العراق كله، عزيزي الأستاذ كاظم الحمامي، يعيش حال (شمهودة) ففي ظل تحكم العملاء اللصوص، تعم حالة (شمهودة)، لا على البصرة العزيزة فحسب، بل على كل العراق المبتلى بالاحتلال وعملائه، ومع ذلك هذه مقالتك التي بعثت بها إلينا على صفحات وجهات نظر، مع الاعتزاز.
لن تؤدي البصرة دور شمهودة
كاظم فنجان الحمامي
لابد لنا قبل الدخول بصلب الموضوع من التعرف على (شمهودة), ولابد من استعراض دورها التاريخي في قيادة حلقات اللطم والنواح مع الكبار, وتخلفها عنهم بسبب إجبارها على تناول الطعام مع الصغار.
تتلخص قصة (شمهودة) إنها لم تكن تترك مأتما أو مجلسا من مجالس العزاء في قريتها إلا وتحضرها, وتبلي فيها بلاءً حسناً في البكاء واللطم والعويل والصراخ, لكن أهل العزاء يعاملونها بقسوة, ويعزلونها مع الصغار في وجبات الطعام, ولا يحسبونها من ضمن الضيوف, أو يتذكرونها فيما بعد فيدعونها لتناول ما تبقى على مائدة الضيوف, حتى ذاع صيتها وضربوا بها الأمثال للتعبير عن حالات الغبن وعدم الإنصاف, فقالوا: ((لطم شمهودة. تلطم مع الكبار وتأكل مع الزعاطيط)), والزعاطيط في اللهجة العراقية الدارجة هم الفئة المستصغرة من الصغار. .
قد تكون شخصية (شمهودة) وهمية أو خرافية, وقد تكون حقيقية ولها مساس بالواقع المر المعاش, فالأمثال تضرب ولا تقاس. لكننا لا نريد للبصرة أن تلطم لطم شمهودة, ولا نريدها أن تتقمص دورها في السر والعلن , فتفقد استحقاقاتها كلها في خضم التخصيصات غير العادلة لمواردها الطبيعية والمالية والجغرافية. .
يقولون: إن (80%) من ميزانية الدولة الاتحادية تستحصلها البصرة, ويقولون: إن (17%) من واردات نفط البصرة يتمتع بها إقليم كردستان, ويقولون: إن رواتب البيشمركة, الذين بلغ تعدادهم مئات الألوف, تأتي من عائدات البصرة النفطية المينائية والجمركية والضريبية, ويقولون: إن النسبة العظمى من السلع والبضائع التجارية المستوردة عن طريق الموانئ الإيرانية والتركية البديلة تصل البصرة (أم الموانئ) عن طريق المنافذ الحدودية الكردية مع إيران أو مع تركيا, لكنهم لا يعترضون على تعاملات البصرة التجارية الخارجية عبر المنافذ البرية لإقليم كردستان, في الوقت الذي تنفرد فيه البصرة بواجهاتها المينائية الكبيرة المطلة على بحار الله الواسعة, وتنفرد بخطوط التماس الحدودية مع ثلاث دول (السعودية, إيران, الكويت), ولا يعلمون إن بعض الوزارات العراقية تتعمد توريد موادها وأجهزتها وحاوياتها عن طريق الموانئ البديلة في الكويت والأردن وتركيا, وبالاتجاه الذي يحرم موانئ البصرة من النهوض بدورها الوطني المباشر في التعامل مع خطوط الشحن البحري, ولا يعلمون إن إجراءات التقييس والسيطرة النوعية المفروضة على واردات البصرة التجارية اخف بكثير في إقليم كردستان, إذا ما قورنت بالإجراءات المعقدة في البصرة نفسها, وان الرسوم الجمركية المفروضة على السلع المستوردة للبصرة عن طريق كردستان أقل بعشرات المرات من الرسوم المماثلة لها في منافذها, ولا يعلم البصريون حتى هذه اللحظة: إن (70%) من المساحة البرية في مدينتهم المحرومة من التطور خاضعة بالكامل للمشاريع النفطية, وان نسبة كبيرة من مسطحاتها البحرية خاضعة بالكامل لخطوط الأنابيب النفطية والمنصات العائمة والعوامات الرحوية ومقترباتها ومحرماتها, الأمر الذي حرمها من استحقاقاتها الجغرافية, وافقدها فرص الارتقاء والنمو الحضاري, حتى تخلفت عمرانيا وبيئيا وجماليا عن المدن الخليجية التي ولدت بعدها بقرون, لكنهم يعلمون علم اليقين انه وعلى الرغم من مكانة مدينتهم العلمية والثقافية والفكرية والأدبية, وعلى الرغم من تفوقهم في المجالات الطبية والبحرية والهندسية والزراعية والسياحية والتجارية والصناعية, وعلى الرغم من ارتفاع نسبة حملة شهادات الدكتوراه في مؤسساتها ومعاهدها وكلياتها التخصصية بالمقارنة مع النسب المعلنة في الكويت وقطر والإمارات والبحرين وعمان, وعلى الرغم من طيبة أهلها ودماثة أخلاقهم ونزاهتهم ووطنيتهم, لا تجد وزيرا واحدا في تشكيلات الحكومة من البصرة, ولا سفيرا من البصرة, ولا وكيل وزارة, حتى إن بعض المدراء فيها جاءوها من محافظات أخرى, في حين اقتصر توزيع الحقائب الوزارية على أبناء المحافظات الأوفر حظا منها. .
ربما يظن عامة الناس إن البصرة لا تختلف كثيرا عن (شمهودة), فهي في نظرهم كالبعير المحمل بالحرير ونفائس الذهب والفضة, بينما يهيم على وجهه في الوديان والبراري ليبحث عن شجيرات العاقول والشوك والشويل فيقتات منها أو عليها, ثم يعود ليروي ظمأه بالماء المالح, فنقول لهم جميعا: إن المدينة التي حملت لقب (أم العراق) في مراحل الإبداع والازدهار والتألق, والتي أطلق عليها أرباب العلوم والفنون والآداب أسماء: خزانة العرب, وذات الوشامين, وقبة العلم, والفيحاء, وعين الدنيا, والزهرواء, والزاهرة, وبندقية الشرق, وجنات عدن, والأُبلّة, وأبولوجوس, وطريدون, والبصراياثا, والبصرة العظمى, وثغر العراق الباسم, وكانت تجمع مع الكوفة بالمصرين, إن مدينة بهذا المستوى لن تفرط بحقوقها بهذه البساطة, ولن تعود أبدا إلى اسمها القديم (الخريبة), وربما تضطرها الأيام للعودة إلى اسمها المشاكس (الرعناء), الذي ادخرته لمواجهة الذين حرموها من ابسط استحقاقاتها. . .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق