وجهات نظر
صبحي غندور
ليس من الواضح بعد كيف سيكون المخرج السياسي المناسب لكلٍّ
من موسكو وواشنطن ودول الاتحاد الأوروبي، من أجل اعادة العلاقات الطبيعية بين
"الغرب" و"الشرق" عقب التأزّم الذي حصل بسبب الأزمة
الأوكرانية، لكن بدأت تظهر علاماتٌ إيجابية عقب تصريحات الرئيس الروسي بوتين عشيّة
انتخابات الرئاسة في أوكرانيا، والتي انتهت بفوز
بوروشينكو، ثمّ بتأكيد
لافروف وزير الخارجية الروسي على أنّ روسيا ستحترم إرادة الشعب الأوكراني، وبأنّها
مستعدّة للحوار مع الرئيس الجديد، الذي بادر هو أيضاً إلى إظهار الاستعداد للتفاوض
المباشر مع القيادة الروسية.
موسكو وواشنطن معنيّتان ليس فقط بمستقبل العلاقات بينهما
أو بمستقبل أوكرانيا وأوروبا فقط، بل أيضاً بمصير انسحاب القوات الأميركية من
أفغانستان وما ستكون عليه أوضاعها بعد ذلك. وهما أيضاً بحاجةٍ للتنسيق بينهما بشأن
مستقبل العلاقات الغربية مع إيران، بعد استحقاق شهر تموز/يوليو القادم، وهو الموعد
المحدّد لنهاية تفاوض القوى الكبرى مع طهران حول ملفّها النووي. وسيبقى الملف
السوري ساخناً على الأرض الآن بانتظار نتائج هذه التطوّرات في العلاقات
الأميركية/الروسية والأميركية/الإيرانية، وهي تطوّرات تنذر باحتمالاتٍ إيجابية لا
تصعيدية في هذه المرحلة. وسيكون شهر أيلول/سبتمبر القادم هو الحدّ الزمني الذي ستتّضح
فيه معالم ما سيتمّ إعداده خلال الصيف من مشاريع تسويات وحلول لأزماتٍ عديدة.
على المستوى المحلي العربي، فإنّ نجاح مصر بتثبيت
القواعد الدستورية للحياة السياسية فيها وبإنجاز انتخابات الرئاسة بعد إقرار
الدستور العام سابقاً، ستكون كلّها خطوات مهمّة جداً لاستعادة دور مصر الإقليمي
والعربي في مرحلة صناعة التسويات السياسية لأزمات المنطقة، ولترتيب العلاقات
العربية مع دول الجوار الإقليمي. بل ربّما قد تكون القاهرة هي المكان الذي سيشهد
اجتماعاتٍ دولية وإقليمية لاستكمال الجهود التي بدأت في جنيف من أجل وضع تسوية
سياسية للأزمة الدموية في سوريا، كما أيضاً للتعامل مع الملف الفلسطيني بأسلوبٍ
مختلف عن المفاوضات الثنائية التي رعتها واشنطن في الأشهر الأخيرة. وهناك مؤشّراتٌ
أيضاً عن جاهزية مصر للمساعدة في إعادة الاستقرار السياسي والأمني في ليبيا، بعدما
هيمنت الفوضى والميليشيات على مناطقها المختلفة.
إنّ
الأمّة العربية كلّها تحتاج الآن بشدّة لإعادة الحيوية النابضة في قلبها المصري،
في ظلّ أوضاعٍ عربية سارت في العقود الأربعة الماضية من سيءٍ إلى أسوأ، ومن هيمنة
غير مباشرة لأطراف دولية وإقليمية إلى تدخّل مباشر في بلدان الأمّة، لذلك فإنّ العرب كلّهم أملٌ الآن بأن تعود مصر لدورها الريادي
العربي، وأن تستقرّ أوضاعها الأمنية والسياسية والاقتصادية، وأن تتحرّر القاهرة قريباً
من قيود "كامب ديفيد" التي كبّلتها لأكثر من ثلاثة عقود فأضعفتها
داخلياً وخارجياً.
ففي غياب دور مصر، جرى في السنوات القليلة الماضية إشعال
شرارات حروبٍ أهلية عربية في أكثر من مكان. حصل ذلك بدايةً من خلال تداعيات الاحتلال
الأميركي للعراق عام 2003 وتفجير الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية فيه، ثمّ
من خلال اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في العام 2005، ثمّ
بالمراهنة على تداعيات الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، ثمّ بتقسيم
السودان في مطلع العام 2011 وفصل جنوبه المختلف دينياً وإثنياً عن شماله، ثمّ
بتحريف مسارات الحراك الشعبي العربي الذي بدأ بتونس ومصر مستقلاً، لكن وجدناه يمتزج
في دولٍ عربية أخرى مع تأثيرات وأجندات إقليمية ودولية مختلفة، أراد بعضها توظيف هذه
الانتفاضات الشعبية العربية لكي تكون مقدّمةً لحروبٍ أهلية ولصراعاتٍ طائفية
ومذهبية وإثنية، ولتغيير سياسات وخرائط أوطان وليس حكومات وأنظمة فقط.
وقد رافق هذه الأحداث والصراعات على الأرض العربية
نموّاً متصاعداً لجماعات التطرّف المسلّحة التي استغلت حالات الفوضى والعنف لكي
تمتدّ وتنتشر، حتى وصلت إلى معظم الأرجاء العربية، بينما كانت إسرائيل تستفيد من
كل هذه التداعيات العربية لمواصلة عمليات الإستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة،
مراهنةً أيضاً على تحوّل الصراع الأساس في المنطقة من صراع عربي/إسرائيلي إلى
صراعاتٍ عربية/عربية، وعربية/إيرانية، وعلى تقسيمات طائفية ومذهبية تبرّر أيضاً
الاعتراف بإسرائيل كدولةٍ يهودية.
لكن متغيّرات دولية وإقليمية بدأت تحدث الآن مع توقيع
الدول الكبرى اتفاقاً مع إيران بشأن ملفّها النووي وبدء رفع العقوبات المفروضة
عليها منذ زمنٍ طويل. فهذا الأمر له أهمّية كبيرة الآن في معالجة أزماتٍ عربية
متفجّرة أو مهدّدة بالانفجار، خاصّةً بعد التصريحات الإيجابية التي خرجت من الرياض
وطهران بشأن العلاقات الثنائية بينهما، وما يمكن أن يتركه ذلك من انعكاساتٍ جيدة
على أوضاع سوريا ولبنان والعراق ومنطقة الخليج العربي. وسيساعد هذا الأمر حتماً
على فعاليةٍ أكبر للدور المصري القادم بالمنطقة نتيجة العلاقات الجيدة حالياً بين
القاهرة والرياض.
وهناك
ارتفاع دولي مشترك لمنسوب المخاوف من تفاعلاتٍ ممّا يحدث على الأرض السورية، إن
كان لجهة زيادة دور وعدد الجماعات الدينية المتطرّفة، والمحسوبة اسمياً على
"جماعات القاعدة"، أو أيضاً لمحاذير امتداد الصراعات المسلّحة إلى دول
مجاورة لسوريا.
فخيار
التسويات السياسية، وليس المزيد من التصعيد العسكري، هو المرغوب حالياً من قبل
الأقطاب الدولية، حتّى لو كانت هناك عقبات أو "معارضات" لهذه التسويات
على مستوياتٍ محلية وإقليمية. لكن هذه التسويات الدولية الممكنة لأزماتٍ في
المنطقة ومحيطها هي مراهناتٌ عربية جديدة على "الخارج" لحلّ أزماتٍ
مشكلتها الأساس هي ضعف "الداخل" وتشرذمه. فأيُّ حلٍّ يرجوه العرب
لصالحهم إذا سارت التفاهمات الدولية والإقليمية تبعاً لمصالح هذه الأطراف غير
العربية؟! فكلّ طرفٍ معنيٌّ
بصراعات المنطقة سيحاول تحسين وضعه التفاوضي على "الأرض" قبل وضع الصيغ
النهائية للتسويات، بينما العرب منشغلون حتّى الآن في أوضاعهم الداخلية، ومنقسمون
ومتصارعون حول قضايا عربية وإقليمية ودولية!.
ومهما
حدث من تطوّراتٍ إيجابية محتملة على الصعيدين الدولي والإقليمي، فإنّ السؤال يبقى:
كيف سيكون هناك مستقبلٌ أفضل للشعوب والأوطان، وللأمّة ككل، إذا كان العرب مستهلَكين
بأمورٍ تُفرّق ولا تجمع؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق