يحيى العراقي
السوق هو المقابل العربي لكلمة الإستراتيجيا أو الستراتيجيا
(Strategy) الإنجليزية والتي تعني بمفهوم مبسط الخطط العملية
بعيدة الأمد لتحقيق غاية مركزية معينة او عدة غايات. ولكي يوجد السَوقْ وتوجد الإستراتيجيا
لابد أولاً من وجود أهداف وغايات رئيسية كبرى أو مشروع يخدمه ذلك السَوقْ وتلك الإستراتيجيا.
سَوقْ الأخرين ومن ذلك السَوقْ الإيراني ينهج عند وصول
الأمور في الصراع إلى مرحلة المواجهة العنيفة المسلحة إلى الحشد والتعبئة لكافة
الإمكانيات والقدرات والجهود المتيسرة والمتاحة وبكل عزيمة وإصرار من أجل دعم الجهد
المسلح وأنشطته في الميدان لضمان النجاح، وإعتبار ذلك الجهد وعموم الأنشطة المسلحة
رأس الحربة الذي تحتشد خلفه وإلى جواره كل العناصر بإتجاه الحسم عبر ميدان النزال
لتحقيق الهدف.
وهكذا نرى الكيان الإيراني يستنفر كافة المؤسسات والتشكيلات
من البيت حتى المعسكر مروراً بالمدرسة والجامعة والمعمل وبيوت العبادة ومراكز الثقافة
ومنابر الإعلام والصحافة ومراكز البحوث والدراسات والتشكيلات والكيانات السياسية
وقنوات الإتصال السياسي والدبلوماسي وأجهزة الأمن والمخابرات و و و و ... وكل شيء ..
كل شيء بلا إستثناء يتم إستنفاره وتعبئته ليصبح في خدمة العمل المسلح لتحقيق الحسم
والإنتصار الناجز الذي تأتي بعده مرحلة التفاوض السياسي.
في أثناء المعركة السياسة والدبلوماسية لا تفتش عن
الحلول عبر مساراتها كبدائل للعمل العسكري المسلح بل هي تنشط لحشد القوى السياسية
الدولية الرسمية وغير الرسمية في سبيل النصر. حتى إذا لم يتحقق النصر الناجز
فالنهج السوقي الإيراني لابد له أن يصل إلى نتيجة واضحة وقناعة نهائية بإستنفاذ
الخيار العسكري تماماً وإنغلاق آفاقه قبل الدخول في أي عمل سياسي تفاوضي. حتى
المفاوضة في هذه الحالة لا تقبل بأي شيء وتقيد فرص عملها المستقبلية.
أما نحن العرب فقد أثبتت التجارب في أغلب الأحيان أن
إرادة وشجاعة وعزيمة كثير منا قد تم التأثير عليها وتعرضت للعطب وصرنا ننظر للعمل
المسلح كخيار كريه مستبعد لا نحسن فهمه ولا نجيد التعامل معه أو إدارته في
صراعاتنا التي نخوضها والتي لم ولن تخلو الحياة منها.
نحاول تجنب هذا الخيار بأي ثمن! حتى لو كان ذلك الثمن
حريات وحقوق أساسية مرتبطة بالوجود المادي والمعنوي والكرامة، ولشدة رهبة بعضنا
منه والهوس بتجنبه نراه يفقد توازنه ويهوي ويتورط فيه مرغماً ومن دون أدنى إستعداد،
وذلك بالرغم من جهده وسعيه للهرب منه، فيهوي فيه ليس دفاعاً عن نفسه بل دفاعاً عن
الباطل الذي سلبه حقوقه وكرامته!
اليوم نرى كثير ممن يتصدرون المشهد ويساهمون بشكل أو بآخر
في صنع قراراته يتعاملون مع الخيار العسكري بإعتباره مجرد خيار من بين خيارات أخرى
(سياسية ودبلوماسية) يجري إستخدامها والتعامل بها في الصراع جاعلين تلك الخيارات
بدائل للخيار العسكري مستبعدين توظيفها والموارد والإمكانيات والمؤسسات والقنوات الرافدة
لها لخدمة العمل المسلح والإكتفاء بإعتبارها بدائل ينشغل ذهننا بالتفكير فيها والهرب
إليها كلما إشتد أوار المعارك وحمى وطيسها.
هكذا تصرف العرب في حرب عام 1973 مع الكيان الصهيوني، مثلاً،
فمع أول ضغط عسكري صهيوني (ثغرة الدفرسوار على جبهة القناة وثغرة سعسع بإتجاه
العاصمة دمشق) لجأ الرئيسان الراحلان المصري أنور السادات والسوري حافظ الأسد إلى
قبول وقف إطلاق النار والدخول في تفاوض مذل رغم نصيحة عسكريي مصر والعراق
المشاركين في الجبهتين، والجبهة السورية على وجه الخصوص، برفض ذلك والإستمرار في
القتال بإتجاه تحقيق شروط أفضل للتفاوض مع وصول الجهد العسكري مداه الأقصى.
وهناك محطات أخرى كثيرة في تاريخنا المعاصر تؤشر لهكذا
مسلك يهرول فيه الساسة وصناع القرار نحو سراب مفاوضات تطرح وتجري قبل أوانها.
هكذا نهج في التعامل مع الصراعات يصير الفشل سيداً
للموقف وعلى كلا المسارين العسكري والتفاوضي ويخرج الناس من المواجهات خالي الوفاض.
فالقتال كالصلاة لكي يكون بمستواه المطلوب ويؤدي غرضه لابد له من الإنطلاق من جَنان
ثابت وإستقرار نفسي ورؤيا واضحة وتوجهاً وإنصرافاً تاماً له لتحل بعد ذلك رعاية
الله ورحمته وبركته ونصره. أما الذهاب للقتال وكأنه مناورة نذهب لها ونحن نُقدِّم
رِجلاً ونؤخِّر أخرى ونضع قدماً هنا وأخرى هناك والعيون زائغة والأذان منصرفة تبحث
عن همسات وأصداء تأتي من هنا أو هناك عن فتح أبواب للتفاوض، فذلك بالتأكيد وصفة للهزيمة
والإنتحار وليس وصفة للإنتصار.
اليوم قد يثار أمام الثائرين والمجاهدين، أو بعض من أجنحتهم،
والقوى والأطراف المرتبطة بهم أو المقربة منهم حديث عن حلول سياسية أو تشكيل حكومة
إنقاذ ومشاريع هلامية فضفاضة يحاول الأعداء أن يرموا بها ويُطلقوها بأساليب شتى ولأهداف
شتى تاركين البعض يدندن بها كأسلوب خبيث للتملص من أي محتوى ومضمون لها.
مشاريع وأفكار يطلقونها قبل يأتي أوانها وقبل الحسم
النهائي في الميدان، والهدف الحقيقي الوحيد من وراء ذلك كله هو محاولة تشتيت إنتباه
وتركيز وجهد الثوار والمجاهدين.. لقد حصل مثل هذا كثير سواء أيام الإعتصامات أو في
فترة قتال الرمادي والفلوجة والكرمة الذي إمتد لأشهر وذلك قبل الإنتصارات المباركة
الأخيرة..
من هنا نعتقد أن الأمر يتطلب عدم إعارة كبير إهتمام لهذه
البالونات، وإن كان يمكن إستغلالها للمناورة كما يفعل العدو، أو لإقتناص وإنتزاع
بعض الأهداف الجزئية على الطريق من دون التفريط بشيء والتركيز تماماً وكلياً على رض
الصفوف وحشد كافة الجهود والإمكانيات بإتجاه مزيد من التعبئة ومتابعة المعركة
والصراع والدفاع عن الثورة والمناطق المحررة وتعميق مفهوم الثورة والتغيير وأهميته،
والعمل على توسيع رقعة الثورة والمناطق المحررة ونشر رسالتها الإنسانية في الحرية
والكرامة وبيان القضية وشرحها للعالم من حولنا لتبديد أي أثر للإعلام المعادي الذي
يركز على الإرهاب ببعد أحادي.
المعركة لازالت في بدايتها والعدو لم ولن يسلِّم بسهولة،
فهي معركة حياة أو موت بالنسبة له حتى لو إقتصر الأمر على المناطق الحالية المحررة
ولم يشمل الأمر بغداد.
العدو لن يقبل أبداً أن يُدقَّ أسفينٌ بين إمتداد جغرافي
متواصل يبتدئ من عمق الأرض الإيرانية مروراً بالمناطق المحررة وسوريا وصولاً إلى لبنان
والبحر المتوسط.
سيغنون ويغني أتباعهم كثيراً على موّال وحدة العراق ورفض
تقسيمه وعلى "داعش" والإرهاب وقصص وفذلكات كثيرة، لذلك لابد لنا من التهيؤ
لهذه المعركة المصيرية بكل ما نستطيع وتطوير أية وسائل تتيح إدارة مدنية للمناطق
المحررة وهي تخوض هذه المعركة الطويلة بما يؤمن إستمرار الحياة فيها، على أن لا يؤثر
ذلك بأي شكل من الأشكال على خيارتنا الحرة وقدراتنا الدفاعية وتهيؤنا للمعارك
القادمة، والتي هي حتمية الوقوع في إطار هذا الصراع المصيري قبل أن يقبل النظام
الإيراني بالإنكفاء إلى داخل حدوده والتخلي عن حلمه ومشروعه الإمبراطوري، وهو أمر لاشك
ليس سهلاً مع عدو حاقد مؤدلج معبئ بالأفكار والعقائد المنحرفة وبأحقاد مغذاة
بمشاعر الكراهية على إمتداد قرون، تتفاعل معها وتعززها أحلام وطموحات وخطط
لإمبراطورية طائفية فاشية تهيمن على عموم المنطقة كاد أن يكتمل هلالها.
كعراقيين أحرار أصلاء مسلمين صادقين مجبولين على السلام فإننا
وبكل تأكيد ومهما كانت خلافاتنا الفكرية والثقافية مع نظام الملالي في طهران لا
نرغب مطلقاً في الصدام معه، لكن هذه المسألة لا تتوقف على رغباتنا الخاصة إبتداءً بقدر
ما هي متوقفة على أفكار وأطماع هذا النظام الإمبريالي الشرير، ومن يتصور أن المشكلة
والصراع معه شيء عابر بسيط هو واهم كل الوهم أو منحاز يخدم أجندة سادته من خلال خدمتهم
إعلامياً بالتقليل من شرورهم وتشتيت إنتباه ضحاياهم.
تكفي نظرة بسيطة للواقع السوري وما حلَّ بهذه الأرض من
دمار جراء تدخلات إيران وحرسها وأذنابها وميليشياتها المنتشرة كالسرطانات في أنحاء
المنطقة ليعرف الأبعاد الحقيقية للمواجهة وثمن الحرية التي ينتظر منا دفعه.
حمى الله الثورة والثوار وقوى الجهاد والإيمان على هذه
الأرض وثبَّتهم وأدام إنتصاراتهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق