مثنى عبدالله
أوشك أن أرى التاريخ منحنياً امام موقف رئيس الوزراء البلغاري بوكيو بوريسوف وهو يقف امام برلمان بلاده الذي له فيه الاغلبية قائلا، ان (الشعب منحنا السلطة، واليوم نعيدها اليه)، ثم اضاف (لن اشارك في حكومة تقوم فيها الشرطة بضرب الناس)، ورفض رفضا قاطعا تشكيل حكومة جديدة برئاسته. وقد اتخذ هذا الموقف لان تظاهرات شعبية خرجت في بلاده لمدة عشرة ايام فقط، احتجاجا على ارتفاع اسعار الكهرباء وبعض الصعوبات المالية التي لم يكن هو سببا مباشرا فيها، بل هي من تداعيات الازمة الاقتصادية العالمية التي تضرب دول اوروبا.
واكاد ارى التاريخ يتخذ نفس الموقف من رئيس الوزراء التونسي المستقيل حمادي الجبالي، عندما خرج على شعبه بخطاب يهز المشاعر والاحاسيس، معتذرا عن الخيبة التي يعتقد انه تسبب بها لمواطنيه الذين علقوا الامال على حكومته التي لم تقدم لهم شيئا.
واكاد ارى التاريخ يتخذ نفس الموقف من رئيس الوزراء التونسي المستقيل حمادي الجبالي، عندما خرج على شعبه بخطاب يهز المشاعر والاحاسيس، معتذرا عن الخيبة التي يعتقد انه تسبب بها لمواطنيه الذين علقوا الامال على حكومته التي لم تقدم لهم شيئا.
وكرر اعتذاره عدة مرات حتى بالنيابة عن شركائه في السلطة الذي كان حريصا على عدم استخدام لغة التخوين والشتائم ضدهم على الرغم من اعترافه بانهم كانوا غير منسجمين. بل ارتفع الرجل في السمو والرقي السياسي الى حدود عليا وهو يقدم اسفه الشديد ان تسبب في ظلم احد بدون قصد، ثم يعلن عن تحمله المسؤولية كاملة امام الله والوطن عن الفترة التي تقلد فيها المنصب. نسوق هاذين المثالين من دولتين يتقدم عليهما العراق درجات كثيرة في تصنيف الغنى الثرواتي والموقع الجيوسياسي وامور مادية ومعنوية كثيرة، لكنه يقينا يتاخر دونهما كثيرا في التصنيف السياسي وفي الشعور بالمسؤولية تجاه الشعب والوطن، الى حد اليقين بان التاريخ يولي مدبرا وهو يرى طاغية العراق يرفع سبابته يوميا في خطابات ممجوجه حتى عندما يفتتح مدينة رياضية، فقط يسب ويشتم شركاءه السياسيين وينشر غسيله وغسيلهم القذر على مسامع شعبه والعالم، متمسكا بالسلطة التي يهتز كرسيه فيها يوميا مهددا بانه لن يغادرها، ومؤكدا بان الدستور يبيح له التربع على عرشها عشر مرات، غير ابه بالمليونيات الشعبية المستمرة منذ اكثر من شهرين، بينما يلقي فشله السياسي على الماضي والقاعدة ودول المحيط على الرغم من مرور عشر سنوات على امساكهم بالسلطة، وجريان الموارد المادية والمعنوية بين يديه.
وبدلا من مراجعة الذات والتبصر بكل الذي مر والاتعاظ من تجارب الاخرين، يواجه شعبه بالحديد والنار واجراءات احترازية واستباقية هي نسخة مكررة مما يفعله الكيان الصهيوني بشعبنا في فلسطين عند صلاة الجمعة، حتى باتت جُمع العراق تفتح فيها ابواب الجحيم على شعبنا، تدنس فيها الجوامع والمساجد وتنتهك فيها البيوت والاحياء، وتتجول الفرقة القذرة التي تاتمر بامره في الازقة والاحياء باستعراضات غوغائية، وبملابس مليشياوية ووجوه ملثمة واسلحة متقدمة، وسيطرات تدقق في هويات الناس بالحاسوب وكاننا شعب من المجرمين والقتلة المطلوبين للعدالة المحلية والدولية. ومع كل ذلك يعتقد طاغية العراق بانه المنقذ من الظلال، وانه هبة السماء الى العراقيين والمنطقة، وان كل اصوات الفقراء والمحرومين والمكلومين وعوائل المغيبين والفاقدين حقوقهم الاسياسية هي صدى لاجندات خارجية، فيصدر قوائم القاء القبض على شيوخ العشائر ورجال الدين ووجهاء المجتمع بدليل جرمي هو التحريض على التظاهر، لان المطالبة بالحقوق جرم يعاقب عليه القانون في منهجه السياسي الذي مافتئ يدعي بانه ديمقراطي، ثم يقوم بتجييش الاخرين ودعمهم للتظاهر بالضد من الانتفاضة العراقية، في محاولة بائسة لاظهار معادلة التوازن بين القابلين لسياساته والرافضين لها كي يتهرب من مسؤولية تنفيذ الحقوق الشعبية. بينما تنطلق الاصوات الاخرى من حزبه وحلفه الطائفيين لاطلاق نظريات سياسية وفكرية تُقبّح التظاهرات وتجرمّها بادلة من صنع خيال سلطوي مريض.
فبعد الهزائم المتكررة والفشل في صد التفجيرات الاجرامية، وجد اليوم هو وقادة حزبه الطائفي لافتة جديدة يكتبون عليها فشلهم وهي التظاهرات الشعبية. فلقد كثرت تصريحات الوكيل الاقدم لوزارة الداخلية هذه الايام لتبرير مازق زعيمه الحزبي فقال مؤخرا ب(ان الخرق الذي حدث في بغداد هو بفعل التظاهرات الموجودة واختراق القاعدة لبعض هذه التظاهرات) ،ثم يدعي بان السيارات التي انفجرت في بغداد مؤخرا دخلت من جانب الفلوجة. اي بمعنى ان العراق كان يسوده الامن والامان طيلة الفترة الماضية , لكن التظاهرات هي التي فتحت الابواب الموصدة ضد القتل والدمار والتفجيرات. لكنه يتناسى بان وزارته واجهزتهم الامنية تعيش في حالة انذار قصوى منذ بداية التظاهرات وحتى اليوم، وان العراق بجميع مدنه وقراه يخضع لحالة الطوارئ، وان بغداد تطوقها الفرقة القذرة من جميع الجهات. فكيف بعد كل ذلك تدخل السيارات عن طريق الفلوجة؟ انها نكتة سمجة تدل على مستوى الجهل الذي يعانية من يقودون البلد، ومن يتحكمون باجهزته الامنية ومؤسساته السياسية، الذين تتناقض اقوالهم مع اعمالهم وتتنافر تقواهم الخادعة مع اعمالهم المشينة بحق الانسان. لقد اطلقت التظاهرات الشعبية كل ما كان خافيا في عقول الساسة وجردتهم من كل لباس الورع الذي كانوا يتسترون به، وبينت للعالم اجمع انهم ليسوا رجال دولة وليس في ذهنيتهم اي حل لواقع سياسي مؤلم ومخزي ايضا. فكيف بمن يسمى مستشار الحكومة للمصالحة الوطنية ان يتهجم على شعبه ويصفهم بابشع الاوصاف فقط لانهم خرجوا مطالبين بالحقوق؟ ويفلسف استمرار الاعتقالات بانها ضرورة تمليها المصلحة الوطنية؟ وان المادة 4 ارهاب سيئة الصيت يجب ان تشدد؟ وان قانون مكافحة الارهاب قانون اممي وليس عراقيا وان العراق ملتزم بتطبيقه لانه التزام دولي؟ وان الى جانب سرادقات المتظاهرين معسكرات تدريب على السلاح؟ انه نموذج لمسؤول عراقي في العراق الجديد مهمته الرسمية المصالحة الوطنية، لكنه يختار ابشع الحلول ضد شعبه، وينتقي مايحلو له من قوانين استثنائية يطبقها عليهم بصيغة دائمية مدعيا بانها مسؤولية دولية، بينما يترك كل القوانين الاممية التي تدعو الى اعطاء الحقوق وانصاف المظلومين والامتناع عن ممارسة الاساليب القهرية في السجون والمعتقلات.
انه مزاج الطغاة الذين ينظرون الى شعوبهم على ان غالبيتهم لايستحقون الحياة، وان الرعاع من المتحزبين والمليشيات واللصوص هم فقط النخبة التي تستحق الحياة. لقد اصابت التظاهرات مقتلا في كل الطبقة السياسية الحاكمة. شركاء واصلاء في كل المستويات.
وبات القلق على مستقبلهم السياسي ومصالحهم يستولي على كل تفكيرهم. وعندما ينتاب القلق سياسيا ما فان الخوف يصبح هاجسه الوحيد وصديقه الحميم، فيبات خائفا من رفيقه في الحزب وشريكه في السلطة وحارسه الشخصي والاكثر من ذلك شعبه، عندها يحكم هو على نفسه بالانتحار، وحسنا فعل كل من ساهم في اشعال التظاهرات الشعبية باليد واللسان وحتى بالقلب الذي هو اضعف الايمان، لانهم وضعوا الطغاة على المحك بعد ان جردوهم من هيبة السلطة والعنجهية الفارغة، فبان الطلاق بين قولهم وعملهم على رؤوس الاشهاد.
مما يعني ان التظاهرات يجب ان تتواصل وان سقف المطالب يجب ان يرتفع الى مستوى التغيير الجذري، وان تكون انتفاضة تحرير من الظلم والقمع والفقر والاضطهاد، فشعبنا يستحق الحياة كسائر شعوب الارض.
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق