مثنى عبدالله
تتسابق حكومات العالم الاول والثاني والثالث على إظهار معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي وحدود التقدم الجاري في التنمية السياسية والبشرية في مجتمعاتها. كما تنشغل المنظمات الدولية والاقليمية المتخصصة في نشر تقاريرها العلمية التي تبين مراكز الدول في قائمة سُلّم النجاح المتحقق للنهوض بالانسان. إلا العراق فقد شذ عن هذه القاعدة وشُطب من سجلات التقدم حينما تحرر وبات ديمقراطيا بشهادة بوش وبلير وجلال الطالباني، ولم نعـد نرى أسمه مدونا إلا في القوائم السوداء مع دول كـان متقدما عليها قبل عقود من الزمن.
فهو لازال يحتل للسنة التاسعة مراكز متقدمة في الفساد السياسي والمالي، وفشل ذريع في قطاعات الصحة والتعليم والخدمات الاساسية الاخرى على الرغم من صعود معدلات تصدير النفط الى مستويات ماقبل الغزو، وأرتفاع الميزانية السنوية الى أرقام مهولـة. لكنها تبقـى مجـرد أرقـام في نظر المواطن العراقـي الذي لـم يجن منها شيئا.
وأذا كانت الدول والمنظمـات تسعى مـن خـلال نشراتها تبيان مـدى التقدم الحاصل فـي تحقيق أنسانيـة الانسان كهدف سامي، فـإن التقارير الصادرة مـن العـراق على العكس مـن ذلك تماما. التقرير الجديد الذي صدرعـن السلطات العراقيـة الاسبوع الماضي يشير الـى أن شهر تموز- يوليو المنصرم كـان أكثر الشهور دمويـة فـي العـراق منـذ عامين. في ذلك الشهر كـان عـدد القتلى 325 عبر أرجـاء البـلاد، وكـان عـدد الجرحى 697 شخصا. أي أننـا أمـام معـدل قتل يومي يبلغ 10 أشخاص و23 جريحـا. وأذا أخذنا بنظر الاعتبار أن التصريحات والاحصائيات الحكوميـة ليست ذات مصداقيـة يمكن الوثوق بهـا، فإن هـذا العـدد مرشح للزيادة بشكل أكبر. وأمام كل هذه الكارثة الانسانية يصر رئيس الوزراء على القول أن تجربتهم في تحقيق الامن باتت محل أعجاب العالم بأسره على حد قوله. بل أن الناطق بأسم وزارة الدفاع وقيادة عمليات بغداد يعلق على حوادث الشهر المذكور في تصريح الى جريدة عربية تصدر في لندن بالقول (هذا التنظيم - يقصد القاعدة لم يعـد لديه الآن سوى الفرقعات الاعلامية). فـإذا كـان تفجير 22 عبوة ناسفـة وسيارة مفخخـة في يـوم واحـد في 14 محافظة عراقية، كالذي حصل يـوم الاثنين 22 تموز يوليو، ومقتل كل هذا العدد في شهر واحد يعتبره فرقعة أعلامية، ترى أي جهل مطبق يعاني منـه القادة السياسيون والعسكريون المؤتمنون على أرواح وممتلكات المواطنين؟.
أن أقل مـن هــذا العـدد من الضحايا يُسقط حكومات أن حدث في أيـة دولـة ديمقراطيـة، ويساق الكثير من المسؤولين مدنيين وعسكريين الى المحاكم كـي يدفعوا ثمن تهاونهم بدماء الشعب. بينما في العراق يكون القتل والتدمير بورصة فاعلة يحاول الكسب فيها هذا السياسي وغيره، من خلال القاء المسؤولية كل على الآخـر، فـي سيناريو فاشل لتضييع دمـاء الابريـاء بين الاحزاب والمليشيات الطائفيـة، وهـو مايجعل المستفيد الاول من التفجيرات هي السلطة الحالية، سواء كانت هذه الحوادث تتم بفعلهم أو بفعل فاعل أخـر أياً كانت التسميـة أو الجهـة التي تقف وراءهـا، لانهـا أعراض نظام سياسي مريض، وشركـاء لاتوجد لديهم أية رؤية مستقبلية لما يجب أن تكون عليه مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية حاضرا ومستقبلا. كما أن كل مقومات النظام السياسي وأطره السياسية والــقـانــونـيــة، تم تأســـيـــسها على ركائز سريعـة الاشتعال وقابلـة للانفجار في أيـة لحظة كانت، نتيجة الموازنـة القلقة والخـــاطئة التي وضعت على طاولتها مصالح السياسيين وأحزابهم وكتلهم وطوائفهم السياسية قبل مصالح الشعب والوطن، مما يجعل الصراعات السياسية سببا فاعلا ورئيسيا في خلق مناطق ضغط واطي يدفع ثمنه المواطن. أن التصريحات الحكومية العراقية والامريكية، التي تركز على التقليل من شأن الاحداث الامنية التي يمر بها البلد، أنما هي كذبة كبرى هدفها التقليل من المسؤولية الاخلاقية والانسانية والقانونية التي يتحملون وزرها.
فهم يحاولون إتخاذ الفترة الزمنية بين الاعوام 2005 2008 قاعدة قياس علمي يقيسون في ضوئها الاحـداث التي يمـر بها البلد اليوم. أنـه مقياس باطل تمامـا لأن العـراق لـم يكـن يعرف هذه التفجيرات والاحداث الدامية إلا بسبب المحتل وأعوانه، وهـم لم يستطيعوا الوصول لحد الآن الى المستوى الامني الذي كان يعيشه البلد ماقبل الغزو، والذي يفترض أن يكون هو مقياسهم الحقيقي. كما أنهم يقولون بأن قوات الامن لازالت في مراحل مبكرة من عملية التطوير والتدريب، على الرغم من صرف مليارات الدولارات عليهم، ووقت مستقطع من حياة الشعب بلغ لحد الآن أكثر من تسع سنوات، فهل يُعقل أن ينتظر العراقيون فترة زمنية أخرى بقدر مامضى أو أكثر كي تتطور قوات الامن بينما هم يدفعون دماء وأرواح بريئة يوميا؟ ومن المسؤول عن هذا الهدر المادي طوال الفترة الماضيـة التي لـم تحقق أيـة نتيجة تذكـر؟ نعـم لقـد تراكمت الخبرة لـدى المؤسسات الامنيـة العراقيـة ليس فـي صالـح المواطن، بـل في كيفيـة التسقيط السياسي بين الشركـاء، وجمـع ملفات الفساد الاداري والمالي ووضعها تحت يـد هـذا المسؤول وغيـره، كي تكون سلاحـا في الابتزاز في الاوقات الصعبة. كما باتت فاعلة جدا فقط في أقتحام دور المواطنين ومحاصرت منطقهم وتجريمهم وهم أبرياء وابتزاز عوائلهم.
لقد أصطف البعض خلف مقولـة أن تزايد العنف في العراق في الوقت الحالي سببه تطورات الوضع السياسي والامني في سوريا، وهـي عملية تلاعب بالحقائق لاهداف طائفية معروفة، هدفها أستفزاز الغرائز للتحشيد المذهبي وعودة التخندقات الماضية، إستعداداً من قبل السلطة الحاكمة لمواجهة أي تطورات سياسية قد تزعزع التحالفات القديمة في الاقليم. كما أنها تجـد في هـذا التبرير مخرجا لها للهروب من أستحقاقات المسؤولية التي تتحملها والتي فشلت فيها. لقد أستهدفت التفجيرات جميـع المواطنين في كـل مدن العراق، كما أنها لم تبدأ مع بداية الاحداث في سوريا.
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق