بشير موسى نافع
في حديثه للصنداي تايمز (الأحد، 3 آذار/مارس)، لم يتزحزح الرئيس السوري عن موقفه المعلن منذ بداية الثورة قيد أنملة. لا تفاوض إلا مع من يلقون السلاح، ولا تنازل عن الحكم، ولا اعتبار للهول الذي رمى به البلاد والشعب طوال عامين، قال الأسد.
وزير الخارجية البريطاني، الذي تعرضت حكومته لهجوم من الأسد، رأى فيه رئيساً مسكوناً بالوهم وخداع الذات. قبله بأيام، كان الأخضر الإبراهيمي، الذي أتيح له مقابلة الرئيس السوري لساعات طويلة قبل أسابيع، قال أن الأسد ضحية تضليل يقوم به من حوله. بعض قياديي المعارضة وعدد من الناشطين السوريين رأى في مقابلة الأسد مجرد محاولة من رئيس خسر الرهان منذ زمن، يحاول رفع معنويات معسكره وحلفائه. قد يكون كل هذا صحيحاً، جزئياً على الأقل، ولكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها في حديث الصنداي تايمز أن الأسد يضع سورية على طريق الحرب القصوى، طريق الذهاب بالحرب إلى أقصى ما يمكن أن تذهب إليه، بغض النظر عن متغيرات موازين القوى على الأرض.
وهذا هو خيار الأسد منذ بداية الثورة.
في كل منعطف واجهه، تبنى الرئيس السوري سياسة الحد الأقصى، السياسة الأكثر راديكالية وعنفاً وبعداً عن شروط الأزمة ومتطلباتها. لم يكن نظام الأسد بحاجة للتعامل المهين مع مثقفي ونخبة ونشطي دمشق التي خرجت في أولى تحركات الاحتجاج في العاصمة السورية؛ ولا كان بحاجة للوحشية التي أخضع لها أطفال درعا بعد ذلك بقليل؛ ولا كان بحاجة لنشر فرق الجيش والقوات الخاصة في كافة أنحاء البلاد بعد أقل من عشرة أيام على مظاهرات دمشق ودرعا المحدودة؛ ولا كان مضطراً لاستخدام العنف المميت والقاتل وإطلاق يد أجهزة الأمن لاعتقال الآلاف وتعذيبهم، شباناً وفتيات، والبلاد لم تدخل بعد في مناخ الثورة الشاملة؛ ولا كان يحتاج تبني سياسة اجتياحات المدن والبلدات والأحياء، بقوات الجيش المدرعة، وكأنها مدن وبلدات دولة عدو، منذ اجتياح حماة في آب/أغسطس 2011.
ولكنه فعل كل هذا؛ لأن سياسة الحد الأقصى هي في طبيعة النظام، في أصل بنيته وتكوينه الوراثي. ولو أعيد فعل الثورة من بدايته، ما كان ربما ليخطر على ذهن قادة النظام أي خيار آخر.
هناك، بالطبع، أكثر من مقاربة لتفسير خصلة العنف البالغ التي صنعت فرادة النظام وتميزه، من البنية الأقلوية والطائفية، إلى التكوين الاجتماعي لحفنة قادته من الضباط والأثرياء الجدد؛ من العزلة البالغة عن الأغلبية السورية وتاريخها وميراثها، إلى غريزة التملك والغنيمة. ولكن المآلات في النهاية واحدة: هذا نظام بني على العنف الأقصى، واختار أن يواجه شعبه وثورته بأقصى عنف ممكن، وسيذهب في هذه الحرب إلى أقصى درجات العنف والدمار.
قبل حديث الصنداي تايمز بأيام قليلة، كان وزير الخارجية السوري، الذي لا يمثل أكثر من دور رمزي للغاية في تقرير مستقبل البلاد، ينهي زيارتين بالغتي الرمزية لموسكو وطهران. بتوكيد المعلم، وتأييد مضيفه الروسي، على الحوار بين النظام والمعارضة، بدون التفصيل في ما يعنيه الحوار، حملت الرسالة من موسكو طابع الدور الذي تريد القيادة الروسية أن تلعبه في تقرير مستقبل سورية. وبتوكيد وزير الخارجية الإيراني على بقاء بشار الأسد في الحكم حتى انتخابات 2014 الرئاسية، مفترضاً أن الرئيس السوري، الذي فقد السيطرة على معظم بلاده، سيكون مرشحاً في هذه الانتخابات أيضاً، حملت الرسالة من طهران طابع الدور الذي قررت إيران أن تلعبه في تقرير مستقبل سورية. في جوهرهما، لا يختلف الموقفان الروسي والإيراني عن موقف الأسد. وكما أن الأسد يخوض حرباً قصوى ضد السوريين، فإن قدراً لا يقل من التصميم اليائس يقف خلف السياستين الروسية والإيرانية تجاه سورية.
بالرغم من الانتعاش المالي النسبي الذي تمتعت به في السنوات القليلة الماضية، بفعل الارتفاع الكبير في أسعار مصادر الطاقة، فإن روسيا دولة كبرى يائسة. فقدت روسيا الكثير من النفوذ منذ نهاية الحرب الباردة، ليس فقط بفعل انهيار الكتلة الشرقية والاتحاد السوفياتي وحسب، ولكن أيضاً بفعل زحف حلف الناتو الحثيث إلى ما يعرف في روسيا بالخارج القريب: المداخل الاستراتيجية إلى السهوب الروسية، سواء في شمال القوقاز، وسط أوروبا، أو وسط آسيا. وتنشر الولايات المتحدة جدار الصواريخ المضادة للصواريخ في وسط وشرق أوروبا، بدون كبير اكتراث بالمعارضة الروسية. ولأن الصناعة الروسية في حالة من الانهيار، ولم تنجح أبداً، لا في ظل الاتحاد السوفياتي ولا بعده، في منافسة التقنية والإبداع الغربي، والصيني من بعده، فإن مقدرات روسيا الوحيدة في الساحة الدولية تقتصر على تصدير السلاح ومصادر الطاقة. وبنهاية الحرب الباردة والانقسام الأيديولوجي العالمي، أصبح السلاح الروسي خيار الدول المستوردة الأخير، سيما أن مضاهاته بالسلاح الغربي لا تصب لصالح روسيا. وتبذل الدول الأوروبية المستوردة للنفط والغاز الروسيين، سيما إيطاليا وألمانيا، جهوداً حثيثة لتنويع مصادر الطاقة، سواء عن طريق خط الغاز الجنوبي، المقرر أن يعبر البحر الأسود من القوقاز ووسط آسيا إلى تركيا وأوروبا، أو عن طريق تطوير موانىء الغاز المسيل. سورية، باختصار، هي ورقة كبرى لتوكيد دور روسيا وموقعها في العالم.
يدرك الروس أن نظام الأسد لا يمكن أن يعود لحكم سورية، لا بالطريقة التي حكمها من قبل ولا حتى في صيغة معدلة. ولكن ادعاء الروس أن مصير الأسد لا يهمهم، وأن سياستهم مقصورة على دعوة السوريين إلى التفاوض من أجل التوصل إلى توافق سوري وطني، خالص، لتقرير مستقبل سورية، ليس أكثر من ادعاء. يعرف المؤرخون العسكريون أن دولاً مثل مصر وسورية، التي لا تتمتع بقاعدة صناعية عسكرية كبيرة، احتاجت لإمدادات عسكرية هائلة بعد اسابيع قليلة من بداية حرب تشرين أول/اكتوبر 1973، لاستبدال السلاح والذخيرة المستهلكة. فكيف أمكن للنظام السوري أن يستمر في حرب مدمرة ضد شعبه طوال عامين؟ لم تزل روسيا مصدراً رئيسياً لسلاح النظام وذخيرته، وما تقدمه روسيا لنظام الأسد لا يقتصر على صفقات سابقة، كما صرح مسؤولون روس وسوريون، بل يشمل أيضاً حاجات قوات النظام التقليدية والمستجدة معاً. وهدف روسيا الأساسي ليس الحفاظ على نظام لم يعد من الممكن الحفاظ عليه، بل الاستمرار في استخدامه ورقة الأزمة السورية (الوحيدة والفريدة)، في المحاولة اليائسة للاحتفاظ بصورة الدولة الكبرى، الشريك في القرار الدولي.
تصميم إيران اليائس لا يقل عن مثيله الروسي. يقدر قادة الحرس الثوري في إيران، المسؤولون عن دعم ومساندة نظام الأسد، أن مدى صمود النظام يدور حول العام الواحد، أقل أو أكثر بقليل. ولكن إيران لا تستطيع التضحية بنظام الأسد هكذا، لمجرد أن الشعب السوري يرفض هذا النظام. كما خسرت روسيا نظاماً صديقاً خلف الآخر في المشرق العربي، منذ غزو العراق، وبقوة عاصفة الثورة العربية، فإن خسارة إيران لسورية، بدون مقابل ملموس، ستكون كارثة محققة لمقدرات إيران الجيو سياسية. قبل سنوات قليلة وحسب، كانت إيران تحتفل بسقوط خصومها في أفغانستان والعراق، وتوطيد سيطرتها أو نفوذها في البلدين، كما في سورية ولبنان، بينما تقف القوى الغربية عاجزة عن اتخاذ قرار حاسم بشأن الملف النووي الإيراني.
سقوط نظام الأسد، يعني كشف الغطاء الاستراتيجي عن حزب الله، حتى إن لم يؤد إلى انفجار لبنان في حلقة جديدة من الحرب الأهلية.
وبانفجار الحركة الشعبية في العراق ضد نظام المالكي، وانتقال حكومة إقليم كردستان العراق إلى المعسكر التركي، تبدو هواجس التراجع الاستراتيجي واسع النطاق في طريقها للتحقق. أكثر من روسيا، تتحول سورية إلى وجع مؤلم في الخاصرة الإيرانية؛ ولذا، وبخلاف روسيا، التي تريد من العالم أن ينظر إليها باعتبارها قوة كبرى ومسؤولة، أصبح التدخل الإيراني في سورية أكثر فجاجة، من دعم نظام الأسد مالياً واقتصادياً وتسليحياً، دعم غرف عملياته بالضباط الإيرانيين، إلى تشجيع حزب الله على التدخل، المحدود حتى الآن والمقتصر على المنطقة الحدودية وأحياء معينة في جنوب دمشق.
بيد أن هذا ليس كل شيء. بتسارع وتيرة انهيار قوات النظام في جبهات القتال المختلفة، قد يصبح التدخل الإيراني أكثر فجاجة، سواء بالعمل على تشكيل ميليشيات طائفية، تلعب دوراً ما في الصراع على سورية بعد سقوط النظام، أو بدعم فكرة الدولة العلوية في الساحل. وفي الحالتين، سيكون على حزب الله أن يلعب دوراً متسعاً، سواء لمساعدة النظام في تأمين دويلة الساحل بالسيطرة على النطاق الممتد من القصير، مروراً بسهل الغاب، إلى ريف اللاذقية، أو توفير مساندة دائمة للميليشيات العلوية الجاري تشكيلها. لأن سورية، وليست إيران، هي التي تتعرض للتدمير، فإن طهران على استعداد للذهاب بعيداً في دعمها للنظام، طالما أن الصفقة الكبرى، التي تريد طهران من خلالها تأمين نظام الجمهورية الإسلامية، وتأمين نفوذها الإقليمي في الجوار الإيراني المباشر، وقبول العالم بمكتسبات النظام النووية، ليست متاحة بعد.
ما يؤكد خيار الحرب القصوى الانخفاض الملحوظ في موقع 'الشرق الأوسط' في جدول الأولويات الأميركية. المشكلة ليست في عدم وجود الإرادة، أو الاستعداد، أو المصلحة، في التدخل الأميركي المباشر في سورية. يستطيع السوريون، وبالرغم من وحشية النظام، حسم المعركة ضد النظام بسرعة كبيرة، وبدون الحاجة للتدخل الأميركي، إن تم تحييد إيران وروسيا، ووفرت الدول المؤيدة للثورة الحاجات الضرورية والأساسية. ولكن المتغيرات في الاستراتجية الأميركية العالمية تعنى أن ليس ثمة استعداد لدى إدارة أوباما للدخول في مساومة باهظة مع روسيا وإيران مقابل وقف تدخلهما في الأزمة السورية. إن كان الشرق الأوسط ككل قد تراجع في سلم الأولويات الأميركية، فقد تراجعت أيضاً أهمية سورية.
هذه المعركة، بكلمة أخرى، ماضية نحو أبعد مدى يمكن أن تمضي إليه. المهم، إن الشعب السوري بات مقتنعاً بأن تكاليف إسقاط هذا النظام، مهما بلغت، أقل من تكاليف استمراره.
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق