كتب الدكتور محمد عياش الكبيسي مقالته هذه مستحضراً نصر العراق في قادسية العرب المجيدة الثانية، التي كسرت ظهر المشروع الخميني العدواني في ابتلاع امة العرب والمسلمين ردحاً طويلاً من الزمن، وفيه يفضح أيضاً ملامح من التخادم الخفي بين المشروعين الاحتلاليين الأميركي والخميني.
مقالة تستحق القراءة والاهتمام، وإن كنا لانرى في كثير ممايجري في وطننا العربي، ربيعاً.. كما تختتم هذه المقالة سطورها.
8/8/88 يومٌ لا كالأيام
محمد عياش الكبيسي
في مثل هذه الأيام وبالتحديد في يوم 8/8/88، توقفت الحرب العراقية الإيرانية والتي استمرت ثماني سنوات! وقد كان يوما مختلفا بدلالاته الكبيرة وتداعياته المتواصلة، كما كان مختلفا ومتميزا حتى في تسلسل أرقامه يوما وشهرا وسنة!
وبعيدا عن القراءات السياسية المختلفة وربما المتناقضة لتلك الحرب وأسبابها، فإن هناك كما هائلا من الأحداث والمعلومات التي قد تساعدنا في تحليل المشهد الذي نعيشه اليوم، خاصة في نقاط التماس مع المشروع الإيراني الذي بدأ بالبروز بشكل أشد خطورة في سوريا وربما اليمن والبحرين، إضافة إلى الساحة العراقية التي كان لها السبق بحكم الجغرافيا والتاريخ أيضا.
عاش الخميني في مدينة النجف العراقية ردحا طويلا من عمره وكان محل احترام العراقيين هناك على المستوى الرسمي والشعبي باعتباره رجل دين وضيفا ولاجئا، وكان يمارس دوره السياسي المعارض لحكومة الشاه بشكل أو بآخر، ثم غادر العراق متوجها إلى باريس، ومن هناك بدأ تأثيره الواضح في أحداث الثورة الإيرانية التي تمكنت أخيرا من إسقاط الشاه والمجيء به زعيما جديدا لإيران.
كان الحدث مزلزلا على مستوى المنطقة وربما العالم، وكان مربكا أيضا لكل المراقبين، وكانت أغلب التحليلات تتمحور في اتجاهين متناقضين: الأول وهو الأقوى في ذلك الوقت خاصة في الأوساط الإسلامية، حيث رأت فيه ثورة إسلامية ناجحة بوجه «الاستكبار العالمي» و «الشيطان الأكبر»، بينما يذهب الاتجاه الثاني إلى أن هذه الثورة هي الأداة الجديدة للشيطان الأكبر نفسه، يستند التوجه الأول إلى الكم الهائل من الشعارات التي أنتجتها الماكينة الدعائية للثورة، ثم التخوفات التي تصدر تباعا عن الحكومات الغربية، بينما يستند التوجه الثاني إلى بعض الخطوات العملية للغرب والتي أسهمت بإضعاف الشاه وتوفير بعض التسهيلات لقادة الثورة ومنهم الخميني نفسه، وقد عضد هذا التوجه ببعض المعلومات المسرّبة عن تبني البيت الأبيض لاستراتيجية «توازن القوة بالكثرة»، حيث تقضي هذه الاستراتيجية بإحداث حالة من التوازن بين الكثرة السنّية والقوة الشيعية، ويقال إن هذه الاستراتيجية تبلورت بشكل واضح بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وظهور الصحوة الإسلامية كتحد جديد للغرب.
بادرت الحكومة العراقية بإرسال برقية تهنئة للنظام الإيراني الجديد، إلا أن الخميني رد برسالة مطولة تتضمن تهديدا «بتفجير الوضع في العراق»، وختمها بقوله «والسلام على من اتبع الهدى»، وهي التحية التي وجهها الرسول صلى الله عليه وسلم في رسائله المعروفة للملوك غير المسلمين، مما يعني تكفيرا ضمنيا لحكومة بغداد، وقد قامت كل الصحف العراقية بنشر رسالة الخميني هذه رغم ما تضمنته من تكفير وتهديد! ثم قام الخميني مستعجلا بخطوات كبيرة لتنفيذ تهديداته، ومنها إعلانه رسميا بانطلاق «ثورة العراق الإسلامية» وتنصيب محمد باقر الصدر زعيما لها! مما أدى إلى اعتقال الصدر من قبل القوات الأمنية ثم إعدامه، وقد سمعت عن بعض الشيعة الصدريين من يتهم الخميني بتعمده لما جرى لزعيمهم!
تسارعت الأحداث وتطورت إلى مواجهات بين حزب البعث وحزب الدعوة المدعوم من إيران والذي ينتمي إليه رئيس الحكومة العراقية الحالية نوري المالكي، حتى وصل الأمر إلى اشتعال الجبهة على الحدود العراقية الإيرانية قبل الإعلان الرسمي للحرب بأسابيع، وأذكر هنا يوم استقبلنا في الجامع الكبير لمدينة الفلوجة جنازة لأحد الجنود العراقيين والذي قتل على الحدود مع إيران قبل إعلان الحرب بأسبوعين تقريبا.
نشبت الحرب الشاملة بين البلدين على حدود تزيد على 1200كم وبعمق شمل أغلب المحافظات والمدن وقطاعات الحياة المختلفة في كلا البلدين، وكانت الحرب تميل بشكل واضح لصالح العراقيين، حيث تمكنوا من عبور نهر الكارون واجتازوا مدنا هامة مثل المحمرة وقصر شيرين، ورغم هذا كان العراقيون يعلنون أكثر من مرة وقفا لإطلاق النار ومن طرف واحد، إلا أن الخميني كان يصر على الحرب لأنها الطريق الوحيد لتحرير القدس!
كان باستطاعة الخميني أن يوقف نزيف الدم «الإسلامي» من السنة الأولى! لكنه زاد على هذا في استهدافه للمدنيين ومنذ الساعات الأولى لإعلان الحرب، وأذكر في صبيحة اليوم الأول كيف قصفت الطائرات الإيرانية الأحياء السكنية في مدينة الفلوجة، حيث أبيدت أكثر من عائلة بنسائها وأطفالها، وأما طريقة تعامل «الجمهورية الإسلامية» مع الأسرى العراقيين فهذا ملف يحتاج إلى دراسات أوسع وأعمق، كل هذا وغيره منح العراقيين خبرة تفصيلية عن الجيران الجدد ومشروعهم الواسع في «تصدير الثورة». كان العرب منقسمين في هذه الحرب على محورين: المحور الداعم للعراق «السعودية والخليج ومصر والأردن واليمن»، والمحور الداعم لإيران «القذافي والأسد»، وحين تمكن العراق من تحقيق تفوق نوعي عبر تطويره لصواريخ سكود أو «الحسين» والتي تمكنت من دك أهدافها في طهران، قام القذافي وحافظ الأسد بمد إيران بصواريخ مشابهة تمكنت بها إيران من ضرب بغداد لأول مرة في تاريخ الحرب!
من اللافت للنظر هنا انحياز إسرائيل بشكل عملي وسريع للـ «الثورة الإسلامية»، حيث أسهمت مبكرا بإضعاف القدرات العراقية من خلال ضربها لمفاعل تموز النووي، ثم بتقديم السلاح المتطور لإيران عبر صفقات اعترف بها الرئيس الإيراني الأسبق أبو الحسن بني صدر، والذي أكد أنها كانت تتم بعلم الخميني شخصيا!
خرج العراق منتصرا في هذه الحرب ومسلحا بجيش يقرب من المليون مقاتل وبخبرة فائقة وإمكانات تصنيعية هائلة، وكان يمكن أن يكون درعا عربية وحاميا لبوابة العرب الشرقية، لكن العرب والعراقيين منهم كانوا أقل وعيا من هذه المسؤولية التاريخية. تجرع الخميني كأس السم بحسب تعبيره هو فوافق على وقف إطلاق النار، لكن العهد لم يطل حتى نشبت حروب أخرى تجرع العرب فيها كؤوسا أخرى من السم، وكان للعراقيين «المنتصرين» الحظ الأوفى من هذه الكؤوس، ومن الصعب فك الارتباط بين تلك الحرب وبين الحروب اللاحقة، ويمكن قراءة المزيد عن هذه الحقيقة في كتاب (حرب تلد أخرى)، بل هناك من يقول: إن الخميني لم يوافق على وقف الحرب إلا بتعهدات أميركية بتدمير القوة العراقية والتي تشكل مصدر القلق الأساس للولي الفقيه ومشروعه الواسع.
نعم، ربما كان الموقف الأميركي غامضا طيلة السنوات الثماني للحرب العراقية الإيرانية، لكنه لم يعد كذلك فيما بعد، حيث ظهر تبني الأميركان لمخطط مترابط الحلقات يبدأ بالحصار الاقتصادي للعراق وينتهي بتدمير الجيش العراقي وحله بشكل رسمي، ثم تسليم العراق بكل موارده وإمكاناته لإيران.
هل ما زالت أميركا تتبنى استراتيجية توازن «الكثرة السنية بالقوة الشيعية»؟ وهل هذا ما يفسر أيضا سكوت الأميركان عن التدخل الصلف لإيران في المشهد السوري اليوم؟ وعن الدعم اللامحدود الذي يقدمه عراق المالكي للنظام الأسدي رغم ما للأميركان من يد طولى على المالكي وحزبه؟
أيا ما كان الجواب فإن الإدارة العالمية للبيت الشيعي قد قررت مبكرا الركوب على ظهر الاستراتيجية الأميركية هذه لتحقيق مآرب أكثر تعقيدا وأعمق من أميركا وتاريخها وكل مخططاتها، وقد أصبح العرب الطرف الأضعف بين الاستراتيجيتين وكأنهم يعيدون سيرتهم الأولى بين مطرقة فارس وسندان الروم.
حقيقة أن العرب لا يختلفون عن شعوب العالم الحية، وهم قادرون أن يفعلوا الشيء الكثير، وإذا نظرنا إلى تجارب العرب الحديثة فإن فيها كثيرا من التجارب المشجعة، فالعراق مثلا نجح في بناء جيش حديث وفي وقت قياسي حتى صنف أنه الجيش الخامس على مستوى العالم، وما يقدمه ثوار سوريا اليوم يعد مفخرة حقيقية لهذه الأمة، وبين هذه وتلك كانت التجربة الرائعة للربيع العربي في تونس ومصر واليمن، كل هذا يدلل بشكل قاطع أننا قادرون أن ننتج الكثير، لكن كيف نحافظ على هذا الإنتاج وكيف نوظفه في المشروع الأكبر؟ هذا هو ما نحتاجه وهذا هو التحدي..
إننا نستطيع اليوم أن نقدم أنفسنا كشريك مقبول وكمنافس فعال في هذه الحياة، ونستطيع كذلك أن نحمي وجودنا وإنجازاتنا، ولكن كل ذلك لن يكون قبل أن نعرف من نحن ومن هو الآخر، فإن تداخل الخنادق واختلاط العدو الماكر بالصديق الجاهل قد أضرّ بنا كثيرا، وقد آن لنا أن نقرأ تاريخنا وحاضرنا بطريقة أخرى أكثر دقة وأشد جرأة..
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
هناك تعليق واحد:
لاشك أن السيد الكاتب الدكتور محمد عباش الكبيسي بذكائه و خبرته يعلم جيداً أن إهتمامات و شعارات ما يسمى بالربيع العربي منحصرة بموضوع نظرية السلطة بمختلف مستوياتها السياسية و الإجتماعية بتوجه مدني ليبرالي فردي و لا يشغلها قضايا المشاريع الأيديولوجية و الأمنية التي هي أمر لاحق يتقرر في ضوء رسوخ التجربة الديمقراطية عقب إجتياز المرحلة التأسيسية. إن هذا الوقت المستهلك في هذا الإطار هو وقت يعمل لصالح خصوم و منافسي أمتنا بكل تأكيد و في المقدمة من هؤلاء الخصم الإيراني الذي يحقق مشروعه قفزات ضوئية بإتجاه إمتلاك السلاح النووي الذي سيوظفه لأغراض الدفاع الإستراتيجي فيما تعمل بقية أدوات مشروعه على إنجاز المهام الهجومية لبسط النفوذ و السيطرة على عموم مناطق العالم العربي و الإسلامي بأشكال شتى. الدكتور لاشك يعلم جيداً هذه الأمور لكنه ربما أقحم قصة الربيع العربي إقحاماً على هذا الموضوع الأمني مجاراة للسياق العام و الشائع بيننا في هذا الوقت. فقط قد يكون الموضوع السوري من بين قضايا الربيع العربي هو من له صلة مباشرة بالموضوع و ربما هذا ما أضفى تعقيدات كثيرة عليه جعلته دموياً و أخرجته من سياقه و تحمل من جراء ذلك الشعب السوري أحمال كثيرة. مع الأسف العرب لا زالوا يتفرجون على هذا الموضوع متذرعين بكونه شأناً داخلياً رغم أن التدخل الايراني الصريح فيه يخرجه عن هذا الاطار.
تحياتي و تقديري.
إرسال تعليق