مثنى عبدالله
صورتان متضادتان تماما تحكمان المشهد العراقي منذ تسلط الطائفيين على رقاب العراقيين وحتى اليوم . لكن المتمعن فيهما يجد أنهما تعكسان صورة لمنهج طائفي واحد مقيت . ليس هنالك من هو مستفيد فيما جرى ويجري . وخطيئة كبرى أن نقول بأن هذا الطرف قد تنعم بوصول الطائفيين الى الحكم وان الاخرين قد تضرروا . فالطائفي أول ما يتسلق على أكتاف طائفته ثم يلقم الاخرين حجرا أثر آخر، ورصاصة أثر أخرى، كي يلهيهم بحروب طائفية بينما يتفرغ لسرقة الخبز من أفواههم . هكذا فعل الطائفيون في العراق الجديد، وفي كل مرة يتحصنون خلف الطائفة عندما يجدون الاخرين قد بلغ بهم الغضب حد الانفجار . أي أن الطائفة لديهم ليست سوى ساتر يختبئون خلفه .
واليوم تكشف الانتفاضة العراقية صورتين كي يقارن بينهما كل عاقل ويتبصر في الدوافع التي تقف وراءهما . الاولى شعب ينتفض مطالبا بحقه في الحياة الكريمة، بعد أن ذاق صنوف التهميش والاقصاء والاعتقال والاغتصاب والقتل غير المبرر، وبدلا من أن تصغي السلطة الى صوته، وتتعجل التنفيس عن همومه والامه، فإنها تواجه تظاهراته الشرعية بالحديد والنار . انذار في الجيش والشرطة والاجهزة الامنية ووضع خطة حماية بغداد تحت التنفيذ . غلق الطرق الداخلية والخارجية وقطع الجسور . سيطرات عسكرية ثابتة تم وضعها على عجل وأخرى متحركة . دخول وخروج يقتصر على سكنة الحي فقط يتطلب بطاقة الهوية الشخصية والبطاقة التموينية . مراقبة الهواتف المحمولة لعدد من وجهاء المجتمع والعناصر الوطنية وقطع البعض الاخر وعرقلة خدمة البريد الالكتروني . استنفار مليشياوي وضربات استباقية بالكواتم . سيارات عسكرية تم اخفاء عائديتها كي لايتم التعرف على الجهة التابعة لها من قبل ذوي المعتقلين الذين تم اعتقالهم . تفتيش الجوامع ودور العبادة واعتقالات وتحذيرات للائمة والخطباء وحصر المصلين داخل باحات المساجد . بيان للقيادة العامة للقوات المسلحة يعلن سنضرب ( بيد من حديد لوقف التمادي وزعزعة الامن الاجتماعي وتعطيل المفاصل الحيوية للدولة ) . ولاندري في أي شرع أو قانون يعتبر التظاهر السلمي تماد والمطالبة بالحقوق ورفض الظلم، زعزعة للامن وتعطيل لمفاصل الدولة ؟. فكل الذي أراد فعله المتظاهرون هو حمل لافتاتهم ورفع أصواتهم في صلاة موحدة في عاصمة الوطن، بعد أن حاول قادة البلد صم آذانهم والاختباء خلف وعود كاذبة ولجان لذر الرماد في العيون .
أما الصورة الثانية فهي صورة الصلوات الجماعية التي يقيمها شعبنا في مراقد الائمة . تعطيل لدوائر الدولة بكافة مفاصلها لافساح المجال أمام أكبر عدد ممكن من المشاركة . أكثر من 100 الف جندي وشرطي لحماية السائرين للصلاة ترافقها حماية جوية . تعطيل حركة السيارات والدراجات كي توضع مسارات السيارات في خدمة السائرين الى المراقد . حشد الجهد الخدمي والصحي للدولة لخدمة الزائرين وتوفير الطعام والشراب على طول الطريق . وضع قطاع النقل والمواصلات في حالة انذار لنقل المصلين والزائرين بعد انتهاء المراسم . فهل ان الصورتين متناقضتين كما يظن البعض أم أنهما وجهان لصورة واحدة ؟ وهل في الصورتين محاباة لطرف على حساب طرف أخر ؟
يقينا أن من يقف خارج اطار الخيمة الوطنية سيرى بأن الصورة تصب في مصلحة هذا الطرف على حساب الاخر، لأن النظرة المجتزأة لأي مشهد لايمكن أن تعطي انطباعا متكاملا عما يجري . فالحقيقة لايمكن الوصول اليها الا عبر إضاءة جميع أبعاد الصورة . أما من يقف تحت سقف الوطن فسيسمع أنين الجياع في كل أنحائه، وسيرى الظلمة تلف البصرة وميسان وواسط والانبار والموصل بالتساوي . وسيسمع الدعاء هو نفسه على أعتاب مراقد النبي شيت وعلي بن أبي طالب والحسين والكيلاني وأبا حنيفة النعمان . فالكل يتضرعون الى الله أن يدحر الطاغية ومن معه وأن ينقذ العراق من حفنة الجهلة والاميين .
فلو كان هؤلاء حقا يمتون بصلة لطائفة معينة لما سالت دماء الابرياء في مناطق جنوب العراق بالمفخخات، ولما وجدنا شيوخا مسنين في محافظة ذي قار يمدون أيديهم كي يحصلوا على كسرة خبز في بلد النفط، ولما رأينا طفلا في عمر الزهور يجمع القناني الفارغة من النفايات كي يستبدلها ببضع دنانير يعطـــيها الى والدته الارملة كي تطعم أخوته بعد أن سرق الطغاة حصتهم من خيرات الوطن، ولما وجدت مدارس من طين وطلبة يفترشون الارض، وبيوت تتهدم على رؤوس ساكنيها من أمطار الشتاء، بعد أن ضاعت التخصيصات في جيوب الفاسدين أصحاب الشركات الوهمية .
أن من يحكمون العراق اليوم لاينتمون الى طائفة ولا قومية ولا وطن، لكنهم يحلبون كل هذه المفاهيم الى اخر قطرة كي يستمر الثراء . وهم حريصون على ابراز هذه التمايز بين طوائف المجتمع، واظهار صورة محاباة طرف وقمع اخر كي يتعزز التثقيف الطائفي ويتجذر في المجتمع، لأنه الوسيلة الوحيدة التي تبقيهم يتصدرون المشهد ويتحكمون بثروات الوطن، كما أنه وسيلة رعب متبادل في حالة اعتراض أي طرف على النهج السياسي أو المطالبة بحقوق ضائعة . لذلك لم تكن الاصوات التي خرجت في بعض مناطق العراق عفوية عندما تضادت مع مطالب شعبنا في محافظات أخرى، بل كان مخططا لها ضمن منهج طائفي يقوم على الاعتراض والاعتراض المقابل، والمطالبة والرفض المقابل، كي تستمر السلطة في التعكز على الرفض المقابل حتى لايتم اعطاء حقوق المتظاهرين .
ان الغلو الذي ظهرت به بعض التصريحات الحكومية مؤخرا ضد التظاهرات، والتهديد بفضها بالقوة ومحاولة تقبيح صورتها، مقابل صمت غالب أو اعتراض خجول على أصوات ناعقة هددت المواطنين الابرياء بالقتل بجيوش طائفية، يظهر مرة أخرى عزم السلطات على التحشيد الطائفي لاستفزاز كل الاطراف، وهو مايجب أن يتصدى له كل الشرفاء في العراق، وأن تتوحد الرؤى وتترك المصالح الشخصية جانبا، وأن يتخلى كل من بقي لديه ذرة أحساس وطني عن منهج السلطة الباغية .
ان تصريحات الطاغية الاول ومحاولته الغمز في مسؤولية تفجيرات بغداد الاخيرة على الاصوات الشريفة التي تقود وتشارك في التظاهرات، هي محاولة بائسة للتهرب من مسؤوليته أولا، كما أنها عزم أكيد منه على مواصلة نهجه الطائفي الذي أدخل البلاد والعباد في أزمات متتالية يرافقها فشل في كل الجوانب الحياتية . فكل عراقي بسيط يعلم جيدا بأن التفجيرات ليست وليدة اليوم، ولم تبدأ عندما انطلقت التظاهرات، لكن القاء المسؤولية على الحراك الشعبي لأهلنا انما هو تعبير جلي عن عمق القلق على مستقبله السياسي ومستقبل نهج حزبه الطائفي، بعد أن فشل في تغطية عوراته بادعاءات التطبيق الديمقراطي الذي يقوده في البلاد .
أما ماقاله الوكيل الاقدم لوزارة الداخلية العراقية من ( أن من يرفع العلم السابق يجب أن يعتقل ويحجز ويصار الى المحكمة لأنه معاد للعملية السياسية )، فكان الاجدر به أن ينظر الى كل المسؤولين في الدولة ويحصي عدد الاعلام التي يضعونها خلفهم، حتى باتت تطغي على علم الوطن . فهذا علم الحزب والاخر علم الطائفة والثالث علم الكتلة والرابع علم الاقليم . وعليه أن يخاطب الانتربول الدولي كي يعتقل كل الجماهير العراقية في خارج الوطن التي ترفع العلم القديم في الاحتفالات والمباريات الكروية .
لقد باتت التظاهرات الشعبية لأهلنا في الانبار والموصل وكركوك وديالى وصلاح الدين وبغداد هي العنوان الاصيل للعراق الجديد، بعد الصورة البائسة والمخجلة التي عرضها الطائفيون عن العراق أمام العالم، وأصبحت امتداداتها على اللسان والقلب في كل مدن وقرى الوطن، لأنها حركة شعب وتيار جديد يستمد وجوده من حتمية حركة التاريخ، التي وضع الطاغية وحلفاؤه منهجه بالضد منها طوال السنين العشر التي مرت علينا . لذلك لايمكن بعد الآن ضبط الايقاع الجماهيري بنفس الوسائل التي كان يعتمدها المحرضون على الغزو والاحتلال .
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
هناك تعليق واحد:
استاذي الفاضل ماذا تتوقع من طائفي نجس تزعم الجناح العسكري لحزب فارسي نجس وهو حزب الدعوهالعميل
إرسال تعليق