وجهات نظر
مصطفى يوسف اللداوي
تعددت الأسبابُ والموتُ واحد، وكأن العرب كان ينقصهم شكلٌ جديد من أشكال القتل والموت، فجاءهم الموت غرقاً في مياه البحر، أو قنصاً على صفحة الماء، أو على ظهور قوارب الهجرة، أو بأيدي المهربين أنفسهم، أو بالتعاون مع المتآمرين عليهم، أو برصاص رجالِ الأمن وخفر السواحل، أو بسكاكين ومدي البلطجية وقطاع الطرق، المهم أن النتيجة أصبحت واحدة، يعرفها المغامرون، وينتظرها ذوو المهاجرين.
فلم يعد يمر يومٌ دون أن تنقل إلينا وسائل الإعلام أخبار غرق مراكب مهاجرين عرب، أو مقتلهم نتيجة إطلاق النار عليهم، أو اعتراض رجال الأمن لهم، ولعلَ جُلَ القتلى هم من المواطنين السوريين والفلسطينيين، من أبناء سوريا ومخيمات اللجوء فيها، الهاربين من الموت إلى الموت، والفارين من القصف إلى الغرق، وكأنهم يستجيرون بالرمضاء من النار، فمن لم يمت في ميادين القتال، قصفاً أو بإطلاق النار، مات غرقاً في عرض البحر، أو غريباً في الطريق إلى بلاد الأحلام والآمال.
المهاجرون الغرقى والقتلى، قد باعوا آخر ما يملكون، ووضعوا بقايا ما كانوا يجمعون، فمنهم من باع بيته وسيارته، أو مصاغ زوجته وحلي أمه، ومنهم من استدان أو رهن أرضه وعقاره، فقط ليجمع كلفة رحلة الموت، ويشتري كفن القبر، ويدفع للحانوتي أجرة حفر قبره ودفنه، بينما كانوا يحلمون أنهم يفرون من الموت، ويهربون من القتل، ويبحثون عن الأمن، ويلتمسون السلامة والأمان، وأنهم برحلتهم سيودعون الخوف، وسيغادرون الرعب، وسيفارقون أصوات القصف، ودوي الانفجارات.
والقتلى أو الغرقى ليسوا شباباً فقط، بل إن منهم أطفالاً صغاراً، وشيوخاً كباراً، وعجائز من النساء، وأُخرَ صبايا وشابات، كلهم يحاولون الفرار بحياتهم إلى دولٍ آمنة، وأراضٍ لا حرب فيها ولا قتل، ولكن الكثير منهم لا يتمكن من الوصول، ولا ينجح في محاولة الهجرة، إذ تترصده عيونٌ أمنية عربية، فتحاصرهم وتداهمهم، وتطلق عليهم الرصاص دون أدنى سبب، وبلا أي مبرر، كما تلاحق مراكبهم الصغيرة الضعيفة الواهية، التي تتقاذفها أمواج البحار وتعبث بها، فتطلق النار عليهم غزيراً، فتقتل بعض من عليها، بينما يموت آخرون ممن يقفزون إلى المياه طلباً للنجاه، ومن ينجُ منهم وتكتب له الحياة، فإنهم يساقون إلى السجون والمعتقلات، ويحجزون في أماكن قذرة، وأماكن احتجازٍ ضيقة، يكبكبون فيها صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، دون مراعاةٍ لحرمة وعيبة، أو احترامٍ لسنٍ أو شيبة، أو رحمةٍ بصغيرٍ أو ضعيف، أو رأفةٍ بمريضٍ أو مصاب، إذ في هذه السجون من شجت رؤوسهم، أو كسرت أطرافهم، أو أصابتهم طلقاتٌ نارية في أنحاء مختلفة من أجسادهم، دون أن يتلقوا شيئاً من العلاج، أو أبسط وسائل الرعاية والاهتمام.
أما الذين يطلقون النيران العمياء فتصيب من شاءت، دون تمييزٍ أو تحرزٍ وحذر، وبغزارةٍ لا ضرورة لها، فإنها أجهزةٌ أمنيةٌ عربية، لا ضوابط تحكمها، ولا قوانين تلزمها، ولا يهمها عدد القتلى ولا جنسياتهم، ولا تبالي بحال الجرحى ولا حقيقة اصاباتهم، وهي تعرف أن المهاجرين إنما هم من الجنسية الفلسطينية ومعهم بعض السوريين، ممن لا مكان لهم، ولا يوجد من يستقبلهم من الدول العربية، أو يرأف بهم وبأحوالهم، ومع ذلك فإن خفر السواحل العرب، يستعجلون موتهم، ويلحون في قتلهم، وقد كان يكفيهم أن يتركوهم وشأنهم، وأن يغضوا الطرف عنهم، فقد رحبت بهم ألمانيا ودول شمال أوروبا، التي فتحت أبوابها على مصاريعها لتستقبل المهاجرين الفارين من الموت، فكانت أكثر شهامةً ومروءةً من كثيرٍ ممن أوصدوا أبوابهم، وأغلقوا حدودهم، ومنعوا بتعليماتٍ مشددة المسافرين الفلسطينيين والسوريين من الدخول إلى بلادهم، أو العبور فيها إلى دولٍ أخرى.
الغريب في الأمر أن الدول الأوروبية، بما فيها إيطاليا وأسبانيا والبرتغال واليونان، وهي التي تعاني من أزماتٍ اقتصادية، وتشكو من ظروفٍ حياتية قاسية، إلا أن أمن هذه البلاد لا يقتلون مهاجراً وطأ أرضهم، ولا يتخلون عن آخر يصارع الموت غرقاً، بل إنهم يسيرون خفر السواحل، ويحركون القوارب والدوريات البحرية، يجوبون عرض البحر، يلتقطون كل مهاجر، ويساعدون كل مركب، ويقودون من نجح منهم بالوصول إلى شواطئهم، لا يقتلونهم، ولا يردونهم، ولا يحبسونهم، ولا يمنعون عنهم الماء والطعام، ولا يجبرونهم على النوم فوق الأسفلت، في الأماكن العامة، أو في بلوكاتٍ ضيقة، يجمعونهم فوق بعضهم كعلب السردين، بل تأتي لجانٌ مختصة، تحصيهم وتسجلهم، وتتعرف على ظروفهم وأوضاعهم، وتعالج المريض منهم، وتتابعهم بإنسانية، وتشرف على أوضاعهم بمسؤولية، والأهم أنها لا ترد أحداً، ولا تطرد طارقاً لبلادهم.
قد كان بإمكان العرب العاجزين عن الإيواء، والرافضين للاستضافة والاكرام، الغريبين في السلوك والممارسة، والمخالفين للتقاليد العربية الأصيلة والعادات النبيلة، أن يخلوا سبيل المهاجرين، وألا يعترضوا طريقهم، وألا يدلوا عليهم، وألا يسمحوا لمهربٍ بأن يبتزهم، أو يسرق أموالهم ويسيطر على متاعهم، وألا يحموا قطاع الطرق والبلطجية، ويسهلوا عمليات الاعتداء على المهاجرين الضعفاء، الذين لا يلوون على شئٍ من بلادهم، ولا يفكرون بالإضرار بأمنهم، أو الاعتداء على مصالحهم وممتلكاتهم، بل إنهم يدفعون لهم بسخاء، ويعطونهم أكثر مما يجب، فقط ليأمنوهم من المكر والخديعة، ويطمئنوا معهم إلى سلامة الوصول، فلا غدر ولا خيانة، ولا سرقة ولا احتيال، ولا تآمر ولا تسليم لهم.
إنها انذاراتُ خطر، وصافراتُ استغاثة، وصيحاتُ نصرة، واشاراتٌ مخيفة ومرعبة، فشبابنا يموتون، وأطفالنا يغرقون، وأمتنا تتمزق وتتبعثر، ويوماً بعد آخر يزداد اليأس، ويتعمق القنوط، ويتسع الخرق، وتتداعى أوصال الارتباط وخيوط الوصل بالأوطان وقضاياها، فهل يكون الغرباء بنا أكثر رحمة ورأفة، فيمدون لنا بالإحسان يداً، كنا نتمنى أن تكون يداً عربية أو مسلمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق