كاظم فنجان الحمامي
من السياقات الدولية الثابتة في تطلعات الشعوب المتحررة والأمم الواعية, وفي سياسات الحكومات الوطنية ومؤسساتها المرتبطة بهياكلها التنظيمية, إنها تعمل جاهدة نحو استنفار طاقاتها السيادية والثقافية والتوثيقية والتربوية والإدارية والتشريعية وتوظيفها في الاتجاهات التصحيحية, التي تعزز القيم والمبادئ السامية, وتنمي المشاعر الوطنية, وترسخها في أذهان الناس وعقائدهم, فتسعى جاهدة لطمس آثار الغزاة وإزالة بصماتهم الهمجية, تقتلعها نهائيا أو تلغيها تماماً حتى لو كانت صحيحة أو مفيدة أو غير مضرة, بيد أننا في العراق نختلف إلى حد ما في تصرفاتنا الإدارية, وإجراءاتنا القانونية عن السياقات الوطنية التي تبنتها الشعوب الأخرى..
ومن نافلة القول نذكر أن بيان سير السفن في المياه العراقية الداخلية صدر عام 1919 بتوقيع أمير اللواء (جورج فليغر ماكمان) بموجب الصلاحيات الممنوحة له من (الإمبراطورية البريطانية العظمى), وظلت مواد (البيان) وأحكامه ثابتة جامدة من دون تغيير ولا تبديل ولا تعديل, لغاية عام 1995 على الرغم من صيغته الاستعلائية, التي تنتقص من سيادتنا فوق مسطحاتنا المائية, وعلى الرغم من تعاقب الحكومات الوطنية, حتى جاء اليوم الذي تقدمت فيه بمسودة كتبتها بخط يدي واستعنت فيها باللوائح والتشريعات العربية, فكانت مبادرتي هي الخطوة الأولى لولادة قانون الموانئ العراقية رقم (21) لسنة 1995, وولادة تعليمات الموانئ رقم (1) لسنة 1998, والتي ظلت جامدة هي الأخرى حتى يومنا هذا. .
ونذكر أيضا ما قامت به قوات المارينز المتجحفلة على مشارف محافظة (ذي قار) عندما طمست اسم (تل اللحم), واستبدلته باسم مستهجن, استخرجته من قاموسها العدواني. .
فأطلقت عليه (طليل) بعدما حذفت المقطع الأخير من (Tell el Laham), وظل اسم (طليل Tellel) حتى وقت متأخر تتداوله مؤسساتنا الوطنية في مخاطباتها الرسمية من دون أن تشعر بالحرج. .
ولسنا مغالين إذا قلنا ان مكاتب المفتش العام التي ذاع صيتها في أروقة المؤسسات العراقية, هي من ابتكارات قوات الاحتلال, ومن وحي قادتها الميدانيين, بهدف تسفيه إجراءات ديوان الرقابة المالية ومصادرة دوره التشريعي والرقابي المتمرس في التحري عن هفوات وعثرات أجهزة الدولة العراقية منذ عام 1927. .
لم يكن لمكاتب المفتش العام أي وجود في الهياكل الإدارية المرتبطة بالتشكيلات الوزارية العراقية قبل عام 2004, ولم تكن الدولة العراقية تتعامل مع مثل هذه المكاتب الدخيلة على الكيانات التنظيمية حتى جاء اليوم الذي صدر فيه قرار (بول بريمر) الحاكم الأمريكي للعراق, والمدير الإداري لسلطة الائتلاف المؤقتة بموجب أمره الارتجالي رقم (57). .
بمعنى ان القوات التي احتلت العراق, وأخضعته لسلطتها الغاشمة, هي التي أقحمت هذا الجسم الغريب في كيان الدولة, وهي التي حشرته في مؤسساتها ووزاراتها, وهي التي صنعته ونفخت فيه من روحها ليعتلي فوق تشكيلاتنا كلها, ويراقب أداء الوزارات كافة, وهي التي فرضته وفوضته لمراجعة أنشطتها, وتدقيق سجلاتها, والتحقيق في صحتها, ومنحته حق الفحص والتفتيش والمعاينة الميدانية والإدارية ورفع التقارير الدورية, وحق تنفيذ التحقيقات السرية, والاتصال بالمحاكم والهيئات القضائية المختصة لتحريك الدعاوى القضائية, ومنحته صلاحية تلقي الخطابات (مجهولة المصدر), واستلام الرسائل التي تشكك بنزاهة الموظفين, فتطلق عليهم الاتهامات الملفقة من دون أن يضطر مكتب المفتش العام إلى الكشف عن أسماء وهويات الذين كتبوا تلك الرسائل, إلا بعد الحصول على موافقتهم الخطية, أو إذا اقتضت الضرورة القانونية الكشف عنها, ومن دون أن تضطر إلى التأكد من هوية صاحب التقرير, فيما إذا كانت تمثل شخصية حقيقية أو وهمية, حتى تكررت التقارير الموقعة بأسماء مزيفة, من مثل: (فاعل خير), و(شاهد عيان), و(مواطن شريف), و(عراقي غيور), وأحيانا تكون تقاريرهم الكيدية موقعة بأسماء مختارة من إفرازات المرحلة الراهنة, من مثل: (الحاج أبو إيمان), أو (أبو تقوى), أو (أبو يقين), وهكذا فُتحت أبواب التلفيق والتجني على مصاريعها أمام أصحاب الوجوه الزئبقية, ومنحتهم فرصة التخفي وراء الأقنعة الكاذبة. .
رحل الغزاة عن العراق, وتركوا وراءهم أفكارهم الإدارية المربكة بعد أن غرسوها في قواعد الهياكل التنظيمية لعموم البلاد, فتقاطعت سياقاتها الإدارية المستحدثة مع السياقات الصحيحة, التي انتهجها وسار عليها ديوان الرقابة المالية منذ أقل من قرن من الزمان, فتصدع أداء مهام الرقابة المالية بعد ولادة مكاتب المفتش العام بقرارات ارتجالية تبنتها سلطات الاحتلال في ضوء رؤيتها العسكرية المستمدة من الفكر الرقابي الشائع في الولايات المتحدة الأمريكية, والذي لا وجود له في عواصم دول الاتحاد الأوربي, ولا أثر له في البلدان العربية كافة. .
يعود تاريخ أجهزة الرقابة المالية إلى تاريخ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في العقد الثاني من القرن الماضي, وكانت ممثلة وقتذاك بمراقب الحسابات العام, الذي ارتبط بوزارة المالية, ثم صدر قانون الرقابة المالية عام 1968 ليرفع مستوى الرقابة الشاملة إلى المستوى الحضاري السائد في حقبة السبعينيات, فاستقلت أجهزة الرقابة المالية, وارتبطت مباشرة بالسلطة التشريعية, وأصبح الديوان مخولا بمراقبة تقويم الأداء, وإجراء عمليات التدقيق قبل الصرف, والتدقيق المحاسبي بموجب تقاليد التدقيق الأوربي, وتدقيق الحسابات الختامية, والميزانيات العمومية للمشاريع, وإبداء الرأي بنتائج نشاطها وأوضاعها المالية, وتقييم القوانين والأنظمة والتعليمات المتعلقة بإدارة المال العام, والطلب بإدخال التعديلات عليها لما يعزز الحد من سوء التصرف, وتفعيل اقتصادية التنفيذ من حيث زيادة الموارد, وتقليل حالات الهدر في المال العام. وهكذا أصبحت مؤسسات القطاع العام والمختلط أو المشترك خاضعة بالكامل لرقابة ديوان الرقابة المالية, ثم تطورت أجهزة الديوان في السنوات اللاحقة وأصبحت من الأدوات التي تعتمد عليها الدولة في تدقيق الحالات, التي تتطلب الضرورة تدقيقها, من دون التركيز على مبدأ الشمولية والحيادية, وصار من حق الديوان تقييم كفاءة الأداء للمشاريع والإدارات التي يقرها مجلس الرقابة المالية على خطته السنوية, فاستعان بأصحاب المهارات والخبرات من الأكاديميين المشهود لهم بالفطنة والكفاءة والذكاء, في الوقت الذي أصبحت فيه مكاتب المفتش العام تعتمد على العناصر المترهلة إداريا, أو المكملة للمحاصصة, أو المرتبطة بالأحزاب والكيانات السياسية, وأحيانا يمثلون لوناً واحداً, أو حزباً واحداً, ومعظمهم لا يحملون المؤهلات الاختصاصية, أو من الذين لا تتوفر فيهم الشروط باعتبارهم من الذين تم تعيينهم حديثاُ, الأمر الذي دفع أعضاء البرلمان إلى توجيه سلسلة غير منقطعة من الاعتراضات على أداء مكاتب المفتش العام. .
يرى خبراء الاقتصاد: إن وجود مكاتب المفتش العام التي زجها (بول بريمر) في الهياكل التنظيمية, تعد من المعوقات الإدارية والمالية, وغير مجدية بالمرة, ومنهم من يعدها حلقة تعقيدية زائدة. .
ويرى كثيرون: ان المؤسسات الدخيلة التي جاء بها بريمر شوهت الهيكل التنظيمي والرقابي للدولة, وأعاقت عمل الوزارات بشكل كبير, ومنها مكاتب المفتشين التي تحولت إلى مصدر من مصادر التعطيل والتأخير والتلكؤ والقلق. . .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق