتدي مرحليا صورة واقعية تاريخية، وتصير بعد ذلك هدفا يسعى الانسان او المجتمع الى تملكه، لكي يتحول الانسان بالتدريج وخطوة بعد خطوة، الى ما يؤمن به، بعيدا عن اي مكسب موضوعي خارج عملية تحقيق الذات الأنثروبولوجية المعروفة في علم النفس. فالإيمان اذن يعني محاولة الانسان لبلوغ مرحلة انسانية جديدة وتحوله الى انسان جديد، يحيا حياة جديدة ويتصرف تصرفا جديدا، لم يكن يعرفه في مرحلته الحضارية الايمانية السابقة. وهكذا نفهم من خلال خبرة ايمانية ان الحياة جريان مستمر اكثر مما هي ركود ، كما انها تطور يستند الى رؤية وجدانية وطموح داخلي الى الخير لا يهدأ ولا يستكين، الأمر الذي يذكرنا به الفيلسوف اليوناني القديم هيروقليطس الذي قال بأن الانسان لا يسبح في عين ماء النهر مرتين. ومن هنا يمكننا ان نُعرّف المؤمن بأنه انسان في حالة بحث مستمر عن الخير، لكي يستولي على موضوع الخير هذا ويتمتع بأفراحه التي تختلف عن الأفراح المادية الكثيرة، مهما كانت افراحا مشروعة. علما بأننا نرى كثيرا من علامات الايمان فيما نسميه مرحلة البدايات التي تقع في فجر ظهور اي ايمان جديد، كما نرى هذه العلامات عند اي مهتد الى ايمان جديد بعد الالحاد مثلا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق